إن سياسة فرض الوقائع بالقوة كما فعلت قيادة (pyd) طيلة الفترة السابقة، وقبولها الاستقواء بالأميركان والروس، لتمرير مشروعها الانفصالي في ظل ضعف واستنزاف الحالة السورية، إنما هي سياسة كارثية قامت على فلسفة الإقصاء والقوة، على حساب بقية مكونات الشعب السوري، بل وتلاعبت بالقضية الكردية وفق حسابات غير سورية وبالضد منها، وأنتجت أحقاداً أهلية ومجتمعية، بسبب منطق التوسع والهيمنة.
يشكل توقيت انطلاق الحملة العسكرية التركية، على مناطق سيطرة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ( pyd ) في الشمال السوري، من أدق وأخطر القرارات التي اتخذتها القيادة التركية خلال محطات الصراع في سورية، ولعلّ التأخير في عملية “غصن الزيتون” التي كانت حاضرة بقوة في حسابات الأمن القومي التركي، منذ أن بدأ الوجود العسكري الكردي في التمدد على طول الحدود السورية – التركية، إنما يعكس حجم الصعوبات والتعقيدات التي واجهت أنقرة، حين توقفت عملية درع الفرات التي قامت بها في أيلول / سبتمبر 2016، عند مدينة الباب ولم تَستكمل حينها إنجاز بقية أهدافها، وبقيّ ما تراه تركيا تهديداً لأمنها القومي قائماً، بسبب الأهمية الاستراتيجية لمدينة عفرين، وما تخشاه تركيا في حال تمّ وصلْ عفرين بالوجود الكردي في (عين العرب، كوباني/ والجزيرة ) من اكتمال حلقات قيام الكيان الكردي بغض النظر عن مسميّاته المتداولة، لاسيما أن عفرين تشكل الممر الضروري، الذي يؤمن وصول ذلك الكيان إلى البحر المتوسط غرباً. حين وصف الرئيس أردوغان في معرض إعلانه البدء بعملية ” غصن الزيتون”، أن صبر بلاده قد نفذ على ” التهديدات الإرهابية ” لم يكن ذلك هو العامل الحاسم باتخاذ القرار النهائي، بقدر ما جاء ضمن سياق التفاهمات التركية – الروسية، حول العديد من الجوانب السياسية والميدانية المتعلقة بالقضية السورية، ويقع تفاهم الطرفين على إنجاح محطة سوتشي، مؤشراً على توافق الخطوات في تمرير تلك التفاهمات. لم تكن الخطوة التركية أيضاً بعيدة عن جس نبض الموقف الأمريكي، في مواجهة ما تراه أمريكا استهدافاً لحليفها الأهم في الساحة السورية، واتضح من ردود الفعل الأمريكية على عملية “غصن الزيتون” خلال أسبوعها الأول، أنها تحمل ظلال أزمة الثقة بين الطرفين التركي والأمريكي، وتخوّف واشنطن من نتائجها على مستقبل علاقتها بالأكراد، ولذلك يتضح أيضاً صعوبة التكهن برد الفعل الأمريكي عليها، إذا تواصلت العملية وطالت مدينة منبج. تبقى مواقف الأطراف الأخرى أقل أهمية من حيث تأثيرها على القرار التركي، مع أخذها بعين الاعتبار في سياق التحديات والمخاطر المفتوحة، وإذا ما وقعت تغييرات مفاجئة تمس أهداف العملية، خلافاً للحسابات التركية.
أهداف العملية
كان مسعى تركيا لتحقيق هدفها الرئيس من وراء هذه العملية، يكمن في إنهاء مشروع قيام كانتون كردي على حدودها، وعلى الأقل في المرحلة الأولى، تقويض وجود هذا الكانتون غرب نهر الفرات، ومنع كل إمكانيات وصله بالمناطق الكردية شرق النهر، بما يحول دون إقامة كيان كردي في سورية مستقبلاً، من خلال تفكيك بؤر التوسع التي حاولت القوات الكردية بدعم أميركي وتغطية روسية، الاستناد عليها لفرض مشروع (روج آفا ) الذي يقوم على إدماج مناطق عربية وكردية ضمن سيطرة كردية عسكرية ومدنية عليها. كانت الهواجس التركية من انتقال حلم “غرب كردستان السوري” إلى الداخل التركي، هي الحقيقة الحاسمة التي أعادت صياغة المواقف التركية من القضية السورية. لا غرابة أنها هواجس قديمة جديدة، ولو عدنا إلى “اتفاق أضنة” الذي تم بين النظام السوري والحكومة التركية في العام 1998، سنجد أن العصا الغليظة التي رفعتها تركيا في وجه الأسد الأب وقتذاك، كي يوقف دعمه لنشاط ال (pkk ) عبر الأراضي السورية، كان مثالاً قوياً على محركات الموقف التركي من هذه المسألة. ما يوضح راهناً الأسباب التي دفعت تركيا، للدخول في مساومات وتفاهمات مع الروس، لاسيما منذ معركة حلب، وما تلاها من اتفاقيات خفض التصعيد عشية انطلاق (مسار آستانة في 23/1/ 2017) وتعززت تلك التفاهمات طردياً بين الطرفين، رغم كل محطات التوتر السابقة واللاحقة بينهما، مع تصاعد مخاوفها المشتركة من السياسات الأميركية في سورية، لاسيما منذ قدوم الرئيس ترامب، وخلال عام من سياسات إدارته حيال الملف السوري. بالطبع ترافق كل ذلك مع تغيير الأولويات التركية في علاقتها بالوضع السوري، وانتقالها من طرف رافض لأي حل في سورية بوجود نظام الأسد، إلى طرف لديه استعداد للمساعدة في حل سياسي يتم بمشاركة النظام، مع تغييرات فارقة ذات صلة بالبيت الداخلي التركي، لاسيما بعد انقلاب 15 تموز، وإعادة تنظيم المؤسسة العسكرية، بما يقوي توجهات وقرارات القيادة السياسية التركية، وهو ما يفسر وجود رأي عام تركي مؤيد لعملية ” غصن الزيتون” لم يكن ممكناً توفره في ظل مناخات الاستقطاب الداخلي خلال الفترة التي سبقت الانقلاب.
بالمعنى العسكري الاستراتيجي، وكي يتحقق الهدف المطلوب من العملية، لا يكفي السيطرة على عفرين وحزامها الريفي ذي الأغلبية الكردية، وإنما لابد من استعادة “منبج ومثلث الشيخ عيسى وتل رفعت” بما يؤدي إلى ربط الريف الشمالي والشرقي لمدينة حلب بمدينة إدلب، وهنا قد يرى البعض أن ثمة أهداف أخرى، تتعدّى الهدف التركي بإنهاء التهديد الكردي، وهذا ما يجب أن يؤخذ بالحسبان، إذ أن حرص تركيا على تأمين مصالحها في شمال سورية، بات يرتبط بعدة قضايا متشابكة، من أهمها تمكين النازحين المتواجدين على الشريط الحدودي، من العودة إلى مدنهم وقراهم، التي هجّروا منها على يد قوات ( pyd ) وقوات النظام، ومن ثم التخفيف من عبء اللاجئين المتواجدين في المخيمات التركية، ومن فئات اللاجئين الأكثر بؤساً في المدن التركية. ووفق هذه المقاربة ستعمل تركيا كما في ” سابقة جرابلس ” على توفير شروط التنمية والاستقرار بعد استعادة تلك المناطق من قبضة (Pyd)، والبحث عن صيغة لتمكين أهالي تلك المناطق من إدارة شؤونهم المدنية، وهو ما صرح به العديد من المسؤولين الأتراك، حول نيتهم تسليم المناطق في المرحلة اللاحقة لسكانها. من شأن التزام تركيا بهذه الوعود، أن يزيل شكوك ومخاوف غير قليلة، من مستقبل مناطق سيطرة “الميليشيات الكردية ” في حال هزيمتها. لكن يبقى الأهم على الصعيد الجيواستراتيجي بالنسبة لتركيا، أن تبقى صاحبة التأثير الأساسي في منطقة شمال سورية، وهي المنطقة التي تشكل مجال نفوذها الحيوي في الساحة السورية، في ضوء الصراعات بين الأطراف الدولية والإقليمية على تقاسم مناطق النفوذ، ولإدراك الطبقة السياسية الحاكمة في تركيا، أن الطبيعة السكانية في هذه المنطقة تشكل بيئة مجتمعية حليفة لها، وأكثر مقبولية من القاعدة المجتمعية لحزب العدالة والتنمية، مما يؤهلها أن تكون امتداد لحزام أمنها القومي، مهما كان شكل التسوية السياسية الأخيرة للصراع في سورية.
التحديّات والمخاطر
تصعيد اللهجة التركية مع استمرار عملية “غصن الزيتون” يشير إلى تصميم تركي على انجاز المهمة، في مقابل تعبير قيادة ( pyd ) عن شعورها بالخذلان من الموقفين الأميركي والروسي، ويتواصل تقدم القوات المشاركة في العملية، ومن ضمنها بصورة أساسية فصائل من الجيش الحر، ومع تصاعد المعارك بين الجانبين، تتزايد مخاوف المقاتلين الأكراد، من سيطرة القوات المهاجمة على نقاط استراتيجية حول عفرين، ولعلّ طبيعة المنطقة الجبلية الوعرة التي تدور المعارك فيها، تجعل من سباق الأتراك لحسم المعركة بأسرع ما يمكن، ليس بالمهمة السهلة رغم التقدم الذي تم إحرازه في عدة محاور، ولعلّ المعارك الضارية بين الطرفين على جبل برصايا ذات الموقع الاستراتيجي شمال عفرين، والصعوبات التي واجهت الأتراك والجيش الحر للسيطرة عليه أخيراً، ما يدلل على حجم الصعوبات والتعقيدات التي تواجه سير المعارك على الأرض، والتي قد تستغرق أشهر وليس بضع أسابيع، لاسيما أن أغلب القادة الميدانيين لقوات (pyd) في المنطقة، لديهم خبرات قتالية اكتسبوها من تجاربهم مع (pkk) في معارك جبال قنديل ضد الأتراك، علاوةً على امتلاكهم أسلحة دروع متطورة، تم تزويدهم بها من مصادر متعددة. لا تُخفي التحديّات الميدانية بدورها، تحديّات سياسية ترتبط بالأطراف المستفيدة من عرقلة العملية التركية، وعلى هذا الصعيد يستمد القلق التركي مشروعيته، من تطورات ردود الفعل الأميركية على العملية لسببين أساسيين:
( الأول ) لأن التقارب الروسي – التركي الذي كانت ” غصن الزيتون ” أحد ثماره العملية، يشكل مصدر قلق وإزعاج للأميركان، فنجاح تركيا في تحقيق أهدافها من وراء العملية، يؤدي إلى إضعاف الورقة الكردية، التي تستخدمها أميركا أداة لمحاربة ( داعش ) ومنع عودتها مجدداً بعد هزيمتها، وأداة لتنفيذ المصالح الأميركية في شرق سوريا، ومن شأن إنهاء مطامع القيادات الكردية الحليفة لأميركا في منطقة غرب النهر، أن يؤثر سلباً على الخطط المتعلقة بالوجود الأميركي الطويل في المنطقة الشرقية، عدا عن رغبة أميركا في بقاء الورقة الكردية عنصر ضغط على الأتراك عند الطلب.
( الثاني ) خشية الولايات المتحدة من تطور التفاهمات الروسية – التركية، سواء ما تعلق منها بتداعيات عملية “غصن الزيتون” على مناطق خفض التصعيد في إدلب وريفها، أو على صعيد الدعم التركي لمؤتمر سوتشي، وما سيعنيه ذلك من الدفع لإنجاح التصور الروسي للحل السياسي في سورية، وحصول موسكو على أوراق قوة تفاوض من خلالها الغرب والأميركان على العديد من الملفات العالقة بينهما في الساحة الدولية، ولم يعد خافياً رغبة الأميركان في تجريد الروس من تلك الأوراق، والموقف الأميركي والأوروبي غير المتحمس لسوتشي يصب في هذا الاتجاه.
السببان المشار إليها، ربما يوضحان لغة المواربة والغموض في التصريحات الأميركية الأخيرة، لجهة مطالبة الأتراك بعدم توسيع العملية، أو التذرع بالحرص على حياة المدنيين، رغم سجل أميركا وحليفها الكردي، بانتهاكاتهما المشهودة بحق المدنيين خلال معارك الرقة ودير الزور ضد (داعش)، ورغم حرج الموقف الأميركي الواقع بين تجنب المواجهة مع تركيا، والضرر الذي ينظر إليه الأميركان في حال نجاح العملية التركية، فإن بقاء الموقف الأميركي على عدم تدخله حتى الآن، ليس أمراً ثابتاً ولا يمكن الركون إليه من الجانب التركي، وعلى الأغلب فإن عنصر المفاجأة في تغيير الموقف الأميركي، بما يصب في عرقلة العملية وتصعيب نجاحها، مما يجب أن يؤخذ على محمل الجد، في ظل ساحة مفتوحة على استدارات وتحولات متوقعة في مواقف الأطراف المعنيّة بما فيها الطرف الروسي. وفي حال قررت أميركا دعم الطرف الكردي غرب النهر بوسائل مباشرة أو غير مباشرة، فإن مثل هذا الخيار فيما لو تبنته إدارة ترامب، سيؤدي إلى تداعيات خطيرة على العلاقة الأميركية – التركية، وعلى مختلف جبهات الصراع. أما بقية التحديّات المتعلقة بإمكانية وجود سيناريوهات بديلة عن استمرار العملية حتى نهايتها، ومن هذه السيناريوهات المحتملة: تسليم عفرين والمناطق الخاضعة لسيطرة (pyd) في شمال حلب إلى قوات النظام، ضمن صفقة تحت الضغط الأميركي، وهو سيناريو وإن قبل به الأكراد وقد سبق أن رفضوه قبل العملية، سيكون على الأرجح مرفوضاً من قبل الأتراك، لأنهم يريدون إنهاء الصداع من الورقة الكردية على حدودهم، وليس تسكين الألم دون ضمان ما يحقق أهدافهم.
في الجهة الموازية لردود الأفعال الدولية على العملية، لا تشكل المواقف الأوروبية من العملية التركية، لاسيما فرنسا التي دعت إلى عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن في 24/ يناير/ كانون الثاني وتصعيدها الدبلوماسي الذي تلا، وعبرت من خلاله عن انزعاجها من العملية، ما يرقى أن يكون تحديّا فعلياً للحسابات التركية، فقد حكمت المخاوف الأوروبية المتعلقة باللاجئين السوريين، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع أنقرة، حدود الموقف الأوروبي الذي أعرب في أغلبه عن تفهم المخاوف التركية، في حين ليس لدى إيران التي عبّرت عن قلقها من هذه العملية، سوى الخشية من نتائج العملية سواء في حال النجاح أو الفشل، فطهران ترى في ازدياد نفوذ أي طرف في الساحة السورية سواها، بمثابة إضعاف وانحسار لنفوذها، وهي ليست في موقع يسمح لها بالمفاضلة، بين طرف كردي مدعوم أميركياً، وبين طرف تركي يحاول انتزاع حصته من التأثير والنفوذ. مع ذلك لا يجب تجاهل رسالتها النارية في 30 يناير/كانون ثاني، حين قامت بالتعاون مع قوات النظام، بقصف مدفعي للطريق الذي كانت تسلكه قوة تركية، كانت متوجهة من إدلب إلى جبهات المعارك في عفرين، وأرادات من خلالها لفت أنظار الأتراك لقدرتها على تعويّق الخطط التركية، ويبقى التصعيد الإيراني رهن صمود أو انهيار التفاهمات الروسية – التركية في الفترة القادمة.
إن عملية ” غصن الزيتون ” والنتائج التي ستفضي إليها، ستحدد معالم وحدود النفوذ التركي في سورية، وانعكاس الحل السياسي على مصير منطقة شمال سورية، ولن يكون مجرد ضربة تركية لخاصرة (pkk) في سورية في حال نجاح العملية، وهو الاحتمال الأقوى في ضوء موازين القوى الراهنة، بقدر ما سينعكس على تراجع دور هذا الحزب ضمن الساحة التركية، وبعد خسارة كركوك وفشل الاستفتاء على إقليم كردستان العراق، ستشكل هزيمة (pyd ) في منطقة غرب النهر، خسارة جديدة لإمكانيات إقامة الحلم الكردي في مختلف دول الإقليم التي يتواجد فيها الكرد، وفي حال فشل العملية وهو الاحتمال الأضعف، سيشكل ذلك فرصة كبيرة لتحويل مشروع ” روج آفا ” إلى حقيقة واقعة، وتأمين المصالح الأميركية – الكردية المتبادلة، والتي ستقوم على حساب وحدة الجغرافيا السورية، وانحسار النفوذ التركي ودوره في المشهد السوري، وإعادة تدوير التحالفات بين الدول المتدخلة بناءً على نتائج العملية.
تأثير العملية على الثورة السورية
تأتي عملية ” غصن الزيتون” بعد خسارات متتالية، تعرضت لها المناطق المحررة، والبيئات الحاضنة للثورة، وكانت تلك الخسارات – كما هو معلوم – بفعل حصيلة الدعم الروسي والإيراني للنظام، ودور روسيا من خلال مناطق خفض التصعيد، في تحييد الثوار عن جبهات مواجهة النظام، وتصعيدها ضد المدنيين ودأبها فرض شروط الاستسلام على المناطق الثائرة، بالتوازي مع محاولاتها منذ مسار آستانة وما تسعى إليه مؤخراً من خلال سوتشي، لفرض حل سياسي يُعيد تأهيل النظام. منذ التقارب الروسي – التركي، كانت حصيلة ما نشأ عن هذا التقارب من تفاهمات حول مناطق خفض التصعيد، ذات تأثيرات سلبية على موازين القوى لغير صالح قوى الثورة، ونظراً لدور وأهمية تركيا على صعيد الواقع الثوري في الشمال السوري، وفيما يتعلق باللاجئين السوريين في أراضيها، كان ثمة حرص تمليه الجغرافية السياسية، والضرورات الواقعية، للحفاظ على تركيا كصديق للثورة، رغم كل المخاوف والقلق من تداعيات التفاهمات الروسية – التركية على واقع الثورة ومستقبلها. مع ذلك جددت عملية “غصن الزيتون” الآمال بأن يؤدي استئصال تنظيم (( pyd وذراعه العسكري قوات الحماية الشعبية ( (ypgفي مناطق سيطرته شمال سورية، إلى حل العديد من المشكلات السياسية والإنسانية، التي نجمت عن سيطرته على عدة مناطق عربية، وأبعد من ذلك تلاقي الهواجس التركية مع هواجس قوى الثورة السورية، على ضرورة التخلص من خطر المشروع الانفصالي الكردي على الطرفين، وبالتالي لا يكفي النظر للأهداف التركية من وراء العملية، بمعزل عن دوافع فصائل الجيش الحر المشاركة فيها، وعدا عن التأثير التركي المعروف على هذه الفصائل، فإن أغلب قيادات وعناصر هذه الفصائل لديها دوافع عديدة تقف خلف مشاركتها تلك. من أبرزها: صراعات الفصائل مع القوات الكردية، ودور الأخيرة بالتنسيق مع قوات النظام، قبل وخلال معركة سقوط حلب، وفي مناطق متعددة من الريف الشمالي والشرقي، وتنسيقها كذلك مع الروس، ومسؤوليتها عن تهجير مئات ألوف المدنيين من مدن وقرى الريف الشمالي، مع العلم أن أغلب قيادات وعناصر الفصائل المشاركة، من المتأثرين بصورة مباشرة هم وعوائلهم من المآسي الإنسانية، التي تسببت فيها القوات الكردية بحق الأهالي في تلك المناطق ذات الأغلبية العربية. قياساً عليه لا يمكن فصل مواقف الفصائل عن الانطباع السائد لدى السكان العرب في مناطق شرق سورية، وقد عانت مناطقهم أيضاً في الحسكة من عمليات تهجير منظمة قامت بها قوات (pyd)، ومن معاملة سيئة عايشها المدنيون من قبل تلك القوات أثناء وبعد انتهاء معاركها مع (داعش) في الرقة ودير الزور، وجميعها عوامل عززت مخاوف العرب من نزعات الهيمنة والانفصال، التي كشف عنها تنظيم (pyd )، واستغلاله الدعم الأميركي، لفرض حقائق على الأرض تنظر إليها الأغلبية العربية كخطر يهدد وحدة سورية أرضاً وشعباً. وهي دوافع ذات أهمية لفهم اندفاعة الفصائل للقتال إلى جانب الأتراك، بمواجهة ما يعتبرونه عدواً خطيراً ومشتركاً على كليهما.
من مقلب آخر لا تحجب أهداف عملية “غصن الزيتون” التي يتلاقى عليها الثوار مع الطرف التركي، مخاوف وهواجس البيئات الحاضنة للثورة، من أن يكون ثمن عملية ” غصن الزيتون ” إفساح الطريق أمام النظام لاستعادة سيطرته على مدينة إدلب وريفها، وهناك من يرى في المعارك الساخنة في ريف إدلب الجنوبي، وفي مطار أبو الضهور والقرى المحيطة به، ما ينبئ عن مشروعية مثل تلك المخاوف، وإن كان ثمة استياء من سيطرة ” هيئة تحرير الشام” على إدلب وريفها، ولكن على ألا يكون البديل هو النظام والإيرانيين. بجميع الأحوال يعلم الروس أن الدور التركي ضروري في الترتيبات المتعلقة بمدينة إدلب وريفها، وأن الأتراك ليس بمقدورهم تحمّل تبعّات أي تصعيد عسكري على المدينة وريفها، سيؤدي في حال حدوثه إلى تهجير ما يقارب ثلاثة ملايين مدني باتجاه الحدود التركية، ولذلك فمن المرجّح سعي الطرفين الروسي والتركي لإنضاج تسوية خاصة بهذه المنطقة، ستكون ذات صلة وثيقة بالحل السياسي المطروح، وربما متوقفة على مدى التقدم في المسار السياسي في المرحلة القادمة.
تبقى القضية الأهم على المستوى الإنساني لبيئات الثورة، أن عملية ” غصن الزيتون ” في حال تحقيق أهدافها، ستخلق المناخ الواقعي لإقامة المنطقة الآمنة شمال حلب، بعد أن رفضها الأميركان على طول الخط، وإن مطالبتهم بها اليوم على وقع العملية التركية، ليس أكثر من محاولة للالتفاف على مسعى أنقرة بإنهاء الوجود الكردي غرب النهر، علماً أنه من الناحية العملية لا جدوى من إقامة منطقة آمنة، في ظل منع القوات الكردية من عودة الأهالي إلى بيوتهم، ولعلّ هذا هو السبب في إصرار أنقرة على الاستمرار في العملية، وتكريس فهمها الخاص للمنطقة الآمنة بلا أي وجود للقوات الكردية فيها.
تأثير العملية على مكونات المجتمع
لم تلبث تصريحات النظام السوري، التي توعّد من خلالها بالرد على التدخل التركي في عفرين، أن أكدت عجز هذا النظام عن حماية مفهوم السيادة الوطنية، بعد أن أصبح أسير مصالح وتفاهمات حليفه الروسي، وقد أصبح واضحاً لكافة مكونات الشعب السوري بمن فيهم الكرد، أن هذا النظام ليس فقط غير قادر على تجسيد الوحدة العضوية بين هذه المكونات، بل هو السبب الأساسي في الشروخات والتصدعات المجتمعية فيما بينها. واليوم تكشف تطورات الأحداث في عفرين وبقية المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية في سورية، أن سياسة فرض الوقائع بالقوة كما فعلت قيادة (pyd) طيلة الفترة السابقة، وقبولها الاستقواء بالأميركان والروس، لتمرير مشروعها الانفصالي في ظل ضعف واستنزاف الحالة السورية، إنما هي سياسة كارثية قامت على فلسفة الإقصاء والقوة، على حساب بقية مكونات الشعب السوري، بل وتلاعبت بالقضية الكردية وفق حسابات غير سورية وبالضد منها، وأنتجت أحقاداً أهلية ومجتمعية، بسبب منطق التوسع والهيمنة الذي مارسه حزب (Pyd) بحق أغلبية الشعب السوري المتمسك بوحدة وطنه، رغم كل المآسي التي عايشها في السنوات الماضية على يد النظام، وقد نال الكرد أنفسهم نصيباً كبيراً من قمع ومظالم الاستبداد الأسدي، وإن ضرب واستئصال وجود هذا الحزب الذي يضم غالبية قياداته وكوادره من أكراد غير سوريين، هو مصلحة للكرد السوريين أيضاً، على أن يقترن ذلك بعدم تعميم ما اقترفه هذا الحزب، على المكون الكردي بصفة عامة، وهي مسؤولية مزدوجة تقع على عاتق قوى الثورة السورية، وعلى القوى الوطنية الكردية، التي تتشارك في رفضها سلوك وارتباطات حزب (pyd)، وتدرك أن مصير الكرد في سورية هو من مصير الشعب السوري، وأن الضامن الحقيقي لحقوق الكرد في سورية، هي دولة الحرية والمواطنة والعدالة. وعلينا أن نتذكر قبل تمدد هذا التنظيم وانكشاف مشروعه الانفصالي، الجهود والحوارات الوطنية بين قوى الثورة السورية، التي انتجت (وثيقة القاهرة / 2012) وما جاء فيها من إعلان مشترك حول ضمان الحقوق القومية للكرد في سورية، ضمن وحدة الدولة السورية الضامنة لحقوق كافة مكوناتها.
ثمة شكوك كبيرة في المدى المنظور أن تُشكّل عملية “غصن الزيتون” فرصةً لرأب الصدع المجتمعي بين العرب والكرد في سورية، لاسيما أن حملات التعبئة والاستنفار التي تقوم بها أطراف كردية في أوروبا مؤيدة لحزب (pkk) تغطي على العديد من الحقائق الموضوعية، التي تحيط بظروف واعتبارات مشاركة فصائل الجيش الحر بهذه العملية، فيما تحاول إسقاط الصراع التاريخي التركي – الكردي، على السياق الخاص للتجربة السورية، وكل ذلك يضاعف من الأحقاد المتبادلة التي كشفت عنها محطات الصراع في السنوات الماضية. وإذا كان من محاولات لتغيير هذه الصورة في المدى الأبعد، لابد من مقاربة جديدة تقوم على احتواء الآثار التي خلفتها تجربة ال(pyd) على العلاقة بين العرب والكرد السوريين، والاستفادة من الجوانب الإيجابية لعملية “غصن الزيتون” في حال نجاحها، لمعالجة التصدعات المجتمعية بين العرب والكرد، وهي مسؤولية مشتركة ستتوقف على أعادة بناء الثقة بينهما، وعلى الكيفية التي سيتم بها حسم الصراع في سورية أولاً وأخيراً، ففي حال سقط نظام الاستبداد الأسدي، وأصبح خيار بناء دولة الحرية والمواطنة خياراً ممكناً، فهذا سيشكل الحل الضامن، لمشاركة كافة مكونات المجتمع السوري والكرد جزءً منها، في ولادة عقد وطني اجتماعي جديد، يقوم على التوافق في تسوية المشكلات الوطنية والسياسية والحقوقية، التي نجمت عن حقبة الاستبداد، وكافة الصراعات الداخلية المقترنة بها.