أمين العاصي
توشك العمليات العسكرية في شمال غربي سورية على دخول شهرها الثالث، في ظل انخفاض سقف الآمال بالتوصل إلى اتفاق تركي روسي جديد، يعيد الهدوء إلى محافظة إدلب ومحيطها، والتي باتت أغلب مدنها وبلداتها منكوبة بفعل القصف الجوي والمدفعي من قبل الطيران الروسي وقوات النظام السوري. وكانت قوات النظام بدأت، في 27 إبريل/نيسان الماضي، عملية عسكرية، واسعة النطاق، بضوء أخضر روسي عقب فشل الجولة الأخيرة من مفاوضات أستانة، حيث لم يستطع الروس الحصول على موافقة تركية على تشكيلة اللجنة الدستورية المنوط بها وضع دستور دائم لسورية. وبعد تمهيد جوي ومدفعي كثيف، وغير مسبوق، تقدمت قوات النظام ومليشيات تساندها وسيطرت على بلدة كفرنبودة في 8 مايو/أيار الماضي.
وفي اليوم ذاته، سيطرت هذه القوات على بلدة قلعة المضيق وقرى الكركات والشريعة والتوينة وباب الطاقة في ريف حماة الشمالي الغربي عقب انسحاب فصائل المعارضة منها بسبب صعوبة الدفاع عنها، وهو ما أثار خشية الشارع السوري المعارض من تكرار سيناريوهات أحياء حلب الشرقية وغوطة دمشق الشرقية ودرعا والقنيطرة، ما يعني تقدم قوات النظام الى عمق محافظة إدلب. لكن الفصائل امتصّت الصدمة العسكرية الأولى في كفرنبودة وقلعة المضيق، واستعادت المبادرة، ما وضع حداً لتقدّم قوات النظام التي وجدت نفسها في مواجهة آلاف المقاتلين المعارضين المُدربين، حيث استقدمت الفصائل تعزيزات من منطقتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات” في شمال حلب.
وأدركت المعارضة أن الموقف يستدعي تجميع القوى، فشكلت غرفة عمليات واحدة، بعد أن سيطر النظام على 18 بلدة وموقعا خلال أيام، هي مدينة قلعة المضيق، وبلدة كفرنبودة، وقرى الجنابرة وتل هواش والجابرية والتوبة والشيخ إدريس والكركات والمستريحة والتوينة والشريعة وباب الطاقة والحويز والحمرا. وحاولت قوات النظام إعادة تطبيق استراتيجية “دبيب النمل”، لتقضم تدريجياً مناطق في شمال غربي سورية، كما سبق وفعلت في غوطة دمشق الشرقية، وأحياء حلب الشرقية، معتمدة على كثافة النيران، والقصف الجوي. كما اتبع النظام، وحليفه الروسي، سياسة الأرض المحروقة، حيث دمرا كل مظاهر الحياة في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي.
لكن “التوحش” لم يمنع المعارضة المسلحة من إفشال استراتيجية القتال الروسية، حيث استعادت الفصائل زمام المبادرة مرة أخرى، فأعلنت في 7 يونيو/حزيران الحالي، بدء المرحلة الثانية من المعركة على قوات النظام والمليشيات التابعة لها في ريف حماة الشمالي، تحت مسمّى “الفتح المبين”. وكانت المرحلة الأولى بدأت في السادس من يونيو الحالي باندفاعة كبيرة من مقاتلي الفصائل باتجاه مناطق تابعة للنظام في ريف حماة الشمالي، ما أدى للسيطرة على تل ملح، والجبين، وكفرهود، ومدرسة الضهرة، والجلمة وكرناز. وعلى الرغم من أن فصائل المعارضة لم تستطع الدفاع عن كل هذه المناطق، فإنها لم تتخل عن الجبين وتل ملح، وصدت عدة هجمات لقوات النظام التي تكبدت خسائر فادحة. ولمنطقة تل ملح أهمية استراتيجية، كونها إحدى طرق إمداد النظام بين محردة والسقيلبية، فضلاً عن مرور طريق رئيسي بين حماة واللاذقية عبر هذه المنطقة. كما أن تل ملح تطلّ على العديد من المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات النظام، وفق ما أوضحت مصادر في المعارضة السورية لـ”العربي الجديد”.
وكانت قوات النظام حاولت، منتصف مايو/أيار الماضي، تشتيت قوى فصائل المعارضة السورية من خلال الهجوم على محور تلة الكبانة في جبل الأكراد بريف اللاذقية الشمالي. لكن الفصائل المقاتلة في المنطقة أفشلت عشرات محاولات الاقتحام، وكبدت قوات النظام خسائر فادحة في الأرواح. ووفق قيادي في الجيش السوري الحر فإن قوات النظام حاولت السيطرة على قرية الكبانة لأنها “مفتاح ريف إدلب الغربي، فهي أعلى قمة مُطلة على جسر الشغور وسهل الغاب وبداما والناجية والشغر والجانودية وغيرها من المناطق، وصولاً إلى جبل الزاوية في محافظة إدلب”. وأوضح أن “سيطرة قوات النظام عليها تعني رصد المنطقة نارياً، ومن ثم يصبح تقدّم هذه القوات إلى باقي المناطق أسهل، كونها ستقود المعارك من الأعلى إلى الأسفل، ومن هنا تنبع الأهمية الكبيرة للكبانة لدى المعارضة والنظام”.
ولم تنقطع محاولات الروس والأتراك لتهدئة الوضع في شمال غربي سورية، لكنهم لم يستطيعوا ردم هوة الخلاف بينهم حيال مصير محافظة إدلب ومحيطها. ورفضت أنقرة أكثر من مرة طلباً روسياً بتعديل الخرائط المتفق عليها سابقاً، بحيث تبقى المناطق الجديدة التي سيطر عليها النظام تحت سلطته. وأصرت أنقرة على انسحاب قوات النظام إلى النقاط المحددة وفق اتفاق خفض التصعيد الموقّع قبل نحو عامين، وهو ما دفع الموقف إلى مزيد من التصعيد، فاستهدفت قوات النظام أكثر من مرة نقاط المراقبة التركية المنتشرة في محيط إدلب. ورفع النظام، منتصف يونيو الحالي، سقف تحديه للجانب التركي مستهدفاً النقطة التركية في مورك شمال حماة. وفي خطوة غير مسبوقة، قصفت نقطة المراقبة التركية المتمركزة في منطقة شير مغار بريف حماة الشمالي الغربي، المتاخم لريف إدلب الجنوبي، مواقع لقوات النظام في منطقتي تل بزام والكريم وقرية الكبارية في ريف حماة الشمالي.
وينشر الجيش التركي 12 نقطة مراقبة في محيط محافظة إدلب وفق تفاهمات أستانة وسوتشي، حيث تقع النقطة الأولى في قرية صلوة بريف إدلب الشمالي، والثانية في قلعة سمعان بريف حلب الغربي، والثالثة في جبل الشيخ عقيل بريف حلب الغربي. أمّا النقطة الرابعة ففي تلة العيس بريف حلب الجنوبي، والخامسة في تل الطوقان بريف إدلب الشرقي، والسادسة قرب بلدة الصرمان بريف إدلب الجنوبي. وتأتي النقطة السابعة في جبل عندان بريف حلب الشمالي، والثامنة في الزيتونة في جبل التركمان، والتاسعة في مورك بريف حماة الشمالي. وتقع النقطة العاشرة في الراشدين الجنوبية بريف حلب الغربي، والحادية عشرة في شير مغار بريف حماة الغربي، والأخيرة في جبل اشتبرق بريف إدلب الغربي.
وفي منتصف الشهر الحالي لجأ الروس إلى المناورة من خلال الإعلان عن هدنة من طرف واحد، لكن فصائل المعارضة السورية رفضت الهدنة الروسية، مُحذرة من “الحيل التي يتبعها النظام وروسيا لتعزيز صفوفهما، في ضوء التقدم الذي أحرزته الفصائل على حساب قوات النظام”، معتبرة أن إعلان الهدنة من جانب واحد “خديعة روسية لتجميع القوات والاستعداد لشن هجمات جديدة”، وفق مصادر في المعارضة. وعلى ضوء الخسائر الكبرى التي تعرضت لها قوات النظام خلال الأيام الأخيرة، يؤكد قياديون في الجيش السوري الحر أن “حالة يأس ومعنويات مُحطمة تعيشها قوات النظام والمليشيات”، مشيرين إلى أن قادة هذه القوات “يتبادلون الاتهامات بالتقاعس والجبن والخيانة”، مؤكدين أن “هناك غضباً روسياً من أداء المرتزقة والمليشيات الأسدية”. وعن تقييمه للموقف العسكري بعد مرور نحو شهرين من تصعيد النظام، يقول العقيد مصطفى البكور، قائد العمليات في “جيش العزة” أبرز فصائل الجيش السوري الحر في ريف حماة الشمالي، لـ”العربي الجديد”، إن “الموقف العسكري (يميل) لصالح الفصائل الثورية بشكل عام بعد فشل عشرات المحاولات للتقدم من قبل مليشيات النظام”. ورداً على سؤال يتعلق بفشل الحملة الروسية على شمال غربي سورية، أعرب البكور عن اعتقاده بأن “مجرد طلب الروس الهدنة، أو وقف إطلاق النار، يعني أنهم اقتنعوا بأنهم غير قادرين على المتابعة”. وأضاف “نعلم أن روسيا لن تسكت على انتكاساتها، ونحن مستعدون للمواجهة”.
وتكبدت قوات النظام والمليشيات المساندة لها خسائر كبيرة في اشتباكات الـ 60 يوماً. وأعلن قيادي في “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، في تصريح لإحدى وسائل الإعلام، أن “حصيلة قتلى قوات (بشار) الأسد منذ انطلاق الحملة وصلت لنحو 750 قتيلًا وأكثر من ألفي جريح، موثقين، مع خسائر في العتاد والآليات”. ودفع المدنيون في شمال غربي سورية فاتورة الحرب الصعبة، إذ قتل وهُجر عشرات آلاف المدنيين من ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي. ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل نحو 490 مدنياً في منطقة خفض التصعيد بإدلب ومحيطها “على يد الحلف السوري – الروسي، منذ 26 إبريل/نيسان وحتى 21 يونيو/حزيران”. وأضافت أن من بين القتلى 118 طفلاً، و92 امرأة. وأشارت إلى إصابة نحو 1487 مدنياً في الفترة الزمنية ذاتها. من جانبه، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 512 مدنياً في شمال غربي بالقصف الجوي والمدفعي من قبل الروس والنظام، بينهم 130 طفلاً، و102 امرأة، منذ 30 إبريل الماضي وحتى 23 يونيو الحالي.
المصدر: العربي الجديد