عدنان أحمد
يشير توالي الغارات وعمليات القصف “مجهولة الهوية” على منطقة البوكمال السورية، الواقعة شرقي البلاد قرب الحدود العراقية، إلى وضعٍ خاص باتت تتمتع به هذه المنطقة، بالنظر إلى الحضور الإيراني الكثيف منذ طرد تنظيم “داعش” منها عام 2017. وخلال شهر سبتمبر/أيلول الحالي، تعرضت منطقة البوكمال مرتين على الأقل إلى قصفٍ جوي، فيما أكدت مصادر عدة تعرضها لغارات أخرى ليل الأربعاء الماضي، قيل إن طائرات سعودية شاركت فيها.
واستهدفت هذه الغارات القوات الإيرانية والمليشيات الموالية لها في محيط البوكمال شرق دير الزور، وتسبّبت في مقتل العشرات منهم من الجنسيتين الإيرانية والعراقية. كما استهدفت مستودعات للصواريخ والذخيرة.
لماذا البوكمال؟
يُلاحظ أن الغارة الأخيرة على البوكمال، التي استهدفت منطقة الهري بريفها، يوم الأربعاء الماضي، جاءت بعد زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى روسيا، برفقة فريقٍ من الجيش والاستخبارات، وناقشوا هناك مع نظرائهم الروس، الوجود الإيراني في سورية بشكل تفصيلي. وعلى الرغم من ورود أنباء سابقة للزيارة بأن موسكو منعت في نهاية أغسطس/آب الماضي هجوماً على موقع لقوات النظام السوري في قاسيون، حين كانت إسرائيل بصدد استهداف بطارية صواريخ وأجهزة تحكم تخصّ منظومة “إس 300” الروسية، وهجومين آخرين على مواقع في محافظتي القنيطرة واللاذقية، غير أن حصول الغارات بعد أيام قليلة من لقاء موسكو يبدد إلى حدٍّ ما التقارير الصحافية التي تحدثت عن تقييد روسي لحركة الطيران الإسرائيلي في سماء سورية. ويأتي ذلك مع وجود تسريباتٍ في الوقت ذاته، بأن الروس باتوا لا يحبذون الغارات الإسرائيلية في دمشق ومحيطها، وفي المناطق التي تمسّ مباشرةً “سلطة نظام بشار الأسد وهيبته”، ويفضّلون كما تقول التسريبات، أن تكون الغارات الإسرائيلية بعيداً في شرقي البلاد، وتحديداً في منطقة البوكمال، التي وإن كانت خاضعة نظرياً لسلطة لقوات بشار الأسد، إلا أنها عملياً تحت حكم إيران ومليشياتها.
ووفق ما ذكرت صحف إسرائيلية أخيراً، فإن موسكو تعهدت مقابل إلغاء أو تقليص الغارات الإسرائيلية على دمشق ومحيطها، بمنع إيران ومليشياتها من تثبيت أقدامها في تلك المناطق، وبتفعيل اتفاقٍ سابق مع تل أبيب تمّ التوصل إليه في أعقاب سيطرة قوات النظام العام الماضي على محافظة درعا الجنوبية، وقضى بإبعاد إيران ومليشياتها مسافة 80 كيلومتراً عن الحدود مع فلسطين المحتلة. من هنا، كما قالت هذه المصادر، جاء إعلان الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصر الله أن الرد على إسرائيل سيكون من الآن وصاعداً من داخل لبنان، وليس من سورية، وذلك بسبب إغلاق موسكو الساحة السورية لأي أعمال عسكرية من جانب إيران ووكلائها ضد إسرائيل، إلا في حال كان الاستهداف الإسرائيلي لقوات النظام مباشرةً، أو لأسلحة ومعدات زودت بها روسيا النظام، إذ تعتبر موسكو مثل هذه الاستهدافات تشكل تقويضاً لجهودها الرامية لتثبيت حكم الأسد وإعادة تعويمه إقليمياً ودولياً.
السيطرة الإيرانية
ومع فشل إيران في إقناع روسيا بالسماح لها بالتموضع في دمشق ومحيطها، فضلاً عن تواصل الضربات الإسرائيلية على هذه المناطق في الفترة الماضية بغضّ طرفٍ روسي مقصود، بدأت إيران البحث عن خيارات أخرى تمثّلت في التوجه إلى العراق أو الحدود مع العراق، إضافة إلى لبنان. ويبدو أنه من هذا المنطلق، جاء القصف الإسرائيلي المتكرر في الآونة الأخيرة لأهدافٍ تخصّ وكلاء إيران من “الحشد الشعبي” في العراق، من دون أن تتبنى ذلك رسمياً، وإن كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ألمح إلى مسؤولية إسرائيل بقوله إن “لا حصانة لإيران في أي مكان”، وكذلك ملاحقة ما تقول إسرائيل إنها مصانع لتطوير صواريخ عالية الدقة يعمل عليها “حزب الله” وإيران في لبنان.
وبالنسبة للبوكمال، فإن إيران موجودة في تلك المنطقة بشكلٍ كبير جداً، بل هي تسيطر عليها عملياً مع وجودٍ شكلي لقوات النظام السوري. وذكرت معلومات صحافية أنه كانت هناك محاولة لبناء قاعدة عسكرية تعرف بـ”مجمع الإمام علي” على أساس أنها تابعة للنظام، بينما هي تتبع للإيرانيين، وقد جرى استهدافها وتدميرها قبل أيام في الغارة الإسرائيلية التي سبقت الغارة الأخيرة بنحو أسبوع.
وتستغل إيران الأوضاع الصعبة في المنطقة للقيام بتجنيد أبناء العشائر في صفوف مليشياتها. وتأتي أهمية البوكمال من كونها معبر طريق طهران – البحر المتوسط. وقد استمات قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني للسيطرة على البوكمال قبل وصول قوات التحالف الدولي إليها بعد طرد “داعش” منها عام 2017.
ويرى مراقبون أن الهدف من الاستهداف المتكرر لهذه المنطقة هو منع إيران من تحقيق مشروعها أو إبقاء المليشيات في حالة عدم استقرار، وبالتالي فإنها لا تستطيع تثبيت نقاطها العسكرية من أجل متابعة توسعها في البادية السورية، وكذلك قطع طرق الإمداد للنظام السوري ومنع التواصل بين مناطق سيطرة “الحشد” والمليشيات على جانبي الحدود.
وتشير تقارير عدة، ومصادر استخبارية إسرائيلية وأميركية، إلى أن إيران تجهز معبر البوكمال الذي جرى تأجيل افتتاحه رسمياً أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة، ليكون الممر البرّي الأساسي لنقل القوات والأسلحة والمعدات من العراق إلى سورية، ومنها إلى لبنان أيضاً، فيما يعرف بالطريق البرّي بين إيران والبحر المتوسط، وهي تخطط لمدّ سكة حديد من أراضيها لخدمة هذا الممر.
وأبرز القوات والفصائل الموالية لإيران الموجودة في المنطقة، إضافة إلى الحرس الثوري الإيراني، هي “حزب الله” و”حركة الأبدال” العراقية – الباكستانية، والتي تتمركز في ما كان يعرف بـ”مجمع الإمام علي”، والذي تمّ استهدافه في الغارات الأخيرة، وتعرّض جانب كبير من المبنى والمستودعات الملحقة به للتدمير، وقُتِلَ ما لا يقل عن 18 عنصراً من المقاتلين المتمركزين فيه.
كما شملت الضربة المنطقة الصناعية في البوكمال، حيث تتمركز مليشيا “حيدريون” وجزء من قوات “حزب الله”. ويُعتقد أن مستودع الذخيرة في تلك المنطقة دُمّر بالكامل. كما تعرّضت مقار للمليشيات الإيرانية في بلدات حسرات والصالحية والجلاء، إلى الغارات الجوية. وتضم تلك المقار قوات من “حزب الله” و”فاطميون” و”النجباء” والحرس الثوري.
وإضافة إلى نقل وتخزين وحتى تصنيع السلاح، تتولى المليشيات هناك تأمين المعبر والبضائع التي تمر به، أو التي يتم تخزينها هناك على الجانب السوري من الحدود بشكل مؤقت، إضافة إلى مهمة الدفاع عن المعبر والمعسكر من خطر “داعش” الذي لا يزال نشطاً هناك، ومن القوات الكردية التي تعمل بمساعدة مستشارين أميركيين.
وكانت شبكة “فوكس نيوز” الأميركية ذكرت مطلع الشهر الحالي أن إيران أنشأت قاعدة عسكرية جديدة في سورية وتخطط لإيواء آلاف الجنود فيها، وفقاً لمصادر استخبارية غربية متعددة. وتمّت الموافقة على المشروع الإيراني السرّي المسمى “مجمع الإمام علي” من قِبل القيادة العليا في طهران، ويتم استكماله من قبل “فيلق القدس”، بحسب الشبكة.
كما رصدت شبكة “عين الفرات” المحلية 13 موقعاً للمليشيات الإيرانية داخل، وفي محيط مدينة البوكمال. ونشرت الشبكة على صفحتها في “فيسبوك”، خرائط وصوراً لتلك المواقع مع معلومات تفصيلية حول كل مقر من حيث أعداد عناصرها ومخازن وأنواع وكميات الأسلحة فيها. وأكدت أن المليشيات الإيرانية تعيش حالة استنفار أمني وتعمل على تغيير أماكن انتشارها، في ما خصص القيادي في مليشيا “فاطميون” في البوكمال سلمان الإيراني مكافأة مالية لمن يرشد إلى مَن يرصد ويصور مواقع المليشيات الإيرانية.
تأجيل افتتاح المعبر
وأعلن مصدر أمني عراقي نهاية الشهر الماضي تأجيل فتح معبر القائم – البوكمال الحدودي بين العراق وسورية، بسبب القصف الجوي الذي تعرضت له فصائل عراقية في البوكمال، من دون أن يحدد موعداً جديداً لافتتاح المعبر الذي يبعد مسافة سبعة كيلومترات عن مركز مدينة البوكمال.
وقدمت إيران التمويل اللازم لإعادة تأهيل معبر البوكمال، وطردت العناصر التابعين للنظام في 27 يوليو/تموز الماضي، ولم يعد هناك اليوم أي وجود للنظام، وباتت السيطرة على المعبر إيرانية بالكامل. ويسيطر على المعبر “حزب الله”، ومليشيا “فاطميون” الأفغانية، ومليشيا “حيدريون” العراقية المدعومة من الحرس الثوري.
وتُتهم إيران باستخدام المعبر لإدخال الأسلحة والذخائر والآليات الحديثة، بالإضافة إلى المواد النفطية لدعم مليشياتها الموجودة في مدينة البوكمال.
وفي يوليو/تموز الماضي، زار قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، معسكرات المليشيات التابعة لإيران في البوكمال، وسط إجراءات أمنية مشددة، والتقى المستشارين العسكريين للحرس الثوري، وقيادات مختلف تلك المليشيات في المنطقة.
ويرى مراقبون أن التأجيل المستمر لافتتاح المعبر مرده إلى اعتراضات أميركية، وضغوط تمارسها واشنطن على الحكومة العراقية لعدم فتح المعبر في ظل هيمنة إيران ومليشياتها عليه، على طرفي الحدود العراقية والسورية. كما أن روسيا لا تحبذ إعادة افتتاح المعبر، ما لم تشرف هي عليه بشكل كامل، لتكون قادرة على الوفاء بتعهداتها للجانب الأميركي بعدم السماح لإيران باستخدام هذا المعبر لدعم مليشياتها في سورية ولبنان.
المصدر: العربي الجديد