ريم جبر
صدر قبل يومين، تقرير عن “مجموعة دراسة سورية” أشرف عليه “معهد السلام الاميركي” نزولاً عند طلب الكونغرس الأميركي. وأبرز ما في خلاصات التقرير، هو العدول عن ثنائية انسحاب ولا انسحاب. إذ سعى الى صوغ استراتيجية تُذلل معضلة الجمع بين هدفين: تقليص التدخل الاميركي في الحرب وحماية مصالح الولايات المتحدة.
منذ اندلاع الانتفاضة السلمية في 2011، حذر الخبراء من الارتدادات السلبية على المصالح الاميركية الناجمة عن رد بشار الاسد العنيف على الحركة السلمية. وخشي كثر انتقال عدوى النزاع الى ما وراء الحدود السورية في وقت يرتبط نظامها بالمجموعات الارهابية وإيران.
وهذه المخاوف سرعان ما تحققت. فأزمة اللاجئين أغرقت دول الجوار وزرعت الاضطراب في السياسة الأوروبية، وساهمت في توتير العلاقات الاميركية-التركية فبلغت حد الأزمة. وقوّض النزاع المعايير الدولية في مجال أسلحة الدمار الشامل وحماية المدنيين. وصارت مناطق في سوريا واحات آمنة لتنظيم “القاعدة” وغيره من التنظيمات وأكبر تجمع للمقاتلين الارهابيين منذ ما كانت عليه أفغانستان في التسعينيات. وساهم النزاع في بروز “داعش”. وبعد 8 سنوات، ما زالت فصول النزاع تتوالى. ونتائج أزمة اللاجئين والنازحين في الداخل السوري ستتواصل في العقود المقبلة.
الأسد لم ينتصر
الأهم أن الحوادث الميدانية تخالف السردية القائلة بأن نظام الأسد خرج منتصراً. فالحرب السورية لم تنتهِ، بل دخلت طوراً جديداً. نظام الأسد يسيطر على 60% من الاراضي السورية فحسب، وقبضته ضعيفة في مناطق سيطرته خارج دمشق جراء افتقاره الى عديد كاف للسيطرة، وتعسفه في مقاربة السكان وفرضه التجنيد الإلزامي، والتزامه الاقتصاص من السكان ومعاقبتهم. ويغذي الخوف من قواته، وأذرع إيران وروسيا، الاضطراب، ويحول دون استقراره واستتباب الوضع في غياب عقد اجتماعي جديد يوزع الموارد توزيعاً عادلاً ويرسي أسس حكم لا مركزي. ولا مؤشرات الى انسحاب تركي من عفرين ومنطقة “درع الفرات”.
النظام السوري وروسيا يشنان حملة على ادلب قد تشعل فتيل أزمة انسانية جديدة وتطلق سيلاً من اللاجئين. والتوتر محتدم بين بعض الجهات النافذة في “قوات سوريا الديموقراطية” شمال شرقي سوريا، وبين السكان العرب في بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها. و”قسد” أمام تحدي الانتقال من قوة عسكرية تقليدية إلى قوة قادرة على الحكم والادارة. ولكن التشدد في التعامل مع السكان أثار استياء القبائل العربية. والنفوذ الاميركي في مناطق “قسد” تضاءل على وقع وقف تمويل مساعي ارساء الاستقرار والدور الاميركي المدني الضعيف. وتنشر تركيا قواتها استعداداً لاجتياح شمال شرق سوريا لطرد “قسد”.
داعش لم يهزم بعد
“داعش” لم يهزم، وعاد للظهور والسيطرة على أراضي جديدة في سوريا والعراق. وايران واسرائيل في نزاع منخفض الوطيس في سوريا، وقد ينزلق هذا النزاع الى نزاع مفتوح خصوصاً في الجولان. و”هيئة تحرير الشام” المتحدرة من تنظيم “القاعدة” تسيطر على مناطق في إدلب، وقد شكلت حكومة فتحت الابواب لمقاتلين اجانب انضووا في “حراس الدين”.
وقد يسعى نظام الأسد وحلفاؤه الى اجتياز الفرات، وهذه خطوة قد تنفخ الحياة في تمرد “داعش” وتسمح لايران بتعزيز طريقها البرية من العراق إلى لبنان. وما تقدم من سيناريوهات مرجح إذا انسحبت القوات الاميركية من سوريا وإذا لم تلتزم القيادة الاميركية الحؤول دون مثل هذه النتائج.
والمخاطر الناجمة عن ترك النزاع على غاربه في سوريا (ومنها اعمال ارهابية تستهدف اميركا وحلفاءها وتعزيز النفوذ الايراني، وتوسع روسيا وتآكل المعايير الدولية في الحرب…)، ضخمة وتستدعي دوراً أميركياً فاعلاً.
تقارب روسي-ايراني
رغم الغارات الاسرائيلية التي عرقلت نقل السلاح الايراني المتطور إلى سوريا والعقوبات الاميركية، تواصل إيران ترسيخ نفوذها هناك، ولا تباين في الأهداف يعتد به بين روسيا وإيران. وهذه تنتهج سياسة عسكرية وسياسية واقتصادية لتعزيز قبضتها في سوريا على الامد الطويل.
النفوذ الأميركي
رغم ما تقدم، لا تزال واشنطن قادرة على التأثير في مآل الامور في سوريا وحماية مصالح الامن القومي الاميركي. وأبرز قنوات التأثير هذا هي نفوذها في شمال شرق سوريا والعقوبات على نظام الاسد وداعميه والامتناع عن المساهمة في إعمار سوريا على ما يشتهي النظام السوري وموسكو، وإحكام طوق العزلة السياسية الديبلوماسية على نظام الاسد.
توصيات
يوصي التقرير بانتهاج استراتيجية تمهد الطريق أمام حل سياسي في سوريا أو على أقل تقدير تحمي المصالح الاميركية ولو في غياب حل سياسي. وثمة إجماع على ان انسحاب القوات الاميركية لن يضعف احتمالات بروز “داعش” من جديد، ولا يمنع ترسيخ إيران نفوذها.
1- وقف سحب القوات الاميركية العسكرية من سوريا للضغط على “داعش” والمجموعات الارهابية من جهة، وعلى نظام الأسد وداعميه من جهة أخرى إلى حين التوصل الى تسوية سياسية تختم الحرب.
2- تحديث الاستراتيجية العسكرية لاستباق نهضة “داعش”، وتمويل مساعي ارساء الاستقرار في شمال شرق سوريا، والضغط على “قسد” لانتهاج سياسة حكم غير إقصائية، وحل مشكلة معتقلي “داعش”، وإيلاء الأولوية للدور الديبلوماسي والعسكري الاميركي في العراق.
3- الحؤول دون تطبيع المجتمع الدولي العلاقات مع نظام الاسد وداعميه، أي دون استئناف دول حليفة وصديقة العلاقات الديبلوماسية مع النظام، والامتناع عن المساهمة في اعمار سوريا، وإحكام طوق العقوبات على النظام وتوسيعها وتشديدها. وعلى المجتمع الدولي الإعداد لمحاسبة النظام على جرائم الحرب والتلويح بمساءلة موسكو بتهمة التواطؤ في هذه الجرائم. ولكن من دون اعتبار المحاسبة شرطاً مسبقاً لابرام تسوية سياسية.
4- امتحان رغبة الروس في تسوية سياسية ترضي أميركا ومواصلة أعمال تزيد كلفة التدخل في سوريا على روسيا. ولذا، حري بواشنطن أن تطلب من موسكو خطوات ملموسة قبل الحديث عن تسوية سياسية، وعدم تقديم تنازلات تسبغ مشروعية على الدور الروسي في غياب خطوات نحو الحل السياسي.
5- السعي الى طرد القوات الايرانية ووكلاء ايران من سوريا على مراحل. وأكثر خطوة في المتناول اليوم هي الحؤول دون ترسيخ ايران ووكلائها نفوذهم أكثر فأكثر في سوريا وزيادة كلفة الاعمال الايرانية في سورية على كاهل طهران. وعلى أميركا مواصلة دعم الضربات الاسرائيلية الجوية، وفرض عقوبات ترمي الى تقويض قدرة ايران على تمويل الاتباع والشركاء في سوريا ولبنان والعراق، وبقاء القاعدة العسكرية الاميركية في التنف، ودعم مساعي تقويض النفوذ الايراني في سوريا.
6- المطالبة بسحب القوات الايرانية وأتباعها من سوريا شرطاً أولياً للتسوية السياسية.
7- السعي الى تعزيز التعاون مع تركيا والتجاوب مع مخاوفها الامنية المشروعة من جهة والضغط عليها من جهة أخرى للحؤول دون اجتياح تركي لشمال شرق سوريا ولتحسين الاوضاع في عفرين ومنطقة “درع الفرات”. وعلى واشنطن مواصلة مساعي الاتفاق على منطقة آمنة أو آلية أمنية على طول الحدود التركية مع شمال شرق سوريا، والسعي سعياً حثيثاً للنأي بالعلاقات التركية-الاميركية عن المشكلات الوثيقة الصلة بسوريا، وحث أنقرة على استئناف مفاوضات السلام مع حزب “العمال الكردستاني” التي قد تفضي الى تهدئة تركية مع “قسد”.
8- السعي الى تجنب كارثة انسانية في إدلب مع جبه المجموعات الارهابية هناك وتثبيط هجمات هذه المجموعات في الخارج، وردع النظام السوري وحلفائه من استهداف المدنيين في ادلب. دعوة تركيا الى تيسير عمل المنظمات غير الحكومية في إدلب لاستباق ازمة انسانية تنبثق منها ازمة لاجئين.
9- دعم مساعي نزع فتيل أزمة انسانية في سوريا وتوفير الدعم للدول المضيفة التي تستقبل اللاجئين السوريين، وإغاثة السوريين في داخل سوريا وخارجها، ودعوة الامم المتحدة الى جمع تمويل دولي لاعمال الاغاثة في سوريا ودعم الدول المضيفة مالياً ومواجهة مساعي اعادة اللاجئين السوريين قسرياً واستقبال أعداد منهم على الاراضي الاميركية.
خلاصة القول أن الحل في سوريا لا يزال بعيداً، وتنازع واشنطن بين التدخل والانكفاء في الشرق الاوسط على حاله. وتبدو التوصيات أقرب إلى “وصفة” للحؤول دون استفحال الازمة فحسب، ولانقاذ الحلف مع تركيا.
المصدر: المدن