أيمن أبو هاشم
التعرف في سورية قبل الثورة، على إنسان حر، يستحيل أن يجفف أي قيد من صبوات عنفوانه المتجدد، ويأبى عقله المُتقد وروحه الوثابة، مجاراة ما يراه الآخرون قدر الواقع، وحتى في نوائب الدهر التي تكسر الظهر، يبقى كشجرة سنديان لا تكلُّ من تحدي الأزمنة ومعاندة الريح. هو علي سعيد شهابي سليل الفكر المُكابد، وعابر الهويات المزيفة، والمنتمي بالفطرة والحجة والبرهان، إلى طائفة المتمردين على مخارز الاستبداد والجهل والعبودية.
منذ معرفتي به في مخيم اليرموك نهاية التسعينات، كانت تساؤلاته الجدلية تهزُّ مسلماتي الهشة، لأنه كان يقول ما يفكر به، وليس ما ينبغي الخشية من البوح فيه، ويمارس ما يأتلف أفكاره وقناعاته مهما كان الثمن. زادته سنوات سجنه الطويلة قبل الثورة، توقاً مشبوباً للحرية، ما وسم حياته خارج السجن بالحيوية والنشاط وشغف المعرفة، لا يتوقف تفكيره لحظةً واحدة عن فهم سنن التغيير والبحث في الدروب الأقصر للخلاص. كنت أهرب أحياناً من مواجهة هذا المختلف عن تربيتنا الفصائلية المحشوة بالشعارات والغبار، كي لا تتعرى تناقضاتي على وقع انسجامه الفكري والأخلاقي، مأخوذاً بنزعته الفلسفية إلى نشدان الحقيقة، التي كلما كان يتعثر في الوصول إليها، يبحث عن كوة أمل جديدة، فتأخذه خطاه إلى أقصى المستحيل كي يجد من يشاطره الفكرة والحلم.
“أبو السعيد” الكاتب المشغول في تقصي ظواهر الواقع ومعاينة تقلباته بأدوات نقدية رصينة، كما ترشح كتاباته المحفوفة بقلق الأسئلة الكبرى، كان يرى التعليم مهنة فكرية جليلة، ورسالة تحمل شقاء الثقافة في كسر القيم السائدة، ولذلك تمرس في خرق حدود التلقين في دولة البعث، فكان أقرب للصديق المحاور من هيئة الأستاذ الصارم، حين سأله أحد طلابه في عام 2002، عن معنى وجود يساريين يقرأون كثيراً ولا يفعلون شيئاً؟ كان تعليقه على ذاك السؤال كما أخبرني وقتذاك، أن شيئاً جديداً سيولد ويتجاوز كل الواقع والأنظمة والنخب، وفي سريرتي قلت متعجباً، من أين يأتي “أبو السعيد” بكل هذا التفاؤل المفرط، وحين التقيته في الأيام الأولى للثورة، كانت ثقته بالمستحيل الذي يتجسد واقعاً، أكثر ما يبرهن على يقينه الراسخ، منذ أن تمرد في مقتبل سن الشباب على فكرة الأبد وسلطتها الأسدية اللعينة.
تكررت لقاءاتنا في بدايات الثورة أكثر من أي وقتٍ مضى، نقاشات عاصفة حول ما ينبغي القيام به، كي لا يتمكنوا من دق أسافين الفتنة بين مخيم اليرموك وجواره السوري، وحول كيفية انجدال السوري والفلسطيني معاً، في روح الثورة وفضائها المشترك، ولم يغب عن بال “أبي السعيد” وهو السوري المهجوس بالتحرر وممكناته، بما لا يقل عن فلسطينيته غير المأسورة لشعار ( يا وحدنا ) تلك الأذرع القمعية التي يتقن النظام استخدامها بكل أشكال التنكيل والغدر، وقد تبدى ذلك جلياً فيما واجهه المخيم منذ الشهور الأولى للثورة ،من ضغوط أمنية مكثفة عبر وكلائه المتعددين، وكان تشكيل ( اللجان الشعبية ) مؤشراً واضحاً على توجه النظام وأدواته التشبيحية للتصعيد، بغرض احتجاز المخيم و توظيفه باتجاه مناهض للثورة. لذلك تركز اهتمام “ابو السعيد” والعديد من نشطاء المخيم، على قطع الطريق على تلك المحاولات المكشوفة، والتوعية والتحذير من مخاطرها على الفلسطينيين قبل السوريين، وفي مثل تلك المهام التي لا تحتمل التنظير، كانت جرأة “أبو السعيد ” تدفعه للعمل مع الناس وجهاً لوجه، وتطغى على حذره المطلوب في مثل تلك الأوضاع الصعبة.
كان بيته محجّا للمعارضين السوريين قبل الثورة، حتى أن الكثيرين منهم عرفوا مخيم اليرموك، من خلال زياراتهم بيت العائلة التي أنجبت هذا المثقف المنفتح عقلاً وقلباً، وفي الوقت الذي صمت فيه الكثيرون من دعاة الحرية والديمقراطية، حين لاحت بشائر التغيير على غير أياديهم، تسربل علي سعيد شهابي في المخاض الموعود، وحمل مسؤولية الكلمة والموقف والمبادرة بكل جرأة وتصميم، ورفض أن يكون الحياد موقفاً، لا يشبه سوى من يتخذونه ستاراً للهروب من تحمل المسؤولية. لم يكن غريباً على هذا الوجدان المفعم بالصدق والكبرياء، أن يذهب في رأيه أقصى الوضوح، غير عابئ بما يحيط به من خطرٍ محدق، طالما أن فلسفته في الحياة هي ترجمة المقاصد النبيلة والدفاع عنها ملء كيانه وجوارحه، وكان ” أبو السعيد ” في كل وقت وزمن مشروع مطاردة واعتقال وتغييب، ودائماً كان يخرج عقب كل اعتقال طويل أو قصير أقوى وأكثر احتفاءً بالحياة، وأشد تصميماً على مقارعة عدو الشمس. منذ اختطافه قبل ست سنوات على يد الأجهزة الأمنية، مازلنا بانتظار عودته سالماً، وسيبقى حضوره الدائم في قلوبنا أقوى من كل محاولات تغييبه، الحرية تليق بأمثالك أيها الفارس الفلسطيني السوري الحر.
المصدر: صحيفة إشراق