سميرة المسالمة
لا جديد في مشاهد جولة أستانة 13 بشأن سورية عن سابقتها 12، على الرغم من الضيوف الطارئين، وهو ما يمكن قوله سلفاً عن “أستانة 14”. وإذا كانت الجولات جميعها تدور في فلك المصالح الدولية والإقليمية نفسها، والتي عبّرت عنها تركيا قبل عام من هذا الاجتماع أخيرا في العاصمة الكازاخستانية، نور سلطان، من خلال ورقتها البيضاء التي طرحتها في يوليو/ تموز 2018، المتضمنة تفاهمات غير مشروطة مع روسيا مقابل الحفاظ على هيمنتها المطلقة على أجزاء من أرياف حماه واللاذقية وحلب وإدلب المدينة وريفها، وتعهدت آنذاك أن تلزم جميع الفصائل، ومن بينها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، على تسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، والانصهار في جيش واحد. وفي المقابل، تضمن تركيا لروسيا، وضمنيا للنظام السوري، فتح الطريق الدولي حلب – دمشق، حلب – اللاذقية، الأمر الذي لم تمرّره موسكو، وسارعت إلى احداث تغييراتٍ لونت الورقة التركية (البيضاء) بما يسمح لروسيا بالموافقة عليها لاحقاً، من خلال وضع تركيا لـ”النصرة”، بشكل واضح وصريح، على قائمة الإرهاب؛ وهو ما فعلته تركيا قبل الذهاب إلى عقد اتفاق أستانة في سبتمبر/ أيلول 2018 في سوتشي.
وبالتالي، الحديث عن وقف إطلاق نار مشروط في إدلب اليوم مجرّد خبر روسي استهلاكي، على الرغم من إعلان النظام السوري عنه “بادرة حُسن نية”، بحسب مندوبه في الأمم المتحدة ورئيس وفده للتفاوض في أستانة، بشار الجعفري، مكرّراً اتهاماته لتركيا وللمعارضة المسلحة، ومعها جبهة النصرة، التي وصفها جميعها بالإرهابية، بعرقلة تنفيذ اتفاقات أستانة، بعدم تنفيذ .
وضعت تركيا “النصرة” على قائمة الإرهاب قبل الذهاب إلى عقد اتفاق أستانة في سبتمبر 2018 في سوتشي سحب الفصائل المسلحة وأسلحتها الثقيلة والمتوسطة إلى عمق 20 كلم، متناسياً أن إدلب التي تقصفها قوات بلده يسكنها سوريون هجروا قسرياً إليها، وأن العمليات العسكرية برمتها، منذ بدء الثورة السورية 2011، كانت تستهدف المدنيين والبنية التحتية، من دون أن تلحق أي خسائر بمن يصفهم “الإرهابيين”، بدليل أنهم يعيدون تشكيل أنفسهم، المرة تلو الأخرى، أي لا أثر لتلك العمليات الحربية عليهم، ما يعني أن خفض التصعيد هو مجرّد استراحة قسرية لقوات الأسد، تفرضها روسيا أو إيران عليه، ريثما يتم الوصول إلى تفاهماتٍ بينيةٍ دولية، ما يعني أن خرق هذه “الاستراحات” أو “الهدن”، أو الالتزام بها، ينشأ من الخلافات الدولية الناجمة عن بعد أو قرب تقاطعات الولايات المتحدة مع كل من روسيا وتركيا كل على حدة، أو مجتمعتين.
أي أننا اليوم أمام حدث مكرّر منذ أول اتفاق لمنطقة خفض التصعيد في إدلب في (4 مايو/ أيار 2017) منذ أكثر من عام وأربعة أشهر سابقة على اتفاق قمة إدلب في سوتشي، والذي كان عاصفاً بالموت السوري على يد قوات النظام والطيران الروسي، ما استدعى قمة ثلاثية في إيران (سبتمبر/ أيلول 2108)/ جمعت الرؤساء الضامنين (إيران وتركيا وروسيا) لم تسفر عن إنهاء المذبحة السورية، لأسباب دولية، منها انعقاد الاجتماع في طهران، حيث لن تسمح واشنطن أن ينتج عنه أي مخرج لمصلحة إيران، حتى لو كان سياسياً، فكانت الدعوة إلى قمة ثنائية (الرئيسان الروسي بوتين والتركي أردوغان)، نتج عنها اتفاق إدلب الذي لم يصمد إلا أسابيع قليلة، وعادت جبهة النصرة لتتصدر المشهد، بحربها على الفصائل، وتمدّدها على معظم إدلب، ما وفر لروسيا الغطاء لشن حربها على السوريين في إدلب، وتكبيدهم مئات الضحايا، وتدمير المدن على رؤوس سكانها، وتشريد مئات آلاف من المدنيين.
نعم، المشهد مكرّر بكامل أفعاله و”أدوار البطولة” فيه، مع خرقٍ بسيط في إنتاجه أن المئات من الضحايا السابقين لا يمكن إحياؤهم من جديد، ليعيدوا المشهد مع الضامنين، ولهذا فقط أسماء الضحايا السوريين هي الجديدة، في حدثٍ يتكرّر، ويسبق كل جولة، ليخرج ممثلوه باستصدار البيان نفسه، والتصريحات المملة والكاذبة نفسها.
وحيث توسعت دائرة الفاعلين الدوليين شكلاً (روسيا وتركيا وإيران والأردن ولبنان والعراق)، تقلص الوجود السوري مضموناً ومصالحاً وتمثيلاً، وعادت مخرجات اتفاق سوتشي (بوتين- أردوغان) 17 سبتمبر/ أيلول 2018، للتداول كحركة ارتجاعية للزمن، تسقط من خلالها أحد عشر شهراً من عمر السوريين، بما يحمله ذلك الزمن من عمليات قصف وتدمير للبنية التحتية، وقتل وتشريد لأهالي إدلب وساكنيها، أي تصفير الجرائم الروسية المرتكبة، ومقابلها تصفير جرائم جبهة النصرة في الوسط الذي تحكمه، وسط ترحيب دولي وتواطؤ بين ضامني الاتفاق، وأدواتهم المحلية الموزّعة على ضفتي النظام والمعارضة، ما يعني أننا أمام اعترافٍ بالشراكة بين الضامنين عن تعطيل تنفيذ بنود الاتفاق منذ إعلانه، وحتى تاريخ إعلان النظام يوم الخميس الماضي، الأول من شهر أغسطي/ آب الحالي، عن وقف مشروط لإطلاق النار، ووضع الكرة بملعب الضامن التركي والفصائل المسلحة، لتنفيذ مستحقات الاتفاق التي أعلن الرئيس التركي قبل عام عن خطوات عملية مجدولة زمنياً، سرعان ما تبين عدم جدّيتها على الأرض.
سيقتنص النظام المدعوم روسياً وإيرانياً الفرص المتاحة لإعادة ما يريده من أرض سورية إلى خريطته، وإحدى أهم أدواته هي اتفاقات خفض التصعيد التي سلمته على أساسها من تدّعى “المعارضة المسلحة” معظم الأراضي الخارجة عن سيطرته، من حمص حتى الغوطة وريف دمشق، وصولا إلى درعا، وليس الشمال السوري بالخطة الحالية إلا معبراً لذلك، حيث بدأ التنفيذ من انسحاب “النصرة” في وقت مبكر (2018) من 250 قرية، معظمها في إدلب وريف حلب، لفصائل تحت الولاية التركية، لتضمن لتركيا تنفيذ وعودها في تسليم الطرق الدولية، في مقابل تمكين “النصرة” من الهيمنة على إدلب كأداة لابتزاز المجتمع الدولي.
وما يجب ذكره أن الورقة البيضاء التركية آنذاك تحوّل معظم مضمونها إلى اتفاق إدلب. ولذلك استعرت معركة النظام لاسترداد خان شيخون وأريحا وجسر الشغور تحت وطأة الضربات الجوية الروسية، أي تسليم الجزء الغربي من سهل الغاب، وصولاً إلى قلعة المضيق، في مقابل أن تبقى إدلب المدينة وبعض ريفها بيد المعارضة، حفاظاً على الكثافة السكانية التي لا يريد النظام حالياُ تحمل أعباء خدماتها، خلافاً لكل البيانات عن سيادة الأراضي السورية ووحدتها، والأهم من ذلك وحدة شعبها المفتت مضموناً اليوم وأهدافاً وتبعيات.
المصدر: العربي الجديد