عمر كوش
ما إن انتهت جولة أستانة الثانية عشرة، في 26 إبريل/ نيسان المنصرم، حتى بدأ مسؤولون كبار في النظام الروسي يتوعدون مناطق محافظة إدلب السورية بشن عمليات عسكرية ضد “التنظيمات الإرهابية”، وتذكير سكانها بمصيرٍ مشابه لمصير غوطة دمشق الشرقية والجبهة الجنوبية في درعا، وقبلهما مصير أحياء حلب الشرقية، بوصفها المحطة المفصلية المدشنة مسار أستانة برمته، والذي نهض على مبدأ الاستفراد عسكرياً بمناطق المعارضة، بغية قضمها والسيطرة عليها واحدةً بعد الأخرى، وبُني وفق تفاهمات المصالح والنفوذ بين رعاته الثلاثة، الروس والأتراك والإيرانيين، ودُشنت بدايته على أنقاض أحياء حلب الشرقية، بعد قصف همجي روسي، واجتياحها من مليشيات النظام الروسية ومليشيات نظام الملالي الإيراني الطائفية، وتهجير من تبقوا من سكانها ومقاتليها تهجيراً قسرياً إلى مناطق في إدلب وريف حلب الشمالي.
وعلى الرغم من تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عقب انتهاء جولة أستانة أخيرا، والذي أكد فيه أن “هجوماً شاملاً في إدلب ليس بالأمر العملي في الوقت الراهن”، إلا أن الإصرار الروسي على ذريعة القضاء على “الجماعات الإرهابية” يجعل من الصعب إيجاد ما يؤكد كلامه على الأرض، وأن كابوس الكارثة الإنسانية الذي كان يخيم فوق رؤوس مدنيي إدلب ومحيطها، منذ بداية مسار أستانة، ليس مستبعداً، خصوصا أن بوتين دعا، في أكثر من مناسبة، إلى “إبادة كاملة لجميع الإرهابيين في سورية”، الأمر الذي يبقي احتمال العمل العسكري الكارثي قائماً، ويجعل من اتفاق سوتشي في سبتمبر/ أيلول الماضي بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بويتن، مجرد تأجيل مؤقت له، وحان وقت تنفيذه، حيث تشير الهجمات العسكرية التي تقودها مليشيات النظام الروسي، إلى أنها تتبع، في هجماتها الحالية، خطة مشابهة للتي شنتها عام 2018 في مناطق ريفي حماة وإدلب المعروفة بمناطق “شرقي السكة”، من حيث القصف الجوي العنيف والتقدم البطيء، بغية قضم المنطقة، ولكن اللافت أن “هيئة تحرير الشام” التي يتخذ الساسة الروس من محاربتها، وضرورة القضاء عليها، ذريعة لشن هجماتهم في ريف حماة الشمالي وسواه، لم تدخل في مواجهة عسكرية حقيقية معهم، بل تبدو وكأنها مرتاحة لاستنزاف ما تبقى من فصائل الجيش الحر، المدافعة عن المنطقة، مثل “جيش العزة” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، ويتشرّط قادة الهيئة كثيراً على فصائل المعارضة للدخول جدياً في معركة ريف حماة الشمالي، إضافة إلى منعهم استقدام أي تعزيزاتٍ من فصائل “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، الأمر الذي يشي بأن الهجمات الروسية الحالية ليست موجهة، مثلما يدّعي الساسة الروس، ضد جبهة النصرة والفصائل المصنفة إرهابية، بل ضد ما تبقى من فصائل الجيش الحر في ريف حماة وجنوبي إدلب وسواهما.
ويشير الصمت التركي حيال ما يجري من عمليات عسكرية في ريف حماة وجنوبي إدلب، وحديث الخارجية الروسية عن التنسيق مع الأتراك، إلى ترتيبات وتفاهمات لتقاسم النفوذ بين رعاة أستانة، وتدعم ذلك تصريحات نائب الرئيس التركي، فؤاد أوكتاي، أخيرا، واعتبر فيها أن تل رفعت أصبحت مرة أخرى نصب أعين القادة العسكريين الأتراك، مبرّراً ذلك بالقول إن “الاتفاق بالنسبة لنا هو التوقف هناك (أي عند تل رفعت)، ولكن في حال استمرار تلك الهجمات، فقد يتخذ ذلك شكلاً آخر، وإننا نناقش ذلك مع روسيا”، ما يعني أن اتفاق روسيا وتركيا بشأن الوضع في إدلب وجوارها يجسّده تقاطع المصالح بين البلدين في سورية، واستفادة كل طرف منه.
وعلى الرغم من أن هجمات القوات الروسية ومليشيات النظام قد بدأت، منذ أكثر من أسبوعين، وأسفرت عن تدمير معظم المراكز الصحية، ونزوح أكثر من 200 ألف مدني، وسيطرت فيها على قرى وبلدات عديدة، أهمها كفرنبودة وقلعة المضيق، إلا أنها لن تصل إلى حدّ الاجتياح الكامل لإدلب وجوارها، حسبما كشف المبعوث الرئاسي الأميركي في التحالف الدولي ضد “داعش” وفي الملف السوري، جيمس جيفري، ما يعني أنها ستقف عند حدود جرى التفاهم عليها مسبقاً، وفق مخرجات مسار أستانة بين الروس والأتراك والإيرانيين، وبعلم الأميركيين، وبما يجعل لمليشيات النظام الروسية موطئ قدم في إدلب ومحيطها، مقابل السماح لتركيا بتوسيع منطقة نفوذها الحالية أكثر باتجاه تل رفعت وما بعدها، لكن فتح معركة إدلب ومحيطها على مصراعيها سيشكل مهمة صعبة بالنسبة للروس، ولحليفَيهم نظامَي الأسد والملالي الإيراني.
استجرت تفاهمات محور أستانة الويلات على السوريين، وخصوصا على مناطق المعارضة، وما يجري في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي هو استكمال تنفيذ تلك التفاهمات، في غياب أي موقف دولي رافض. وبالتالي، يريد الساسة الروس الذين فضلوا التوافق مع الساسة الأتراك، حيال الوضع في إدلب ومحيطها، من هجماتهم الحالية، تأمين قواعدهم العسكرية في مطار حميميم وسواه من أي أخطار، مقابل إرضاء هواجس الطرف التركي الأمنية، حيال الوجود الكردي، الممثل في مليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في تل رفعت وجوارها، ما يعني إعادة ترسيم حدود مؤقت بين المعارضة ونظام الأسد، وبين النفوذين الروسي والتركي، وذلك على حساب السوريين، بوصفهم الخاسر الأكبر.
المصدر: العربي الجديد