مروان قبلان
على خلاف العادة، لم يأت شهر أغسطس/ آب هذا العام بأخبار سارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي لطالما استغل فترة العطلة ليفاجئ العالم بقرارات وإجراءات تضيف لرصيده الداخلي، وتعزّز سلطاته التي باتت “قيصرية” في الداخل، ومكانته في الخارج. على العكس تماما، جاء آب هذه السنة صعبا ومقلقا للرئيس الذي يأخذ استطلاعات الرأي العام بأقصى درجات الجدّية والاهتمام. وبخلاف الانفجار النووي في قاعدة عسكرية روسية في البحر الأبيض، شمال البلاد، في الثامن من الشهر الجاري، وقال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنه ناتج عن فشل تجربة إطلاق الصاروخ “سكاي فول الأسطوري”، شهدت موسكو أوسع احتجاجاتٍ شعبية ضد نظام الرئيس بوتين منذ احتجاجات العام 2011، والتي جاءت حينها بسبب تزوير الانتخابات التشريعية التي فاز بها حزب روسيا الموحدة الذي يقوده بوتين.
شارك في احتجاجات موسكو أخيرا التي تسبب بها التضييق على المعارضة الليبرالية، ومنعها من الترشح لانتخابات برلمان موسكو المحلي، نحو 60 ألف متظاهر. وبمقدار ما أعادت الاحتجاجات الروح للمعارضة التي بدا وكأنها دخلت حالة موات منذ قرار بوتين غزو القرم في فبراير/ شباط 2014، ثم التدخل العسكري في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، والتي رفعت شعبيته الى مستويات غير مسبوقة (84%)، فقد صدم حجم المشاركة فيها السلطات في المقابل.
وضاعف حجم القلق أن هذه المظاهرات، فضلاً عن أنها جرت في موسكو، أخذا بالاعتبار ما للعاصمة من مكانة ورمزية لدى أنظمة الحكم المركزية، جاءت في سياق انهيار شعبية الرئيس التي بلغت أدنى مستوياتها منذ صعد إلى السلطة مطلع العام 2000 (43%). كما أنها تأتي في فترة بلغت فيها العلاقات مع الغرب، وخصوصا مع الولايات المتحدة، أسوأ حالاتها منذ نهاية الحرب الباردة، حتى أنه يمكن وصف علاقات موسكو بواشنطن بأنها في حالة انهيار تام، خصوصا بعد انسحاب الأخيرة من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية القصيرة والمتوسطة المدى، وتمديد الاتحاد الأوروبي عقوباته الاقتصادية على موسكو لعام آخر، بسبب الأزمة الأوكرانية، والانخفاض النسبي في أسعار النفط.
وهناك فوق ذلك كله تغييران آخران ينبغي التنبه إليهما عند الحديث عن الوضع الداخلي الروسي: الأول مرتبط بالتطور الذي طرأ في تفكير الشعب الروسي، وأخذ ينعكس في سلوكه الجمعي، فلطالما عُرف عن الروس، أو هكذا جرى “تنميطهم”، بأنهم مستعدّون لتحمل القهر والاستبداد وشظف العيش في سبيل أن يروا بلادهم قوية ومؤثرة على الساحة الدولية، وقد استثمر حكام روسيا منذ أيام بطرس الأكبر (1682-1725) في هذا “الميل الجمعي” الروسي لتحقيق أحلامهم الإمبراطورية على حساب طموحات شعبهم في حياة حرة كريمة. والواقع أن روسيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تعرف حياة ديمقراطية حقيقية عبر تاريخها الممتد من أيام قيصرها الأول إيفان الرهيب (1547-1584)، إلا إذا اعتبرنا أن سنوات حكم يلتسين (1991- 1999) كانت ديمقراطية. يبدو من مظاهرات موسكو، ومن نسب التأييد المنخفضة للرئيس بوتين، أن هذا الأمر صار من الماضي، وأن الشعب الروسي بات يهتم اليوم بأن يحيا حياة حرة كريمة، كغيره من شعوب الأرض، أكثر مما يهتم بامتلاك شعور خادع بالأهمية على الساحة الدولية، محسومة من رفاهه وازدهاره.
التغيير الآخر المهم يأتي في الاتجاه المعاكس، ويتصل بطريقة إدارة الرئيس بوتين نفسه للسياسة الخارجية الروسية، فالرئيس بوتين، وعلى الرغم من أن سنوات نشأته الأولى كانت أيام الاتحاد السوفييتي، وتربى في أجهزة استخباراته، إلا أنه تبنى، منذ توليه السلطة، سياسة خارجية تقوم على أسس نفعية خالصة، لا مكان فيها للأيديولوجيا. بدأ هذا الأمر يتغير في السنوات الأخيرة، إذ بات بوتين مهووسا بصراعه مع الغرب، ومستعدا لمقارعته في كل مكان تقريبا، حتى ولو جاء ذلك بأثمان كبيرة، وفوق طاقة روسيا الاقتصادية المتواضعة على تحمله. من الواضح أن العداء للغرب بدأ يتحول عند بوتين إلى دين وأيديولوجيا باتت تتملكّه حتى استحوذت عليه، إذ راح يرى في كل شيء تقريبا مؤامرة غربية تستهدفه، حتى يظن المرء أنه أمام النسخة الروسية من ملحمة “دونكيشوت” الإسبانية، بقلم فلاديمير بوتين، وبنهايتها المأساوية المعروفة.
المصدر: العربي الجديد