إبراهيم صموئيل
قبل أن يدير السائق المقود بحركة مفاجئة، ويحيد الباص الى يمين الشارع، في المسافة القصيرة بين موقفي القزازين والمعرض، ويتوقف.. كان كل راكب من الواقفين يمسك بمسند مقعد مجاور، أو أنشوطة جلدية، أو حافة نافذة أو كتف راكب أخر.. هم يتماوجون ويتلاطمون من عزم السرعة وحدّة الانعطافات لدى تجاوز السيارات الأخرى وفيما كانت عيونهم تشخص الى الواجهة الأمامية نحو الطريق-كأنهم يشاركون في القيادة- يشهق بعضهم مع فرملة خاطفة، وبعضهم يبسمل ويحوقل لحظة إقلاع جديد، يتلهله بعضهم لو مال الباص، ويلعن بعضهم إن فشل في تجاوز أو عبور.. تراهم قلقين مضطربين فزعين، كما لو أنيطت قلوبهم الى عجلات الباص ووضعت أرواحهم على أكفهم حتى تأتي ساعة الفرج ويصلون الموقف الأخير..
وفوق هذا كله، فان غزارة الأمطار صبيحة ذلك اليوم قد أسهمت، كما يبدو، في دب الرعب والتوجس في نفوس الركاب من انزلاق مفاجيء أو تصادم مباغت يودي بحياتهم جميعا أو حياة غالبيتهم على اقل تقدير.
ولذا ما أن حاد الباص وتوقف حذاء الرصيف.. حتى كانت وجوه الواقفين قبل الجالسين، قد بشت كأنهم استعادوا أنفاسهم بعد احتباس طويل!
غير أن البشاشة لم تدم سوى لحظات، إذ سرعان ما شدّ الفضول الركاب لمعرفة سبب التوقف هذا، خصوصا وانه تمّ على عجل، وبين موقفين، وفي ساعة الصباح، وقت توجه الناس الى وظائفهم وأعمالهم.
ولم يحتج الأمر الى انتظار! فحال توقف الباص، التفت السائق، واضعا سبابته على صدغه، وقال لراكب مربوع يقف خلفه، بنبرة عصبية وصوت ممطوط:
أخي.. أنا بمشي على كيفي، مو على كيفك وكيف التاني والتالت.. فهمت؟!
ردّ الراكب المربوع بتحدّ:
لأ سيدي ما فهمت! بدك تمشي على كيفي وكيف غيري وعلى مهلك كمان.. اي خير إن شاء الله طاير طيران؟!
– بطير ما بطير انت ما دخلك!
-دخلني ونص.. انت مو وحدك بالباص.. معك أرواح.. العمى صحيح!
هاج السائق:
– العمى يعميك ولاه.. أنا ما بمشي غير على كيفي.. ما عجبك شرف انزيل!
– لك شو انزيل ما انزيل.. هادا باص أبوك هاد؟!
– اي سيدي.. باص أبي ونص..
– لأ سيدي.. مو باص أبوك، وبدك تمشي على مهلك مو بكيفك..
– لأ باص ابي وبدك تنزل ورجلك فوق رقبتك
وهبَّ السائق واقفا، فيما اندفع بعض الركاب يفصلون بينهما. صاح راكب من الخلف:
وكلّوا الله يا جماعة.. الشغله مو محرزة..
التفت الراكب المربوع الى الخلف:
– يا اخي شلون مو محرزة.. مانك شايفه طاير متل الطيارة؟!
صاح السائق:
– وبدي طير متل الصاروخ كمان.. انا سائق الباص مو انت.. شرّف علمنا السواقه.. حلو والله!!
تدخّل راكب موجها كلامه للرجل المربوع:
– ولك يا خيو.. ليش من كل هالناس ما حدا حكى غيرك؟ أي اترك الزلمة يسوق على كيفه.. بدنا نروح لشغلنا!
عقّب السائق ساخرا:
– لأنه حضرته لعوجي وكثير غلبه.
ردّ الراكب المربوع:
– ولك لأنك انت اهوج وطايش.. بس مو الحق عليك.. الحق ع الساكتين لك.. لأنه والله لو في مين يردك ما كنت عملت فينا هيك..
هبّ السائق ثانية:
بتطلع ستين أهوج وحمار ولاه..
وكادا يتشابكان لولا ازدحام الركاب وتدخلهم، صاح رجل عجوز مغتنما برهة صمت:
– يا ابني والله عيب.. امشي وتوكل ع الرحمن..
رد السائق:
– لا وحياة عينك.. ماني متحرك إلا ما ينزل وامشي على كيفي.. وهه..
وأوقف المحرك فكتم هديره وعلا هدير الركاب. علّق فتى جالس في الخلف:
– أي شو عليه.. يللي ببيت أهله على مهله..
أضاف رجل نحيل جالس قربه:
– يا جماعة.. المستعجل يأخذ تكسي..
عقّبت امرأة واقفة تحمل طفلا:
يا أخي منشان الرسول امشي.. يوه الولد رح يموت من البرد!
ردّ السائق مشددا على كل كلمة كمن يعلن عن بضاعة:
– ماني ماشي.. لحتى الأفندي.. يشرف وينزل
ثم رفع ساقيه فوق غطاء المحرك واستند الى النافذة.
راكب طويل بدين يبلغ الأربعين تقريبا، كان يقف جوار الراكب المربوع. التفت إليه يلكزه نابرا:
– وحضرتك ليش كتير غلبه.. ما تترك السائق يمشي على كيفه وما تدّخل؟!
اندهش المربوع:
– شلون على كيفه! يهورنا أحسن؟ نحن عبيد مراقه؟!
ردّ الرجل الأربعيني بحزم وتحدّ:
– اي سيدي.. نحن عبيد مراقه.. احترم حالك.. هو موظف وبيعرف مصلحة الناس اكتر منك- فهمت؟
ورغم انه لَفظَ “فهمت؟” هذه بلهجة التهديد والوعيد..غير أن الرجل المربوع علّق متعجبا:
– وإذا كان سائق الباص..؟! يعني نحنا طرش غنم! يعني بتصير أرواح كل هالناس على حسابه!
ولم يكد يلتفت نحو الركاب، كما لو كان يسألهم، يأمل مؤازرتهم.. حتى امسكه الأربعيني من كتفه ودفعه نحو الباب دفعا. عندها، بدوا الركاب وكأنهم، بفارغ الصبر، كانوا ينتظرون هذه اللحظة.. فتزاحمت الأيادي تدفعه، وتداخلت التعليقات:
– أي نزلو خيو.. حاجتو فلسفه..
– لك نزلو.. نزلو.. مو ناقصنا محامين..
– نزلو.. يعني منشان زلمه نتعطل عن شغلنا..
– نزلو.. يقطع عمره شو كتير غلبه.. كنا وصلنا هلق..
– اي نزلو. متنا من البرد.. يوه..
من داخل الباص، وعبر نوافذه المغلقة وبدا الرجل المربوع والذي قذف للخارج، حزينا ومغردا تحت المطر، يحاول مداراة خيبته واستيائه بتطويحات طائشة من يديه.. أما الركاب في الداخل، فقد انتشرت بينهم، للوهلة الأولى، حمى الهرج، وكأنما لذّ لهم انكسار الرجل المربوع وعلائم الظفر على وجه السائق، فأفلتوا تعليقاتهم المشجعة:
– شدّ.. الله مع دواليبك..
– روح.. لا تلحقني مخطوبة
– مر وعدي بس اوعا التحدي
– روح شايفلك
سوى أنهم، في الوهلة الثانية، حين عشّق السائق السرعة، وجأر الباص مقلعا كثور هائج- انخطفوا الى الخلف وشهقوا، ثمّ استووا صامتين، يمسك كل منهم بمقعد مجاور، أو أنشوطة، أو كتف أو نافذة.. يتمايلون ويتلاطمون.. مبسملين، قلقين، متهلهلين، مذعورين وكما لو أن قلوبهم أنيطت الى عجلات الباص، ووضعت أرواحهم على أكفهم حتى تأتي ساعة الفرج ويصلون الموقف الأخير.