دلال البزري
ينتصر حزب الله بلا هوادة. أكثر من عقدٍ مرّ على انتصاره التاريخي، الاستراتيجي، الإلهي ضد إسرائيل. تلاه انتصار أعظم، ضد الشعب السوري، وما توسّطهما من انتصاراتٍ أصغر، أقلّ عظمة، أقل إقليميةً أو أكثر. وكل مرة، يكون لانتصاره طعم القبض على مفاصل البلد الذي يُفترض أنه ينتمي إليه. ينتصر من هنا، فتضعف حصانة لبنان، ويضعف معه شعبه وسياسيوه الطامحون دوماً إلى الاحتفاظ بشيء من حكمهم، مهما تهلْهلَ وتبهْدلَ، مهما تبّلدَ. ولا تمرّ إشارةٌ في اليوم الواحد من دون التأكيد على انتصار حزب الله على لبنان، أيضاً، بعد انتصاره على إسرائيل والشعب السوري، فيتأكد حكمه لبنان، أو كما يقول المعلّقون، تتأكد وراثته النظام السوري في حكم لبنان. هكذا، هو الذي يقرّر كل شيء، أو يفوّض حليفاً لينفذ ما يقرّره: من أصغر الحوادث الأمنية، أو القضائية، إلى تعيين (لا انتخاب) رئيس الجمهورية، وتحديد الحصص من الدولة، مغارة علي بابا، من أعلى مناصبها، وحتى أصغرها. مع التأكيد دائما على حصة الكبير، أي الحليف الذي رسم على وجه الحزب قناع المنفتح على كل الطوائف، كل المذاهب، تحت شعار “تحالف الأقليات”، فلا مجال بعد تجربةٍ تزيد عن العقد إلا الإقرار بأن حزب الله هو الآن الحاكم الآمر الناهي في لبنان. كل البلاد تحت إمرته، بمن فيها الخصوم الذين كانوا يصْدحون بالأمس بالاستقلال والسيادة؛ وصاروا الآن يهمسون بـ”التسوية” مع حزب الله، كمن أصابه وسْواس التسليم: لا يقطعون خَيطا من دون أن يأخذوا في حسابهم، من أن يقدّروا، من دون أن يفهموا، موقف الحزب من هذا الخَيط.
ومع هذا المجد، تجد البلاد تهرْول سريعاً نحو قعورٍ جديدة، تكاد سرعة السقوط فيها تحرف النظر إليها؛ أو ربما الاعتياد على التساقط، كل يوم أعمق، في مظالم العتْمة والشلل والعوز، بأبعادهم مترامية الأطراف. هل نحتاج إلى أمثلةٍ لتقوية الحجة؟ هل نحتاج إلى قياس الفلتان، والفساد، والخرابة المعمَّمة… إلى ما يسمّى “ميزانية الدولة”، من دون قصد الإضحاك؟ تلك القروش التي لمْلَمها وزراء الميزانية من جيوب المواطنين، النازلين بمعيشتهم، يوماً بعد آخر، كمن ينزل إلى المهوار.. والتي ما كان يمكن أن ترى النور، لولا موافقة الحزب الحاكم.. المزيد؟ تحتار أصلاً من أين تبدأ.
هذا تدهور بأوجه لا تُحصى. تكاد تعتاد عليه، وتسلِّم بأنه القدر الذي ينذر ولا يعِد. حتى الإعلام الناطق باسم حزب الله يضيق ذرعاً بهذا الذي أصابَ الواقع إصابةً بائنة، لا مجال للتعامي عنها. فـ”يغضب” من جديد، كما كان غاضباً في شبابه، حاملاً “المظلومية” على أكتافه: يصرخ بوجه هذا الواقع المتردّي، يصفه بأبشع الصور، لا يمكنه التغافل عن تجاوزات حلفاء لطّخوا سمعة النظافة والوطنية، وما شابه من أوصاف حميدة، يرفعها حزب الله بأيقونية لا تنضب، فترفع “المظلومية” القديمة من جديد. انظر إلى المفارقة: مظلومية من يُمسك بتلابيب السلطة، أعلى سلطة، تلك التي تقرّر الحرب والسلام. تلك التي تملك صواريخ تتحدّى بها الخصوم الإقليميين والدوليين؛ فما بالك بالخصوم المحليين؟
لكنه إعلامٌ “ذكي” أيضا. كل هذا البلاء ليس من مسؤولية الحزب الذي يحتفي إعلامه ليل نهار بانتصاره على الكون كله. مثل أي إعلامٍ حكومي عربي، هو مضطرٌ أن يعترف بمصائب البلاد. لكن المسؤولية لا تقع على الحاكم، حزب الله، إنما على شركائه الضعفاء في المحاصصة، المذعنين لجَبَروته: ودائما ما يكونون، هؤلاء، وتاريخياً، ضد الشعب المسكين، الفقير.. الذي لم ينسه الحزب الحاكم في دعائه وابتهالاته، وتبثّها محطّاته الإذاعية، في هذا الشهر الفضيل، وبلسان أمينه العام، حسن نصر الله. وعندما يتجاوز الحلفاء حدودهم، هم الذين يستقوون بالحزب الذي رفعهم إلى السماء في مقابل “دعمهم سلاحه”، يضطر هذا الإعلام لتعنيفهم؛ كلمات تصف تجاوزاتهم، وتعاظم قوتهم وأذاهم. ومن دون أن يطرح هذا الإعلام على نفسه، ولا لحظةً واحدة، السؤال الأصلي: ما مصدر تلك القوة، تلك الحرية المطلقة بتخريب البلاد. كأنه لا يعرف.
في الماضي القريب، عندما كنا نقول إن البلاد ذاهبة نحو الهلاك، إن الفساد والنفايات والفلتان والبطالة والتلوث… و… و… بما لا يعوز التذكير، كان هذا الإعلام الممانع يردّ على الذين يطالبون الحزب الحاكم بالتدخل وتصحيح الاعوجاج: إن الحزب مشغول بمقاومة الإمبريالية والصهيونية والإرهاب، ولا طاقة له على “النضال” على الجبهتين. ولكن الحزب، بعدما انتصر، مرة أخرى، في سورية، قرّر الانكباب على هذه المسائل. وكان إعلان أمينه العام المدوّي أن عنوان هذا الانكباب هو “الإصلاح ومحاربة الفساد”. وكانت أولَ فصول هذه المحاربة خصم سياسي قديم، فرحت به الجموع المحشودة المعبأة ضده منذ سنوات. وكانت أولى الدعسات الناقصة وآخرها، فـ”محاربة الفساد” لا تعني سوى الإسراع بغرف ما تبقى من خزينة الدولة، قبل أن تفلس تماماً؛ ما يعوّض عن انخفاض التمويل الإيراني لخزينة الحزب الخاصة.
ما هو نوع الحكم هذا الذي يمارسه حزب الله على اللبنانيين؟ هل هو حكم “شبح”، كواليسي، غير مصرّ على تصدّر الأدوار، بل دافعا حلفاءه إليه؟ هل هو حزبٌ يكتفي بخطاب أمينه العام من خلف شاشة عملاقة، وحشد الجماهير المضحّية بروحها من أجله؟ هل “شبحية” هذا الحزب تمنعه من أن يحكم؟ أن تساعده على الحكم؟ ولماذا يحتاج إلى ممارسة هذا التناقض، بين وجود صارخ، يتجاوز الحدود الوطنية، وصمتٍ مريب، أو ديماغوجيا صاخبة؟
أم هو حكمٌ لا يريد أن يحكم؟ أي لا يريد إدارة شؤون البلاد. يتركها لحلفائه النشطين الطموحين، لكي يتفرّغ هو للمسائل الأعظم، الإقليمية والدولية؟ وهذا ما تلمسه من خطاب أمينه العام، حسن نصر الله، أخيرا، والذي ينعطف عن معركة الإصلاح ومحاربة الفساد، الداخلية، التي احتفل بها منذ شهرين، ليتوعّد أميركا بصناعة صواريخ دقيقة، و”داعما” بذلك إيران في “شدّ حِبالها” معها. وهو بالتالي، لا يملك وقتاً، ولا طاقة، إلا للتحكّم؟ وهو عكس الحكم، وأسهل منه. الأخير هو إدارة شؤون البلاد، والأول، أي التحكّم، هو التصرّف كما يشاء، كما يريد، بمصير البلاد، على أساس أنها أرضٌ سائبة. والتحكُّم مهمة إستراتيجية، لها الأولوية، به يحمي حزب الله حُماته الإيرانيين، في نزاعهم مع الشيطان الأكبر على نفوذهم الإقليمي. أم أن الحزب يريد بصدق أن يحكم، ولكنه لا يعرف كيف، فالسنوات السابقة قضاها على الجبهات، وربما يقضي اللاحقة منها أيضا. مهاراته عسكرية، وإن سمّي “مليشيا”؛ إنها عسكرية مليشياوية. والأوامر، تأخذها هذه المليشيا من قيادتها الإيرانية. وهذا ليس سراً. فكيف لمليشيا أوجدتها السياسة الخارجية لبلد آخر، أن تحكم؟ أن تعرف كيف تحكم؟ أن تتعلم فنون الحكم، أو تتمرّس عليها؟
المصدر: العربي الجديد