ناصر دمج
بعد أن علم د. حيدر عبد الشّافي رحمه الله، بوجود اتفاق بين “إسحاق رابين” و “ياسر عرفات”، من فيصل الحسيني، الذي علم هاتفياً بأمر الاتفاق من “إسحاق رابين”، وليس من “ياسر عرفات”، أتصل “حيدر عبد الشافي” بالبرفيسور الأمريكيّ “فرانسيس بويل” المُستشار القانونيّ للوفدِ الفلسطينيّ المفاوضِ في واشنطن، وطلب منه تقييم الاتّفاق الذي أعلن عنه، فأخبره بأنه نسخة من عرض سبق لكم رفضه في واشنطن، لأنه عبارة عن حكم ذاتي محدود للسكان ولا سلطة فيه على الأرض.
رغم ذلك،شكل الاتفاق نفسه شهادة ميلاد السلطة الفلسطينية، ووفقاً له فهي سُلطةُ الحكمِ الذّاتيّ الإداريّ المؤقّت في غزّة وأريحا، يعني ذلك أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي،تخلّص من أعباءِ الكُلفةِ الماليّةِ والأخلاقيّةِ لاحتلالِهِ العسكريّ، وألقى بها لمقاولينَ فلسطينيين؛ قبلوا بالمهمة التيرَسمَت دورهم الوظيفي ضمن منظومةِ الدّفاعِ عن إسرائيل – وفقاً لنصوص الاتفاق نفسه – بما في ذلك التّصدّي للمخاطرِ التي تهدّدُ أمنها، وملاحقةِ الإرهابِ والإرهابيين، والتّعهدِ بعدمِ ملاحقةِ عملاءِ إسرائيلَ من الفلسطينيين، ودعوةِ الفلسطينيين والعربِ إلى تطبيعِ علاقاتِهم مع إسرائيل، لقد حظيت إسرائيلُ بفرصةٍ في مُنتهى الأهميّةِ لمواصلةِ احتلالها للأرضِ والنّاس والسّلطةِ التي تُدير أحوالَهم المدنيّة، فيما بعد تسبّب الاتفاقُ بخسائرَ لا حصرَ لها من رصيدِ الشّعبِ الفلسطينيّ الوطنيّ والأخلاقيّ، وأوّلها أنّهُ شطرَ الفلسطينيين إلى شطريْن.الأول: مؤيّدٌ للاتفاقِ والثّاني: معارضٌ له.
كما خسرَ الفلسطينيون من عمرِهم كاملَ السّنواتِ التي عاشها وسيعيشها الاتّفاق، وهي نفسُ الفترةِ التي ربِحها وسيربَحها المستوطنون مستقبلاً طالما بقيَ هذا الاتفاقُ مجسداً على الأرض، لقد خسرَ الفلسطينيون مشروعَهم الوطنيّ وحلمَهم بإقامةِ دولتهم المستقلّة والمترابطةِ جغرافيًا، لأن عرفات قايضَ صلابةَ الكتلةِ الحيويّة الفلسطينيّة (الأرض والسكان) بوهمِ الدّولة التي لم تقم، ولن تقوم فوق التّراب الوطنيّ الفلسطينيّ، طالما أنّ هناك شيئًا اسمهُ إسرائيلُ في هذا الوجود، وخسرَ الفلسطينيون أيضاً دمهم المسفوكَ على مذبحِ الكفاح من أجلِ العودةِ، وخسروا السّلطة نفسها (كمشروعٍ تجريبيّ) لإدارةِ وتنظيم الحياة اليوميّة في الضّفة الغربيّة وغزّة، بعد أن خسروا احترامَ شعوب العالمِ لهم، وحظوا بسخرية المتهافتين العرب، الذين بدأ تسللهم إلى إسرائيل تحت ظلال الكوفيّة الفلسطينيّة.
إذن، قلب اتفاق أوسلو معادلة الصراع العربي الإسرائيلي رأساً على عقب، وتحولت الثورة القديمة إلى عقبة في منتصف طريق التحرير، وإلى خط إعاقة في وجهِ المناهضة العربية والإسلامية لوجود إسرائيل، وعمقت من حيرة العرب والمسلمين الذين يتلقون دعواتها لزيارة فلسطين المحتلة بموافقة العدو، أو التمسك برفضهم المزمن لمصافحة العدو نفسه الذي ما زال يغتصب الأقصى رغم حلول السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
كما عمق من متاهةَ السّلطة الفلسطينيّة في تحديدِ هويّتها الوطنيّة، في ضوءِ التحاقها بالمهام الأمنيّة الوظيفيّة للجيش الإسرائيليّ، وتحوّلها إلى كيانٍ أمنيٍّ يقدِّم خدماتٍ بالأجرةِ لصالحِ المحتلّ الإسرائيليّ، وتحوّلها إلى أحدِ أقوى أسبابِ انفضاضِ عُرى التحالفِ العربيّ والإسلاميّ المناهضِ لإسرائيلَ، لأنّها شرعت – بسلامِها الخاسرِ- مساعيَ الاتصالِ والتعاونِ الرّسميّ العربيّ والإسلاميّ مع إسرائيل، بعد أن فكّكت الثورة، وبدّدت صلابةَ الكتلةِ الحيويّة الفلسطينيّةِ (الأرض والسكان) ولم تبني الدولةّ، فهيَ الآن في وضعٍ ملتبسٍ على الصعد كافة، قوامُه إنّها لا تريدُ الكفاحَ الشّامل ضدّ المحتلِّ، وليس لديها برنامجٌ سياسيٌّ واضحُ المعالمِ للتّحرير.
تفكيك السّلطة وإعادةِ بنائها
في عام 1999م الذي كان محدداً للاعلان عن نهاية المرحلة الانتقالية، وبدء المفاوضات حول قضايا الحل الدائم، أعد المحافظون الجدد مخططاً لتدمير السلطة كبديل للولوج في مفاوضات الحل الدائم، تم ذلك عندما قدّمَ المحافظون الجُدد في الولاياتِ المتّحدة، قبل وصولهم إلى السّلطة بقيادة جورج بوش الابن، وهم ريتشارد بيل وبول وولفوفيتز ودوغلاس فيث وجون بولتون ودونالد رامسفيلد، أفكارًا خطّيةً لبنيامين نتنياهو وإيرئيل شارون، تنطوي على إلغاء اتفاقِ أوسلو، وإعادة احتلال الضّفة الغربيّة، ورفْضِ مبدأ الأرض مقابل السلام، بهدف خلطِ الأوراق وإعادة ترتيبها من جديد، “وتفكيك السّلطة الفلسطينيّة ومن ثمَّ إعادةِ بنائها من جديد” (المصدر- بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني ص 104) بما يكفل تغيير وظيفتها الوجودية وجعلها كيان أمني خالص، وفرضِ الوصاية الأمنيّة والسياسيّةِ والاقتصاديّة عليها؛ بتشكيل لجانٍ خاصّةٍ للإشراف على إعادة بناء مؤسّساتها بعد تدميرها، الأمر الذي سيحفظ للدور الأمريكي حضوره وفعاليته الدائمة في المنطقة، وهو القائم على إدارة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ لأطول مدىً زمنيٍّ ممكنٍ.
وأكّد على هذه الحقيقة مديرُ مكتب شارون أثناء فترة ولايته الثّانية المحامي (دوف فايسغلاس DovWeisglass) حيث قال: “إنّ شارون أراد تنفيذ عمليّة السّور الواقي التي جرت في بداية نيسان 2002م قبل ذلك بوقتٍ طويلٍ”، وأضاف إلى هذا الحديث (أوري شانيUri Shani) مديرُ ديوان شارون خلال فترة ولايتهِ الأولى ما يلي:
“كنّا نريدُ الدّخول إلى القصبات أي قلب المدن الفلسطينية، والقيامَ بعمليّةٍ عسكريّةٍ ذات معنىً كبيرٍ، والسّيطرة على [يهودا والسامرة] أي الضّفة الغربيّة، والدخول إلى أماكنَ لم يدخلها أحدٌ من قبل، ولا حتى في الفترة الأردنيّة”.
وهذا ما قام به شارون بعد وصولٍ متزامنٍ له وللمحافظين الجُدد، إلى رأس السّلطتين في إسرائيل والولايات المتّحدة، وأضيفت دافعيّةٌ جديدةٌ مشجّعةٌ لدى شارون لتنفيذِ هذه الخطّة، وهي الرّد على خطوةِ عرفات في إشعالِ الانتفاضة، وبعد عام ونصف من القصف المتواصل لمقرّات السّلطة الفلسطينيّة، المدنيّة والعسكريّة، وفي نهاية آذار 2002م، نفّذ الجيشُ الإسرائيليّ خطّةً من شقّيْن.
الأوّل: عسكريٌّ وهو اجتياح الضّفة الغربيّة واحتلالُ المدن، في إطار عمليةٍ بريّةٍ واسعةٍ شارك فيها سلاحُ المدرّعات والطّيران والمشاة عُرفت باسم (السور الواقي). التي بدأت في التاسع والعشرين من آذار عام 2002م والتي نفذت بالتزامن مع عملية أخرى أطلقت عليها قوات الاحتلال اسم (ملقط الجراح) التي استهدفت المدن الكبرى في الضفة الغربية باستثناء مدينة أريحا والخليل والتي امتدت بعد فترة قصيرة لتشمل الامتداد الريفي.
الثاني: سياسيّ وعسكريّ ويحملُ نفس اسم العمليّة العسكريّة وهو البدء ببناءِ (السور الواقي) على طول حدودِ الضّفة الغربية مع إسرائيل وبداخلها.
لقد اختتمت تلك المرحلة بمتغيّرٍ مهمّ جداً مهد لتغيير وظيفة السلطة الفلسطينية بالكلية، وهو الرسالة التي ردّ بها جورج بوش على رسالة إيرئيل شارون، فيما عُرف حينذاك بتبادل الرسائل في 14 نيسان 2004م بينهما، والتي أكّد فيها الرئيس الأمريكي، على ثوابت السياسة الأمريكية التقليدية تجاه إسرائيل، بالإضافةِ إلى اعترافه بها كدولةٍ خالصةٍ لليهود قائلاً : “إنّ الولاياتِ المتّحدة ملتزمةٌ بأمن إسرائيلَ ورفاهيتها كدولةٍ يهوديّةٍ”. (المصدر – من نص رسالة الرئيس جورج بوش إلى شارون ص2/ من وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية)
يعني ذلك أنَّ وجود السلطة التي صممها اتفاق أوسلو انتهى فعلياً مع انتهاء عمليات الاجتياح للمدن الفلسطينية في عام 2002م، وتجسد ذلك بالاتفاق الأمريكي الإسرائيلي على النقاط التالية:-
1- إخفاءُ الشّريك الفلسطينيّ، بَعد نزّع شرّعيتهِ.
2- التصرّفُ في كل أمرٍ من طرفٍ واحدٍ، كما كان الحالُ مع خطّة الانفصال في غزّة التي أيّدها جورج بوش في رسالتِه أيضاً.
3- تأجيلُ إقامة الدّولة الفلسطينيّة إلى ما لا نهاية، أو عندما تُقرّر إسرائيلُ ذلك.
4- إقامةُ جدار الفصل والضّم والعزل.
5- عزلُ القدسِ عن الضّفة الغربية، وشطرُ الضّفة إلى قسمين شماليّ وجنوبيّ، وفصلُ الضّفة عن غزّة.
6- تصميمُ شريكٍ فلسطينيٍّ مستعدٌّ للتوقيع على ما تريدُه إسرائيل، وإعادة بناء السلطة الفلسطينية.
7- اعترافٌ دوليٌّ تدريجيٌّ بيهوديّة الدّولة العبريّة.
لم يكن الدهاء الإسرائيلي والدعم الأمريكي له، سبب نجاح المساعي الإسرائيلية بتحويل السلطة من سلطة تتطلع لقيام دولة فلسطينية إلى سلطة أمنية صرفه، بل كان لانزلاقَ انتفاضة الأقصى إلى الأعمال العسكريّةِ التي شاركت فيها قوى الأمنِ الفلسطينيّة المختلفة، وهو ما اعتبر خطأً لم يتمكّن “ياسر عرفات” من معالجته مطلقاً، وأفقده زمامَ السّيطرةِ والتحكّم بمسار الانتفاضة، والوقوع في الشّرَك الإسرائيليّ الأمريكيّ، وبدت الانتفاضة كحركةٍ فوضويّةٍ تمزج بين العمل الجماهيريّ والمسلّح في آن واحدٍ، لقد أضرّ هذا المشهدُ إعلامياً بصفاءِ الأهداف السياسيّة للانتفاضة، التي سوّقها الإسرائيليون والأمريكيون كمنتج خطرٍ للقنابل البشريّة ضدّ المدنيين اليهود، وتمكّن اللوبي اليهوديّ في أمريكا بمساعدةِ المحافظين الجُدد، من مساندةِ شارون في حربِهِ ضدّ الانتفاضة وتغيير وظيفة السّلطة الفلسطينية. (المصدر- زئيف شيف، شارون لديه خطه، هآرتس 28/6/2002م)
إذن، لم يستفدِ الفلسطينيون من كفاحهم قط مع نهاية انتفاضة الأقصى، سواء بتحويل السلطة إلى دولة أو ببناء السلطة نفسها على نحو يمكنهم من الانتقال من صيغة أوسلو إلى دولة تحت الاحتلال، وتحمّلت حركة فتح وزرَ تلك المرحلة وأخطاءها بالكامل من 2000 – 2006م، وفقدت من رصيدِها الجماهيريّ ما تسبب بفقدانهالأغلبيّتها التاريخيّة في المجالسِ البلدية والمجلس التّشريعيّ الفلسطينيّ، الذي فازت حماس بأغلبيّة مقاعده في انتخابات 2006م.
هذه المحصلة على أيّ حالٍ، لا تختلف عن ما سبقها من محصلات ونتائج ختامية للكفاح الوطني الفلسطيني، لكن ما ميز هذه النتيجة عن غيرها وجعل منها نصراً إسرائيلياً كاملاً، هو تمكنها من وضعُ منظّمة التحرير الفلسطينية في قفصٍ جغرافيٍّ محدود تحت المراقبةِ الإسرائيليّة، وهو متغيير استراتيجي مكنها من تدجين العدوِّ القديم والاستحواذ عليه، وجعله شريكاً تابعاً لا موازياً، ومسخراً لخدمة المنتصر.
مصادر المقالة ومراجعها
1- بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني ص 104
2- من نص رسالة الرئيس جورج بوش إلى شارون ص2/ من وثائق وزارة الخارجية الإسرائيلية.
3- زئيف شيف، شارون لديه خطه، هآرتس 28/6/2002م.