عمر كوش
يعيش اللاجئون السوريون في تركيا، وخصوصا في مدينة إسطنبول، في أيامنا هذه، حالة من التوتر والقلق المشوب بالخوف على وجودهم ومستقبلهم فيها، بعد الحملة التي بدأتها الشرطة التركية ضدهم، من أجل تطبيق جملة من القوانين والقرارات الصادرة عن الحكومة، بشأن تنظيم وجود المهاجرين والأجانب في المدينة. وجاءت الحملة على الوجود السوري في إسطنبول وسواها بعد التغيرات السياسية الجديدة التي طرأت على المشهد السياسي التركي أخيرا، حيث جاءت التغيرات التي تخص السوريين محمولة، من قادة الحزب الحاكم هذه المرّة، لتتولى تنفيذها الحكومة التركية ومؤسساتها وأجهزتها، على خلفية إرهاصات الانتخابات المحلية وارتداداتها، وهي الانتخابات التي أعلنت بداية مرحلة سياسية جديدة في تركيا كلها، وليس في إسطنبول فقط.
وإذا كان موضوع اللاجئين السوريين، ووجود السوريين بشكل عام في تركيا، قد شكّل مادة للتوظيف والتجاذب السياسي ما بين حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وأحزاب المعارضة التركية، وخصوصا في الاستحقاقات الانتخابية، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة، لأنه جاء في سياق المراجعات التي بدأت قيادات “العدالة والتنمية” القيام بها، بعد خسارة رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة وسواهما، فصدرت القرارات التي تخص الوجود السوري، بعد اجتماع الرئيس أردوغان مع هيئة القرار المركزي في الحزب الذي عقد في 11 يوليو/ تموز الجاري اجتماعا لتقييم نتائج الانتخابات المحلية.
وبصرف النظر عن أي اعتبار في الحسابات السياسية الداخلية التركية، فإن تناول الوجود السوري في تركيا، باعتباره مدخلا لمراجعة أسباب خسارة الانتخابات البلدية في المدن الكبرى، يعتبر مدخلاً غريباً بعض الشيء، وبعيداً عن الواقع، ذلك أن الخسارة لا تنحصر في الورقة السورية وتوظيفاتها السياسية، بل في أمور أخرى عديدة، وأكثر أهمية وتأثيراً، يعزوها بعضهم إلى أداء قيادة حزب العدالة والتنمية وسلوكه، واستقالة وإبعاد قيادات مؤسسة للحزب، كان لها دور في صعود نجمه، واتهامات الفساد التي طاولت قيادات وكوادر في الحزب، وإلى إرهاصات الانتقال إلى النظام الرئاسي، واتساع حملات الملاحقة والاعتقال على خلفية المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز 2016، فضلاً عن تباطؤ وتيرة نمو الاقتصاد التركي، وتدهور الوضع المعيشي للشرائح المتوسطة والفقيرة، وزيادة نسبة البطالة والتضخم، وارتفاع الأسعار وسوى ذلك.
ساهمت أحزاب المعارضة التركية كثيراً في إشاعة الخطاب المعادي للسوريين، وفي إثارة نزعات كارهة ومعادية لهم، وساهمت، إلى جانب معظم وسائل الإعلام التركية، في إلقاء تبعات تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للأتراك على السوريين، الأمر الذي جعل نسبةً لا يستهان بها من المواطنين الأتراك، وخصوصا الفقراء منهم، يصبّون جام غضبهم واستياءهم على اللاجئين السوريين، زاعمين أن ارتفاع الأسعار، ولا سيما إيجارات السكن، وارتفاع نسب البطالة، وتدهور أوضاع معيشتهم، سببها الوجود السوري، مع أن غالبية السوريين في تركيا يتقاسمون مع الأتراك صعوبات الأوضاع المعيشية، فضلاً عن تبعات النزعات الرافضة لوجودهم وارتداداتها وسوى ذلك.
وقد جرى توظيف مسألة اللاجئين السوريين سياسياً منذ سنوات، حتى باتت مادة للتجاذب والجدل ما بين أوساط أحزاب المعارضة والحزب الحاكم مع كل استحقاق انتخابي، وأثارت لغطاً كبيراً في الأوساط السياسية التركية، ولكن تغير خطاب حزب العدالة والتنمية حيال السوريين جعله يتبنى خطاب المعارضة نفسه حيال السوريين، إذ لأول مرة يتحدث الرئيس أردوغان عن تشجيع عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، “عبر ترحيل من ارتكب منهم جرائم، وسنأخذ الضرائب منهم مقابل العلاج الطبي الذي يتلقونه”، معلناً بذلك نهاية مرحلة بأكملها.
وكانت أحزاب المعارضة تلقي اللوم على السوريين في خساراتها الانتخابات، وتلفق حوادث ودعاوى بشأن مشاركة اللاجئين السوريين في الانتخابات لصالح أردوغان وحزبه، بل وكانت تتحدث عن أن الرئيس يريد من تجنيس السوريين الحصول على أكثر من مليون ونصف مليون صوت لمصلحته ومصلحة حزبه، وأنه يريد إحداث تغيرات ديموغرافية في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من تركيا، مع أن وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، أعلن أخيرا أن عدد المجنسين السوريين 79 ألفاً و800 شخص فقط من بين 3.6 ملايين سوري في تركيا. وكانت المعارضة التركية تمارس فقه النكاية حيال كل خطوة يتخذها أردوغان وحزبه الحاكم، في صراعها على السلطة معهما، ولكن الغريب أن يعتقد قادة “العدالة والتنمية” أنهم، في تشددهم حيال الوجود السوري في تركيا، سيسحبون الذريعة والسبب الذي جعل مرشحي المعارضة يفوزون في انتخابات بلديتي إسطنبول وأنقرة وسواهما من المدن الكبرى. غير أن الفائر برئاسة بلدية إسطنبول (مرتين)، أكرم إمام أوغلو، لم يرفع أي شعار معاد للسوريين، ولم يفعل كذلك نظيره في أنقرة، كما لم يطالب أو يتعهد بترحيل اللاجئين السوريين، وذلك بالتضاد مع ما يطرحه قادة حزب الشعب الجمهوري المعارض وأنصاره، بل تعامل مع مسألة اللاجئين السوريين بلغةٍ إنسانية، تنهض على ضرورة مساعدتهم، وخصوصا الأطفال منهم، وكذلك لم يصدر عن رئيس بلدية أنقرة الكبرى أي تصريح معاد للسوريين، على عكس ما كانت تطرحه أحزاب المعارضة حيال السوريين. ولعل من اللافت أن مرشح حزب العدالة والتنمية، بن علي يلدريم، حمل على السوريين بشدة، عشية جولة إعادة الانتخابات البلدية في 23 يونيو/ حزيران الماضي.
وقد استطاعت المعارضة التركية أن تحول ورقة الوجود السوري إلى مسألة وطنية، ذات لبوس قومي شوفيني، مجرّدة من أي بعد قانوني دولي أو إنساني وأخلاقي، مع أن مسألة اللاجئين السوريين يتوجب النظر إليها من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، ومدى وجود بنية قانونية تحمي الإنسان، وتحفظ حقوقه، بصرف النظر عن جنسيته، طالما يوجد على الأرض التركية. وقد اختبرت هذه المسألة مدى قدرة مؤسسات الدولة التركية على اتخاذ إجراءات وضوابط قانونية، يمكنها كسر الجمود في هذه الأزمة الإنسانية الكارثية التي يعاني من تبعاتها ملايين السوريين، بعدما أجبرتهم الحرب الشاملة التي خاضها النظام السوري، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، ضد غالبيتهم، إلى مغادرة بلادهم، وباتوا يعانون كثيراً من تبعات النزعات الكارهة للأجانب، إلى جانب تبعات التهجير القسري، وصعوبات العيش.
لا أحد يمكنه نكران ما قدمته الحكومة التركية للاجئين السوريين، حيث استقبلت ملايين السوريين، بصرف النظر عن انتماءاتهم ومناطقهم، وسنّت قانون الحماية المؤقتة الذي يضمن حق الإقامة والعمل والتعليم والطبابة لهم. وكان السوريون يتمتعون بالحماية من الترحيل القسري الإجباري، ويشعرون بنوع من الأمان، ويتلقّى اللاجئون منهم، حاملو بطاقة الإقامة (الكيمليك) بعضاً من دعم مؤسسات الدولة في بعض المجالات الصحية والتعليمية، فيما يتلقى المقيمون في المخيمات (بقي منهم 104 آلاف سوري) بعض الدعم المالي الذي لا يغطي احتياجاتهم. ولكن القوانين الجديدة تجرّدهم من ميزات قانون الحماية، وخصوصا الطبابة المجانية، والتنقل بين الولايات، والأهم أن أصحاب النزعات الكارهة للأجنبي سيستقوون أكثر على السوريين وسواهم.
واتبعت تركيا سياسة الأبواب المفتوحة مع تدفق اللاجئين السوريين، فيما كان خطاب قادة حزب العدالة والتنمية ينهض على مقولتي “الضيوف” و”المهاجرين والأنصار”، وليس لدى هاتين المقولتين أي مرتكز أو متحقق قانوني في تعاملات الدول مع اللاجئين. واليوم يجري التخلي عنهما بكل بساطة. وقد أدى هذا التعامل إلى وجود ثغراتٍ قانونيةٍ عديدة، سواء من حيث جهة الإقامة، أو التعليم أو الطبابة أو العمل، التي تريد الحكومة التركية اليوم تغييرها عبر حملتها على السوريين. وفي جانب الإقامة والعمل، راح السوريون الذين يوجد معظمهم خارج المخيمات يبحثون عن عمل في مختلف أرجاء تركيا، ومن الطبيعي أن تكون إسطنبول وجهتهم الأولى، بوصفها المدينة الكوسموبوليتية الوحيدة في تركيا، والعاصمة الاقتصادية والسياحية فيها. ومن بين 3.6 ملايين سوري يوجد أكثر من مليوني سوري في سن العمل، حسب تقارير منظمات حقوقية ومراكز دراسات. وقد عمل السوريون في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية، فنهاك رجال الأعمال وأصحاب الشركات، حيث جرى تأسيس أكثر من 15 ألف شركة في تركيا، حسب أرقام وزيرة التجارة التركية روشار بيكان. وتتحدث تقارير غير رسمية عن أن حجم الأموال السورية المستثمرة في تركيا يتعدى عشرة مليارات دولار. وأظهر تقرير لمعهد بروكنغز أن ما يقارب نصف مليون سوري يعملون في شتى القطاعات الاقتصادية والزراعية، ولكن من حصلوا على إذن عمل 65 ألفا منهم، ما يعود إلى عاملين: الأول أن السوريين يواجهون معوقات بيروقراطية للحصول على أذونات العمل التي تحتاج المال والوقت، فضلاً عن أن القوانين التركية تطالب بأن يُشغّل صاحب المعمل أو الشركة أو المؤسسة خمسة عمال أتراك مقابل كل عامل أجنبي، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في مجالات عديدة، وخصوصا التي تعتمد على اللغة العربية أو على الزبائن العرب، مثل وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، والأمر ينطبق بدرجة أقل على الورش الصغيرة والمطاعم والمقاهي وسوى ذلك. وثاني العوامل أن بعض أرباب العمل لا يرغبون في حصول عمالهم على أذون عمل، بالنظر إلى تبعاتٍ يستوجبها إذن العمل، من حيث الراتب الشهري للعامل والضمان الصحي وسواهما.
وإذا كان الاقتصاد التركي يعاني، منذ بضع سنوات، من صعوبات وإشكاليات، فهذا مرده إلى السياسات الاقتصادية وعوامل سياسية، ولم يتسبب به وجود السوريين في تركيا، وبالتالي، فإن تنظيم هذا الوجود فيها لا يستوي بإرضاء النزعات الكارهة لهم، من خلال البدء بإعادتهم إلى بلدهم غير الآمن، والخطر على حياتهم، بل يتطلب تخطيطاً استراتيجياً بعيد المدى، وإشراكهم في التعاون مع إدارات الأحياء والبلديات، وفي تعزيز الاندماج والانسجام المجتمعي، وإسهامه في معالجة التحديات والإشكاليات، وإيجاد برامج تدريبية إلى جانب توفير العناية النفسية، والتنسيق مع مختلف الجمعيات والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية. وقد أظهرت دراسة أجرتها، أخيرا، مؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية التركية (TEPAV)، أن المناطق التي تهتم فيها السلطات المحلية بالسوريين، تنخفض فيها نزعة الكراهية ضدهم.
وبدلاً من الحملة على أماكن عيشهم وأعمالهم، من المهم التفكير في وضع خطط تنهي تهميش الوجود السوري وتنظمه، وإيجاد سبل تسهل مجالات العمل أمامهم بطريقة قانونية، وخصوصا أنهم لا يمتلكون جمعيات أو منظمات سورية قادرة على إيصال معاناتهم إلى الجهات التركية، أو تدافع عنهم، لأن أغلب الجمعيات الموجودة يمالئ الحزب الحاكم وقياداته، نظراً لصدورها عن الإيديولوجيا نفسها. والتشكيل السياسي الوحيد، وهو ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، يتلقى الدعم والرعاية من الحكومة التركية، وليس همّه الدفاع عن قضايا اللاجئين السوريين وسواهم، بل إن سفير الائتلاف لدى تركيا أنكر حتى وجود حالات ترحيل إلى مناطق عفرين وسواها، على الرغم من نداءات بعض المرحلين عبر القنوات التلفزيونية وشهاداتهم، وهو الرجل نفسه الذي ورّط السوريين بجوازات صادرة عن الحكومة المؤقتة و”الائتلاف”، كانت تعترف بها الحكومة التركية فترة وجيزة، ثم سحبت اعترافها بها، وبات كل من يحمل ذلك الجواز عرضة للتوقيف والترحيل، بينما لا يزال المسؤول عن إصدارها وقبض ثمنها يتمتع بحظوة لدى القيادة التركية، ويتنقل من منصب إلى آخر في “الائتلاف”.
وحسب دراسات عديدة لمراكز أبحاث تركية وسواها، يشكل السوريون قوة اقتصادية لا يستهان بها، بالنظر إلى ما يملكونه من خبرات وقدرات ورغبة بالعمل. وليس صحيحاً أنهم خطر على تركيا، أو سواها من البلدان التي لجأوا إليها هرباً من القتل والدمار. وبدلاً من محاولات التضييق عليهم والدعوات إلى إعادتهم قسرياً إلى بلدهم، فإن عودة غالبيتهم مرتبطة بإيجاد حل سياسي عادل، ينهي الكارثة الإنسانية التي سببها النظام الأسدي وحلفاؤه الروس والإيرانيون.
المصدر: العربي الجديد