جورج فریدمان ترجمة: علاء الدین أبو زینة
تشكل الھیمنة على البحر أساس الأمن القومي الأمیركي. وكان الأدمیرال ألفرید ثایر ماھان، وھو أعظم استراتیجي في التاریخ الأمیركي، قد حدد ھذه الھیمنة بوصفھا المصلحة الأمیركیة الأساسیة (على الرغم من أنه كتب قبل بدء الحرب على الإرهاب وقبل تطویر الأسلحة النوویة). وقال إنه لا یمكن تھدید الولایات المتحدة إلا من خلال قوة بحریة معادیة یمكنھا أن تغزو أراضیھا وتحد من وصولھا إلى المحیطات. ولذلك، كان یجب أن تكون السیطرة على البحار أساس الأمن القومي الأمیركي، كما كان الحال مع بریطانیا.
مسارات بحریة لا غنى عنها
توفر السیطرة على البحر الضمان للأمن والتجارة. ومن المؤكد أن روما القدیمة كانت تفھم ھذا القدر، ولذلك ركزت على السیطرة على Nostrum Mare (أو ”بحرنا“، في إشارة إلى البحر الأبیض المتوسط)، وھو ما أجبر القوى المھددة في شمال إفریقیا، مثل قرطاج، على مھاجمة روما عند تخومھا وضمان الوصول إلى المحاصیل المصریة. وكانت شبكة الطرق البریة حول البحر المتوسط قویة، وإنما بطیئة، في حین كانت الطرق البحریة سریعة وإنما أخف وزناً. وكانت -على المستوى التجاري- ضرورة لا غنى عنھا.
الآن، تحاول الصین وإیران تأمین ممراتھما البحریة، أو على الأقل حرمان الآخرین من الوصول إلیھا. وبالنسبة للصین، التي أصبحت الآن قوة تجاریة ھائلة، یشكل الوصول إلى بحار العالم ضرورة اقتصادیة. ومكمن خوفھا ھو أن تحاول الولایات المتحدة حصار الصین، وبذلك خنق الاقتصاد الصیني (ینبغي تذكر أن سیناریو أسوأ الحالات ھذا لیس الأقل احتمالاً، تاریخیاً).
ومن جھتھا، لا تملك إیران، التي تعوقھا العقوبات الأمیركیة، القوة السیاسیة أو البحریة لكسر الحصار، لكن لدیھا الوسائل لفرض حصار مضاد على مضیق ھرمز. ولا شك في أن الكمیات الھائلة من النفط التي تتدفق عبر المضیق ضروریة لكثیر من حلفاء الولایات المتحدة، وسوف یؤدي النجاح في إغلاق ھذا المضیق إلى نشوب أزمة اقتصادیة تعقبھا أزمة في الحلف. ولذلك، قد یكون فرض عقوبات على إیران باھظ التكلفة بالنسبة للولایات المتحدة. وطالما أن التجارة تتم في البحار، فإن التحكم في البحار والسیطرة علیھا تبقى شؤوناً في غایة الأھمیة.
تاریخیاً، كانت السیطرة على البحر تعتمد على السفن السطحیة التي تعمل بواسطة المجاذیف أو الأشرعة أو الفحم والنفط وما إلى ذلك. وكان المبدأ العملیاتي للقوة الوطنیة ھو امتلاك أسطول كاف یفوق ما لدى العدو في المقام الأول، من حیث الحجم والأسلحة. وكانت النقطة المركزیة في ھذا المفھوم القدیم للحرب البحریة ھي البارجة، وھي سفینة ضخمة ومكلفة، تحمل على متنھا حفنة من المدافع القادرة على إطلاق ذخائر كبیرة الحجم لمسافة بعیدة. وكانت الحرب السطحیة قد وصلت إلى ذروتھا مع البارجة المدرعة. وسوف تؤدي تكلفتھا إلى شل اقتصاد بلد متوسط الحجم. وكان بوسعھا أن تھزم أي سفینة تواجھھا، ناھیك عن سفینة حربیة أخرى. وكان السباق بین الدول في البوارج یدور حول الحجم والدروع والذخائر، وكان بوسع أي دولة تمتلك أكبر عدد منھا أن تحمي مصالحھا البحریة.
وھكذا، كان أساس التكتیكات البحریة في السابق ھو نشر السفینة السطحیة ضد السفینة السطحیة. ولم یتم استبدال ھذا الأساس بأي تقدم في قوة البوارج، وإنما تم استبداله بإدخال مفھوم جدید في الحرب البحریة: القوة الجویة. فبینما قاتلت البوارج بإطلاق قذائفھا الكبیرة على الأعداء، كانت الطائرات تقوم بإطلاق قذائف متفجرة صغیرة تؤثر على السطح، وطوربیدات تضرب السفن الحربیة تحت خط الماء. ثم جاء في أعقاب ذلك تھدید آخر: الغواصات.
بدءاً من الھجوم البریطاني على الأسطول الإیطالي في تارانتو، وھو الاتجاه الذي بلغ ذروته بالھجوم الیاباني على میناء بیرل ھاربور الأمیركي، تمكنت السفن المصممة لحمل الطوربیدات والقنابل من تدمیر البوارج في الموانئ. وبسرعة كبیرة، تحول مركز الثقل في الحرب البحریة إلى حاملة الطائرات واستُكمل بالغواصة التي تم تصمیمھا لقطع سلسلة الإمداد في شمال المحیط الأطلسي وغرب المحیط الھادئ.
كان ھذا المزیج من حاملات الطائرات والغواصات في قلب أعمال الحرب البحریة منذ ما يقرب من قرن من الزمان، لكن الذخائر الجدیدة تحدت سیادة ھذا المزیج في نھایة المطاف. وعلى وجه التحدید، أدى إدخال الذخائر الموجھة بدقة إلى زیادة ھشاشة حاملات الطائرات. ولیست ھذه الذخائر صواریخاً بالستیة. وبمجرد إطلاقھا، یمكن تصحیح اتجاھھا، وھو ما یجعلھا أكثر دقة بكثیر من الصواریخ القدیمة. وفي العام 1967، تمكن صاروخ ”ستیكس“ سوفیاتي الصنع تم إطلاقه من مصر من إغراق المدمرة الإسرائیلیة، إیلات. وكانت درجة الدقة مذھلة، وكذلك كان تأثیر الرؤوس الحربیة.
أجبر غرق ”إیلات“ الكثیرین على إعادة تقییم فعالیة حاملة الطائرات. وكان الافتراض في السابق ھو أن بإمكان الطائرات المقاتلة توفیر الحمایة لحاملة الطائرات. وكان على طائرات العدو أن تطیر في فضاء الاشتباك في دوریات جویة لإطلاق القنابل الحدیدیة والطوربیدات. لكن حادث غرق ”إیلات“ أظھر أن ھذا لم یكن ضروریاً. في الحقیقة، یستطیع صاروخ موجه عالي الدقة، والذي یتم إطلاقه من الشاطئ – أو بواسطة طائرة تتواجد خارج مجال الدفاع الجوي للمقاتلات والمدافع المضادة للصواریخ والقذائف- أن یقوم بإغراق السفن أو تحطیمھا.
كانت إحدى الطرق للدفاع ضد ھذا النوع من الھجوم ھي توسیع مساحة الحیز القتالي. لكن ذلك عنى تجاوز مدى توافر المقاتلات. ولذلك، تحول التركیز من إسقاط الطائرات المھاجمة إلى تدمیر الصواریخ القادمة. وتم ابتكار أنظمة مثل نظام ”إیجیس“ Aegis الأمیركي، وبكلفة ھائلة، للقیام بذلك. وفي الحقیقة، لا یوجد نظام مثالي، ولذلك ظل الإبقاء على المھاجمین على مسافة بعیدة أمراً بالغ الأھمیة. وكانت تكلفة ذلك إحداث زیادة كبیرة في عدد السفن المتقدمة المصممة لتوفیر قدرة الدفاع الجوي والحرب المضادة للغواصات. وتكلف مجموعات القتال المصاحبة لحاملات الطائرات ملیارات الدولارات التي یتم إنفاقھا على التطویر والصیانة الأولیة، من أجل السماح للطائرات الھجومیة 30-70 بالطیران نحو الھدف وإطلاق الصواریخ الموجھة عالیة الدقة على مجموعة دفاعیة مماثلة.
شرعت حاملة الطائرات في أن تبدو مثل البارجة، مع تكالیف متنامیة مصممة لتوفیر الدفاع. وھي تشبھھا بمعنى آخر أیضاً. فقد تطورت الذخائر الموجھة عالیة الدقة، جزئیاً في مسألة الدقة، وبشكل أكبر في السرعة وخفة الحركة. وأجبر ھذا أنظمة الدفاع الجوي على أن تتطور ھي أیضاً. وكانت تكلفة تطویر المقذوفات عالیة الدقة أقل بكثیر من تكلفة تطویر الأنظمة الدفاعیة، ولذلك ارتفعت تكلفة الحفاظ على أمن المجموعة المصاحبة لحاملة الطائرات، ولم تتمكن القدرة الضاربة – الحمولة التي یمكن قذفھا على العدو – من المواكبة.
إدخال الصواریخ الأسرع من الصوت
تم الوصول إلى نقطة الأزمة بالنسبة لحاملات الطائرات مع ظھور الصواریخ التي تفوق سرعتھا سرعة الصوت، والتي یمكن أن تصل إلى سرعات تزید عن خمسة أضعاف سرعة الصوت، مع امتلاك القدرة على المناورة. وأدى المدى الذي یمكن أن تبلغه ھذه المجموعة من الصواریخ إلى توسیع مساحة الغلاف الجوي القتالي بشكل كبیر، وھو ما فرض إجراء تعدیلات كبیرة على أنظمة الدفاع الجوي. ویدعي البعض بأن المتفجرات التي تحملھا ھذه الصواریخ لا یمكن أن تتمكن من إغراق حاملة طائرات. ولكن، بالنظر إلى دقتھا، فإنھا یمكن أن تجعل حاملة الطائرات غیر صالحة للعمل خلال المعركة من خلال مھاجمة العناصر الرئیسیة لسطح إقلاع الطائرات.
كان ھذا ھو السبب الذي جعل الروس والصینیین یھللون ویعلون من شأن أنظمتھم الأسرع من الصوت. وھي تشكل في الحقیقة تحدیاً للسیطرة الأمیركیة على البحر، طالما أن أساس النظام ھو السفن الحربیة السطحیة – بل إن الغواصات نفسھا تكون أكثر عرضة للخطر عندما تصبح المحیطات أكثر شفافیة لمتحسسات ومستشعرات الصواریخ التي تفوق سرعتھا سرعة الصوت.
مع زیادة مدى الصواریخ التي تفوق سرعتھا سرعة الصوت وانخفاض تكلفتھا، أصبحت المخاطر على السفن الحربیة السطحیة في ازدیاد. ومع أن فعالیة الدفاعات تبقى ممكنة، فإن نموذج صاروخ-ضد- صاروخ یصبح منطویاً على المزید من المخاطر باطراد. والحل الأقل خطورة ھو جعل الصواریخ المعادیة غیر صالحة للعمل. ویمكن القیام بذلك عن طریق استھداف نظام التوجیه، والذي یتطلب استھداف الموقع العام للعدو، ونظام التوجیه الطرفي على متن المقذوف. وتشكل المعلومات الاستخباریة عن الموقع العام للسفینة المعادیة نقطة الفشل.
لتحدید موقع أسطول، من الضروري أن یكون لدیك بعض الاستطلاع. ویمكن أن یتم ذلك باستخدام الطائرات أو المركبات الجویة غیر المأھولة أو الأنظمة الفضائیة. ویمكن أن تتعثر الطائرات فتدخل منطقة القتل الخاصة بحاملة الطائرات المعادیة. ویمكن إسقاط الطائرات من دون طیار -أو ما ھو أسوأ: تلف إلكترونیاتھا وإشاراتھا المخادعة وما إلى ذلك. ومع أنه لا یوجد شيء بلا خطر، یجب أن تكون المنصة الإستراتیجیة الرئیسیة لمراقبة المحیط موجودة في الفضاء. فالفضاء وحده یتیح اتساع الرؤیة لتوفیر إرشادات مفیدة للصواریخ التي تفوق سرعتھا سرعة الصوت، والتي یجب أن تتمتع بمدى واسع حتى تكون أكثر فاعلیة.
إذا أصبح مفتاح التحكم في البحر ھو الصاروخ الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، فإنه یكون مثل الطائرة على حاملة الطائرات أو المدافع في البارجة. إنه الذخیرة القابلة لتسلیم الحزم المتفجرة عند العدو. ولكن، مثلما یجب أن تكون لدى الطائرة على متن حاملة الطائرات أو المدافع الحربیة معلومات الاستھداف، فكذلك یجب أن تكون للصاروخ فائق السرعة، أینما كان متمركزاً. ویجب أن یكون المصدر الرئیسي لمعلومات الاستھداف الاستراتیجي في الفضاء.
وھذا یعني أن السیطرة على البحر ستعتمد على نظام فضائي یتحكم في الذخائر. وقد شرعت حاملات الطائرات في فصل منصة الاستھداف عن المقذوف الذي ترسله. ویجعل الصاروخ الأسرع من الصوت ھذا الأمر رادیكالیاً عن طریق أخذ منصة الاستھداف بعیداً عن البحر وإلى الفضاء، وأخذ المقذوف الذي سیتم تسلیمه بعیداً عن السفینة وإلى الیابسة.
مع ازدیاد المدى والنطاق، یصبح نشر الصواریخ الأسرع من الصوت في البحر – أو حتى على متن الغواصات- أمراً خطیراً. فالبحر یجعل من الصعب للغایة إخفاء منصة الإطلاق. والیابسة ملیئة بالطیات والثقوب والغطاء النباتي، والتي تكملھا عناصر الإرباك والتمویه من صنع الإنسان. وسوف یتطلب تحدید ھذه المنصات أیضاً توفر الاستطلاع الفضائي وتوفر المدى الممكن للضرب. ولذلك، یجب أن تبدأ الحرب الآن بإصابة العدو بالعمى، وھذا یعني تدمیر أقمار الاستطلاع ثم ملء الفجوة باستخدام الطائرات من دون طیار. وبذلك، یتم بدء الحرب بالھجمات الفضائیة، ویصبح التحكم في الفضاء أساس السیطرة على البحار. ومع ذلك، مع وجود الصواریخ التي تفوق سرعتھا سرعة الصوت على الیابسة، أصبح من الواجب أن تُشن الھجمات على منصات الإطلاق على الیابسة، والتي یجب أن تصبح، بسبب قدرة الأقمار الصناعیة على تحدید مكانھا، متحركة وقادرة على المناورة والاختفاء من أجل البقاء.
الآن، تصبح السیطرة على الفضاء ھي أساس السیطرة على البحار. ویستطیع أولئك الذین یستطیعون رؤیة صواریخ العدو أن یدمروه، وأن یفعلوا ذلك بسرعة بالصواریخ بعیدة المدى والأسرع من الصوت. وبذلك، یكون الحرمان من إمكانیة استخدام الفضاء ضروریاً لحمایة السفن التجاریة من ھجوم العدو. ونحن لسنا بعیدین عن ھذا الواقع. فالأقمار الصناعیة والطائرات من دون طیار موجودة مسبقاً، كما تظھر أجیال جدیدة من الصواریخ الأسرع من الصوت باستمرار. وفي السابق، تحولت السیطرة على البحر من سطح البحر إلى الجو، وھي تتحول الآن من الجو إلى الفضاء. ولا یغیر ھذا من جوھر الجغرافیا السیاسیة، لكنه یغیر حقاً طبیعة الحرب.
المصدر: جیوبولیتیكال فیوتشرز/ الغد الأردنية