أحمد جابر
دأبت العادة على تذكر جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية كلما دنا موعد تاريخ إعلانها، ويكرر أبناء تلك الجبهة سرد أعمال أفرادها، على لسان أصحاب السيرة الأصليين، أو بالنيابة عنهم في حالتي الغياب أو الاحتجاب. في سياق السردية الاحتفالية، يسقط غالباً معنى الذكرى السياسي، وكثيراً ما يتجاهله المقاومون الأوائل، فيحيلون انتباه القارئ أو السامع إلى اليوميات النضالية، بديلاً من شذَّ تركيزه إلى السياسة، التي إن غابت عن اسم جبهة المقاومة الوطنية وفعلها، تحول الاسم إلى مسمّى “قتالي” ظرفي، تنتفي الحاجة إليه عند زوال مهمته القتالية.
إذن، وكي لا يُفرغ معنى المقاومة الوطنية من مضمونه، يجب تقديم القراءة السياسية على كل ما عداها، وقراءة ما جرى في السابق تتيح التدقيق فيما يجري في اللاحق، وقياس النتائج على مقدماتها هو وسيلة الفرز بين النجاح والفشل، وهو الدليل المرشد إلى حقيقة ما تمَّ إنجازه، هذا لمن أراد إبقاء تسلسل فعله النضالي مترابطاً، ولمن يقرأ في كل تدبير سياسي مقدمة لما يجب أن يتصل به لاحقاً من تدابير.
من سياسة المقاومة:
حمل بيان إعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية البنود الأساسية التي اقتضت الدعوة إلى إنشائها، وحدَّدت كلمات البيان جمل الربط المفتاحية التي تحدد أهداف قتال الوطنيين اللبنانيين بدقة لا لبس فيها. لقد قطع بيان المقاومين الأوائل مع الحرب الأهلية الداخلية، وجعلوا شرعية كل سلاح مرتبطة بهدف تحرير الأرض من الاحتلال، كذلك حسم المقاومون أمر الانقسام الأهلي الذي ارتدى طابعاً طائفياً رغم كل محاولات عدم تطييفه، فدعوا كل اللبنانيين إلى حمل السلاح دفاعاً عن الأرض الوطنية، ومواجهة عدو واحد محتل، هذا البند من الدعوة شكل “نقداً مبكراً” لتجربة الحركة الوطنية التي خرج المقاومون الأوائل من صفوف أحزابها، وشكَّل أيضاً تمهيداً لطرح مشروع لإدارة الصراع الوطني العام ضد العدو الخارجي. المغزى الأهم لهذا المشروع كان كامناً في طلب إعادة توحيد اللبنانيين، وجوهره الهام كان اعتماد الخيار الحر الديمقراطي ممراً لإعادة خلق الوحدة الوطنية التي مزقتها سنوات الحرب الأهلية الطويلة.
لقد لخصت “المقاومة” أهدافها بثلاثية ثمينة: التحرير والتوحيد والديمقراطية، وجعلت ممرها إلى ذلك شعار: الوطن باقٍ والاحتلال إلى زوال.. كان كل ذلك أقرب إلى الطموح المغامر الذي لا مفر من ركوب مركبه، وهبّت في شراع هذا المركب رياح شعبية وسياسية مؤاتية، أوصلت طالبي الطموح إلى تحرير ما اتفق على أنه قارب 85 في المئة من مساحة الأرض المحتلة، فكان الانسحاب المعادي الأول في شباط من العام 1985.
رياح السياسة المعاكسة:
نسخة المقاومة الوطنية التي اكتسبت زخمها الأول من وضوحها ومن احتضان فئات لبنانية واسعة، ومن استقلال عملها عن القوى الداخلية والإقليمية، عادت فانتكست لأسباب ذاتية يأتي في طليعتها انسياق بعض أطرافها إلى لعبة الفئويات الداخلية مجدداً، وإلى إنخراط أطراف أخرى في خيارات إقليمية وعربية، من بوابة الصراع مع فصائل من منظمة التحرير الفلسطينية، فكانت النتيجة إعادة دخول جزء من المقاومين في حرب أهلية من لون آخر، وكان أن دفع أولئك أثماناً مجانية، ساهمت في هزّ قاعدة المقاومة الاجتماعية، وزعزعت أركان استقلاليتها، ما مهَّد الطريق لاحقاً أمام محاصرتها من قبل الرعاة السياسيين العرب والإقليميين، الذين ناصبوا كل استقلالية وطنية العداء، وأطلقوا ودعموا وفتحوا السبل اللبنانية على مصاريعها، أمام نسخة مقاومة أخرى، تقول قولهم وتنخرط في مشاريع أفعالهم، كجزء عضوي من منظومة سياسية متكاملة، لها أهدافها الداخلية وأهدافها الخارجية التي لا تقيم وزناً كبيراً للمصالح الوطنية اللبنانية.
التأسيس للغياب:
أسست جملة الظروف التي أشير إليها لغياب جبهة المقاومة اللبنانية عن ساحات الفعل، وفاقم أبناء الجبهة هذا الغياب بتخليهم عن دورهم في البندين الأساسيين الباقيين من الثلاثية: التوحيد والديمقراطية. في هذا المجال، وبعد إنجاز التحرير في العام 2000، عمّق المقاومون اغترابهم عن قضاياهم، وراكموا عوامل عجز متوالية، فقعدوا على “ضفّة” الحنين، وبات فعلهم الوحيد تذكر ما كان لهم من أيام قتال ماضية، في قالب من الحسرة والشعور بالغبن، فكان من نتيجة ذلك، الرد على غياب الفعل في الميدان الاجتماعي بالاحتفالية العامة، وباعتماد لغة المنافسة مع نسخة المقاومة الإسلامية التي ورثت تيار المقاومة، وقطفت وما زالت تقطف جميع “قطوفه الدانية”.
نسخة الاضمحلال:
لقد آلت نسخة المقاومة الأولى إلى الاضمحلال، مثلما رسخت نسخة المقاومة الثانية حضورها الثقيل في كافة مفاصل الحياة اللبنانية. يطرح ذلك، ومن جديد، مسألة إعادة قراءة ظروف النشأة وعوامل الاضمحلال، قراءة هادفة وساعية إلى إعادة تأسيس الفعل، ذلك أن ردّ الفعل يشحن الذكرى بالعواطف اللازمة، لكنه لا يعوض الممارسة النضالية التي أوغل أصحابها في الغياب.
المصدر : المدن