دياب سرية
شهدت الأيام الماضية حملة قوية عبر منصات التواصل الاجتماعي تستهدف حذف منشورات وصور وفيديوهات، لمغني الثورة السورية عبد الباسط الساروت، إثر مقتله في احدى معارك ريف حماة الدائرة بين قوات المعارضة السورية من جهة، والنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة ثانية. وعبّر كثير من المثقفين والناشطين السوريين عن انزعاجهم من هذه الحملة الممنهجة التي استهدفت رمزاً من رموز الثورة، استطاع بعد مقتله توحيد السوريين المعارضين على اختلاف انتمائهم الفكرية والأيديولوجية.
وفيما تضاربت الآراء حول هذه الحملة ومن يقف خلفها، حيث نسبها البعض إلى “الجيش السوري الإلكتروني” والبعض الآخر نسبها إلى “فايسبوك” نفسه مدعياً أن الساروت مصنف ضمن الشخصيات الإرهابية وغيرها من قصص وآراء، إلا أنه قبل معرفة سبب حذف بوستات الساروت من “فايسبوك” يجب التعرف على آلية عمل “كيانين” مهمين. الأول هو الذباب الإلكتروني (البوت أو الويب روبوت)، والثاني هو آلية مراقبة المحتوى في “فايسبوك” وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي.
الذباب الإلكتروني
هو مجموعة من الحسابات الوهمية يديرها أناس مأجورون أو مجموعة من “الويب روبوت”، بهدف توجيه الرأي العام عبر منصات التواصل الاجتماعي تجاه قضية معينة أو بناء رأي عام يصب في صالح مشغليه، وغالباً ما تخدم هذه الحسابات الوهمية أجهزة حكومية ذات طابع استخباراتي أو أمني.
والحسابات الوهمية التي يديرها ناس مأجورون لا تحتاج إلى شرح كثير، وضمن السياق السوري يمكن القول إن هذه الحسابات تشكل الطريقة التي يعمل بها الجيش السوري الإلكتروني، وهو مجموعة من المبرمجين والتقنيين الموالين للنظام السوري، بعضهم موظف في أجهزة الأمن السورية والبعض الآخر متطوع من دون أجر، يقومون بهجمات إلكترونية بين الحين والآخر تستهدف المعارضين السوريين، أو أي منظمة او فاعلية أو نشاط يصب في صالح دعم الثورة السورية.
يستخدم هذه الطريقة أيضاً بعض الناشطين السوريين المعارضين للنظام، ومنهم الموظفون الذين يتلقون أموالاً مقابل الترويج أو بناء رأي عام بين المعارضين لصالح شخصية سياسية أو تيار سياسي معين، ومنهم وبكل تأكيد الناشطون المتطوعون الذين لا يتقاضوا أي أجر والذين يحاولون أيضاً استهداف الصفحات والحسابات المؤيدة للنظام والتشويش عليها والترويج للثورة السورية بين صفوف المؤيدين أو الدفاع عنها.
الويب روبوت
يعرف بالبوت (Bot) وهي برامج وخوارزميات تحاكي السلوك البشري. وتقوم البوتات بمهام بسيطة ومركبة بصورة متكررة وتلقائية، بمعدل أعلى مما يمكن أن يقوم به الإنسان. وتُستخدم عادة في الأرشفة والفهرسة عبر الإنترنت من ضمن مهام غير معقدة أخرى. لكن هذه البرامج والخوارزميات تطورت بشكل كبير بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وبات هناك ما يعرف بالبوتات الاجتماعية (Social bots)، وهي في بعض جوانبها خوارزمية مصممة لمحاكة السلوك البشري عبر مواقع التواصل، حيث يمكن للبوت الاجتماعي أن يقوم بمهام بسيطة تصل إلى المتوسطة، بما في ذلك القدرة على التفاعل مع المنشورات وكتابة تعليق بسيط رداً على منشورات معينة، علماً أن البوتات الاجتماعية في تطور مستمر حيث باتت قادرة على إجراء محادثة بسيطة مع إنسان حقيقي.
والحال أن هذه البوتات يقودها مبرمجون محترفون يتبعون في الحالة العادية إلى الشركات المشغلة لهم، مثل “فايسبوك” و”تويتر” و”إنستغرام”، وحتى مواقع التسوق الإلكترونية المشهورة مثل “أمازون” و”علي بابا”. لكن في حالة الذباب الإلكتروني فإن الأمر مختلف، حيث يعمل هؤلاء المبرمجون لصالح أجهزة حكومية أمنية أو استخباراتية في الغالب، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية لأن هذه الروبوتات تفوق قدرة البشر على النشر والتعليق والتغريد والتفاعل وحتى التبليغ على حسابات أو بوستات معينة.
ويعني ذلك أن هذه الروبوتات قادرة على جعل هاشتاغ معين يتصدر قائمة التريند الإقليمي خلال ساعات فقط، والتريند العالمي خلال أيام. كما أنها قادرة على استهداف مجموعة من المستخدمين في منطقة معينة، وحرف وجهات نظرهم أو أفكارهم وتشكيل رأي عام معارض وناقد لهم. وهم قادرون على تضليل الرأي العام الإقليمي والدولي، عبر بث دعاية كاذبة تصب في مصلحة مشغليهم أو خلق نزاع بين الشعوب والدول في مواقع التواصل. ومن الأمثلة على ذلك الأزمة الخليجية الأخيرة. علماً أن الاستهداف الأخطر كان خلال الانتخابات الأميركية العام 2016، إذ استطاعت أسراب الذباب الإلكتروني الروسي التأثير في الانتخابات وحشد التأييد لصالح الجمهوريين، وبث دعاية كاذبة ضد الديموقراطيين ومرشحتهم هيلاري كلينتون، وهذا الأمر كشفته تحقيقات المحقق الخاص روبرت مولر، والتي عطلها الرئيس دونالد ترامب نفسه.
بلا وجوه
الأمر بسيط، فغالباً لا يمكن ملاحظة منشورات في الصفحات الشخصية لـ”الويب روبوت”، وحتى معلوماته العامة تكون قليلة جداً وتقتصر على المواليد واسم المدينة والصورة الشخصية التي تكون عموماً مركبة أو غير موجودة. ويمكن متابعة التعليقات أو التغريدات تجاه قضية معينة ومراقبة التفاعل معها وملاحظة سرعة انتشارها الرهيبة، علماً أن ملاحظة تعليقات الحسابات الوهمية أو الروبوتات على سبيل المثال تتخذ نمطاً واحداً. فعند انتقاد المعارضة السورية بمختلف تسمياتها، يمكن ملاحظة الكثير من التعليقات التالية: “كلهم خونة، كلهم حرامية، معارضة فنادق، قبضوا حقها، ثورة إرهابيين، ثورة دواعش، …”. وغالباً ما تكون هذه التعليقات المتكررة من صنيعة حسابات وهمية لـ”روبوتات الويب” حيث أنها لا تستطيع كتابة تعليق طويل أو أسطر عديدة بسبب أمور تقنية بحتة.
شُرطة “فايسبوك”
يعتقد البعض أن هنالك موظفاً يراقب كل التبليغات التي يقوم بها المستخدمون ليتخذ الإجراء المناسب، لكن الأمر ليس كذلك في الواقع، بل هو معقد وتقني بحت ويطول شرحه. لكن ببساطة، يمكن تشبيه الموضوع بأنه قاعدة بيانات كبيرة تحتوي آلاف الكلمات والجمل والتعابير المصنفة والمفهرسة ضمن قطاعات معينة ومعززة بتقنية الذكاء الاصطناعي القادرة على مسح الأصوات والفيديوهات والصور، مع الإشارة إلى أن هذه القطاعات في “فايسبوك” كثيرة جداً، أبرزها: “لغة كراهية، التحريض على العنف، التحرش، المحتوى الإباحي، الأخبار الكاذبة، الإرهاب، التحايل، الانتحار أو إصابة النفس بالأذى”.
وتدار قواعد البيانات هذه بواسطة برامج وخوارزميات تعمل عند التبليغ، أو بشكل آلي، على جمع الكلمات المنشورة في البوست، أو مسح آلي للصورة أو الفيديو أو المقطع الصوتي ومقاطعتها مع البيانات المتوفرة لديها، وفي حال وجود تطابق يتم حذف المنشور أو الصورة أو الفيديو وتوجيه إنذار لصاحب المنشور.
ماذا حصل لبوستات تأبين الساروت؟
الاستهداف الروسي لم ينطلق مع حادثة مقتل الساروت، فهو قديمٌ قدمَ تدخلهم في سوريا، وكان واضحاً في أكثر من مناسبة، منذ تهجير حلب، وصولاً إلى الحملة التي شنها النظام على الغوطة الشرقية العام 2017 والتي أدت إلى تهجير المدنيين الرافضين للتسويات إلى ادلب. وكان كل انتقاد لروسيا والجيش الروسي تحديداً يواجه بالحذف والحظر، وكذلك الأمر مع حملة #منتخب_البراميل التي أطلقها ناشطون سوريون عقب اقتراب تأهل منتخب النظام إلى كأس العام في روسيا العام 2018، حيث حظر “فايسبوك” الكثير من الصور المناهضة لروسيا والمطالبة بسحب استضافتها للمونديال بسبب تدخلها الدموي في سوريا.
والحال أن رحيل الساروت وحَّد السوريين المعارضين على اختلاف توجهاتهم، وأدى تفاعلهم عبر “فايسبوك” و”تويتر” وعبر وسائل الاعلام العربية والدولية، إلى إعادة تسليط الضوء على الثورة السورية، وشكّل رأياً عاماً مناصراً لها ومتعاطفاً معها، وهذا طبعاً لا يعجب النظام ولا الروس.
استشهد الساروت على جبهات القتال في حماة وفي مواجهات مع قوات الاحتلال الروسي وجيش النظام السوري، وهو رمز من رموز الثورة السورية، ومسيرته الثورية هي مسيرة الثورة من السلمية إلى التسليح إلى الجهاد إلى الخسارة ثم الانتقال إلى المقاومة الشعبية. وباختصار فإن الساروت هو رمز حقيقي لما حصل في سوريا، وبالتالي تزعج قصته الروس لأنهم يروجون في خطابهم إلى أنهم لم يتدخلوا في سوريا لقمع مظاهرات سلمية وحراك شعبي مسلّح يطالب بالديموقراطية والحرية، بل تدخلوا لينقذوا سوريا والمنطقة من الإرهاب.
هذه روايتهم على المستوى الدولي، لذلك يزعجهم الساروت كما يزعجهم الدفاع المدني السوري والمنظمات الطبية السورية. وسيقومون بأي شيء لمحو أي أثر إيجابي لهذه الأمور، ومن هنا تنطلق حملتهم المنظمة على منشورات الساروت وغيرها.
المصدر: المدن