تباينت الدول العربية التي هبّت عليها رياح التغيير في العقد الجاري، في مدى استجابتها للانتفاضات والثورات التي اندلعت فيها، واختلاف مسارات كلٍ منها، وفق طبيعة وأحوال واقعها الوطني والسياسي. اتضح لاسيما في الدول التي شهدت نزاعات دموية ومآسي وطنية، بسبب الطغم العسكرية التي تسيطر عليها، والتي لجأت إلى وضع القوى الشعبية الساعية للتغيير بين خيارين، إما التخلي عن مطالب التغيير والتراجع عنها، وإما إحراق الأخضر واليابس بكل وسائل البطش والإبادة (النظام السوري نموذجاً). ما كان لهذا النظام المستبد أن يقاوم نزعة التغيير التي عبّر عنها السوريون بكل بأس وتصميم، لولا عوامل عديدة أطلقت يده بلا حدود أو ضوابط في تنفيذ خياره الثاني. من هذه العوامل التي كان لها تأثير كبير في تمادي النظام الأسدي باستباحة بيئات مجتمعية بأكملها، ليس فقط استثماره وتلاعبه بالمسألة الطائفية فحسب، بل في قدرته – وهي الأخطر- على توظيف صمت وحياد فئات واسعة من السوريين، لم تنحاز للثورة منذ بداياتها، وفضّلت البقاء في المساحة الرمادية، بكل ما تعنيه من سلب إرادة هذه الكتلة الكبيرة، التي لو شاركت في الحراك الثوري السلمي، لكان لها دور حاسم في قلب موازين القوى ضد النظام. عملياً وبغض النظر عن دوافع تلك الكتلة في صمتها حيال أطراف المواجهة، أدى حيادها غير المعلن في أحسن الأحوال، عدا عن دلالات العطب الأخلاقي فيه، إلى ترادفها مع مؤيدي النظام في خانة مقاومة التغيير من حيث النتائج والمآلات.
كتلة المحايدين والصامتين، كانت تراهن على انتهاء (الأزمة )، وعلى الفوز بالنجاة من أتون هذه المحرقة، ولم تبارح موقفها الذي بقيت عليه، رغم كل الفظائع التي ارتكبها النظام طيلة السنوات الماضية بحق أخوتها في الوطن، لكنها في حقيقة الأمر لم تنجُ من دفع فواتير باهظة بسبب خيارها ذاك. عندما أعاد النظام سيطرته على العديد من المناطق السورية، حيث تضاعفت الأزمات المعيشية والإنسانية داخل مناطق سيطرة النظام، التي استشرى فيها التشبيح والفساد والجريمة، وطال فشل النظام ومؤسساته كل مقومات حياة السوريين، وجدنا أن الكتلة المحايدة تأثرت بدورها من تلك المشكلات المتفاقمة ، فقد عانت الأمرّين من وقوفها لساعات طويلة وأحياناً لأيام، على طوابير الغاز والمازوت والبنزين، وعاشت الفقر والعوز والحرمان بسبب التضخم المالي والاقتصادي، وافتقدت الأمان الاجتماعي في حدوده الدنيا، واستحوذ الاستلاب والبلادة الأخلاقية، على تصرفاتها وسلوكها الإنساني.
كانت ضريبة الحياد والصمت باهظة ومكلفة، بصورة فاقت توقعات كل من اعتقدوا أنهم بمنأى عن لهيب الصراع، ومن توهموا أن بقاء هذا النظام، هو الخيار الأفضل وربما الأقل سوءاً أمام تداعيات خيار إسقاطه والخلاص منه. في حين أن الكوارث والمآسي التي أنزلها النظام على رؤوس السوريين، كشفت بكل جلاء، استحالة الحياة الحرة والكريمة والآمنة في سورية، طالما بقيت عصابة الإبادة والتهجير والإجرام جاثمة على صدور كل السوريين. لم يقتصر الأثر التدميري لوجود النظام على حياة السوريين الثائرين عليه فحسب، إذ نال أيضاً من وقفوا إلى جانبه وقاتلوا وشبحوا معه، نصيباً كبيراً من الخسارة. أما الخسارات الأخرى التي يتم إغفالها أو تجاهلها، فقد أصابت كل من نأى بنفسه تحت حجج وذرائع مختلفة، عن المشاركة الفعلية في مشروع التغيير السياسي، الذي حملته الثورة السورية منذ ارهاصاتها الأولى، وضحى من أجله خيرة بنات وأبناء البلد.
في التجربة السورية لم تتوقف أضرار منطق الحياد، على ضمور الحساسية الأخلاقية لمن تبنوا هذا المنطق، حيال أهم وأخطر حدث مصيري في التاريخ السوري، فقد كان ثمن تنحيهم عن واجبهم الوطني والإنساني، في دعم ثورة الحرية والكرامة، وثمن قعودهم عن المساهمة في تعزيز طابعها الشعبي التحرري، مزيداً من استفراد النظام في استهداف وقمع كل البيئات والحواضن المجتمعية الثائرة على ظلمه وجوره المديدين.
مع ذلك مازالت ترسانة تبرير المحايدين لحيادهم المشين، أسهل ما يلجؤون إليه لإراحة ما تبقى من ضمائرهم، لاسيما بعد الضربات والانتكاسات التي واجهت الثورة، نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية لغير صالحها، لكن تبقى الحقيقة الأوضح، وهي أن أتباع الحياد والصمت وجماعة ( المهم ننفد بجلدنا ) كانوا أحد العوامل الذاتية الأساسية في يتم الثورة السورية، وفي التباس فكرة مشروع التغيير وإضعافها، لحساب تقوية دور النظام وكل القوى الخارجية المستفيدة من مقاومة حق السوريين في تغيير واقعهم، وعرقلة مهام بناء سورية الحرة التي يكافحون من أجلها.
بالمقابل تقدم التجربتين السودانية والجزائرية، التي نعيش اليوم إرهاصات حراكهما الشعبي الحي، مثالين هامين على نوعية الفرز الثوري الحاسم، ودلالات انخراط قوى الشعب في الفعاليات الثورية على نطاق واسع في كلا البلدين، في إجبار القوى العسكرية المتحكمة في كلا النظامين، على الاستجابة للمطالب الشعبية، رغم محاولات الالتفاف عليها، واستثمار الزخم الشعبي في الثورتين، لتحقيق المزيد من المكاسب على طريق تحقيق الانتقال الديمقراطي بكل عزم وثبات. ما يزيدنا يقيناً بأن ضريبة مسايرة الأنظمة والخوف من مواجهتها والسكوت على جرائمها، أكبر بكثير من ضريبة الثورة العارمة عليها والعمل على إسقاطها.