ياسر الحسيني
لم يذهب المتظاهرون الثائرون على نظام بشار الأسد إلى مؤسسات الدولة ليخرّبوها ـكما كان يدّعي النظام ـ وإنّما اتجهوا إلى الساحات العامة ليحطموا (الصنم)، وإذا كان هناك بعض التعديات على الدوائر الرسمية فهي لم تتجاوز واجهة المباني التي تغطيها صور حافظ الأسد وابنه بشار لتمزيقها. لقد كان الهدف واضحاً للمتظاهرين ولا لبس فيه.
حافظ الأسد الذي استولى على الحكم عام 1970م بانقلاب عسكري أطلق عليه اسم ” الحركة التصحيحية “ولعلّ الكثيرين لم يسمع بهذه التسمية من قبل، على الرغم من أنّها قامت ليس بعيداً عنّا لا زمانياً ولا مكانياً، فلقد سبقه إليها اليهودي الصهيوني فلاديمير زئيف جابوتنسكي.
هل من باب الصدفة المحضة أن يختار حافظ الأسد اسم ” الحركة التصحيحية ” لانقلابه على رفاقه في حزب البعث العربي الاشتراكي وزجّهم في السجن؟ أم أنّها رسالة مشفّرة لم يكن أحد ممّن عاصر الانقلاب قد استطاع فهمها أو فكّها!
ولد جابوتنسكي عام 1880م في أوديسا / روسيا من أسرة يهودية وتوفي والده وهو في السادسة من عمره، وعمل في سنّ مبكرة كمراسل لبعض الصحف الروسية ثم سافر إلى سويسرا وإيطاليا حيث درس القانون هناك. وبدأ نشاطه السياسي عام 1903م بحضوره المؤتمر الصهيوني السادس ليتعرف عن كثب على (تيودور هرتزل) * وكان ذلك المؤتمر هو الأول لجابوتنسكي والأخير لهرتزل.
عندما حدث انقلاب الاتحاديين الأتراك ضدّ السلطان عبد الحميد الثاني 1908م ( وكان جابوتنسكي قد أنهى دراسته ) أرسل إلى رؤساء تحرير صحيفة ( راز سفيت ) الناطقة باسم الاتحاد الصهيوني الروسي ـ الأوكراني أن ينتدبوه إلى اسطنبول لتغطية الانقلاب، فانتقل إلى تركيا ليتولى الإشراف على الصحافة الصهيونية (1909ـ 1911 ) م .سافر بعدها إلى الاسكندرية والتقى ( يوسف ترومبلدور )(1) اليهودي واستطاعا معاً إقناع السلطات البريطانية بتكوين وحدات يهودية مقاتلة شكّلت فيما بعد ( الفيلق اليهودي ) الذي حارب الى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وأصبح جابوتنسكي قائداً للفرقة ( 38) التابعة للفيلق وشارك مع القوات البريطانية في احتلال فلسطين .
انتخب في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية عام 1923م بعد أن أفرج عنه من سجن عكا بسبب مشاركته بأعمال عنف ضدّ العرب الفلسطينيين في أحداث (النبي يونس) عام 1920م. ثم ما لبث أن استقال من اللجنة ليؤسس حركة (بيتار) التي فرّخت حركات اليمين الصهيوني مثل (حيروت) و (الليكود).
وفي عام 1925م أعلن عن تأسيس ” الحركة التصحيحية الصهيونية ” وأهدافها النهائية في فلسطين [إقامة دولة قومية ذات أغلبية يهودية في فلسطين على ضفتي النهر الشرقية والغربية].
ويعتبر جابوتنسكي بالنسبة لمعظم الزعماء الصهاينة ولفئات مختلفة من المجتمع الإسرائيلي مرشداً وأبًا روحياً وسياسياً حتى يومنا هذا.
ولعل أبرز مقالاته التي كان ينشرها في صحيفة (راز سفيت) (2) هي مقالة ” الجدار الحديدي ” والتي يرى فيها ضرورة ايجاد قوة عسكرية قوية ومستقلة مهمّتها إقناع العرب بتفوّقها وأنهم لا يستطيعون مواجهة اليهود أبدا.
كان يريد جابوتنسكي من هذه القوة أن تعمل كجدار نفسيّ (أسماه حديدياً) وليس جداراً فيزيائياً كما نراه اليوم وكما نفذّه تلامذته من زعماء إسرائيل (جدار الفصل العنصري).
وحده حافظ الأسد الذي استطاع أن يترجم ” الجدار الحديدي ” كما أراد جابوتنسكي، فقد أنشأ قوات عسكرية قوية ومستقلة عن وزارة الدفاع وهي (سرايا الدفاع) التي ورثت مهام الحرس الثوري البعثي (الحرس القومي) بقيادة شقيقه رفعت الأسد، و(سرايا الصراع) بقيادة عدنان الأسد، وكانت أشبه بالقطعات العسكرية ذات الامتيازات الخاصة، وبالطبع تحظى باستقلالية تامة وإن تبعت ” شكلياً ” وزارة الدفاع.
حتى عام 1980م لم يكن السوريون يدركون جيدا أن مؤسسة الجيش اخترقت عمليّاً بميليشيات تتبع نظريّاً لها. وفي المواجهة بين النظام والأخوان المسلمين تكشفت الحقيقة، وكان ” أبطال ” تلك المرحلة هم:
رفعت الأسد قائد (سرايا الدفاع) وعدنان الأسد قائد (سرايا الصراع)، علي حيدر قائد (الوحدات الخاصة)، شفيق فياض قائد (الفرقة الثالثة)، إبراهيم الصافي قائد (الفرقة الأولى). هذه كانت تشكيلات النخبة المحسوبة نظرياً على الجيش، أما موازنتها وتحركاتها وأوامرها فتُقرّر بمعزل عن وزارة الدفاع. وكان التفريق يتم بينها وبين ما تبقى مما يسمى جيشاً بوصف الأخير ” جيش أبو شحاطة ” نظراً إلى سوء حاله تسليحاً وتدريباً وصولاً إلى الهندام.
وأصبحت فكرة ” الجدار الحديدي ” التي ابتكرها جابوتنسكي ليطبقها في فلسطين راسخة في نفوس السوريين منذ1980 م بعد المجازر التي ارتكبتها تلك القوات في كل من حماه وحلب وجسر الشغور ومجزرة سجن تدمر والعديد من المجازر بحق المدنيين العزل. لقد نفّذ حافظ الأسد تعاليم الأب ” المعلّم ” بحذافيرها.
أمّا خديعة ” الجيش العقائدي ” فقد انكشفت منذ اتفاق حافظ / شارون 1976م لضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان ومجزرة (تل الزعتر) (3) للاجئين الفلسطينيين.
” الحركة التصحيحية ” و ” الفيلق الخامس ” و” الجدار الحديدي ” وحتى تسمية ” السرايا ” هي جميعها مستمدة من أفكار وتعاليم (المعلم) فلاديمير زئيف جابوتنسكي الذي يعدّ الأكثر تطرّفاً في تاريخ الحركة الصهيونية.. فهل كان كلّ ذلك مصادفة؟ أم أن الأمر أعمق بكثير ويطرح جملة من التساؤلات لعلّ أبسطها:
((هل كان جابوتنسكي أباً روحياً لحافظ الأسد؟)).
* تيودور هرتزل (1860ـ 1904) م: مؤسس الحركة الصهيونية، مؤلف كتاب دولة اليهود.
(1) يوسف ترومبلدور (1880ـ 1920) م: ضابط في الجيش الروسي القيصري، فقد ذراعه اليسرى في المعارك مع اليابان وأسس كتيبة البغالة اليهودية 1915م، قتل في فلسطين 1920 م.
(2) صحيفة (راز سفيت): مقرها برلين، ناطقة باسم الاتحاد الصهيوني الروسي ـ الأوكراني، تعرضت لمشكلات مالية وتنظيمية فقرر جابوتنسكي نقل مقرها إلى باريس وأصبحت ناطقة باسمه.
(3) (تل الزعتر): مخيم للاجئين الفلسطينيين، يقع في المنطقة الشرقية الشمالية من مدينة بيروت. تم حصاره من قبل القوات السورية وقوات الكتائب اللبنانية لمدة ثلاثة أشهر منذ حزيران 1976م حتى سقط، ثم قامت الميليشيات المسيحية اليمينية بتنفيذ مجزرة مروعة راح ضحيتها ثلاثة آلاف فلسطيني ذبحاً بالسكاكين تحت مرأى القوات السورية.
المراجع:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة ج7.
ـ سامي علي عبد القادر: تاريخ الحركة الصهيونية التصحيحية (1925ـ 1948).
ـ نبيل شبيب: دراسات (الجزيرة).
ـ عمر قدور: دراسات (الحياة).