ريكاردو كريستيانو
كان وصول وفد الفاشيين وأتباع التيار السيادي الذي يضم شخصيات بارزة من حركة «كازا باوند» اليمينية المتطرفة إلى حلب، منتظراً منذ أيام. ضم الوفد المذكور أكثر من ثمانية متطرفين بامتياز منهم «متزعمة التيار السيادي» فرانشيسكا توتولو المعادية للهجرة. جاؤوا كلهم بدعوة من نظام الأسد الذي ارتأى على ما يبدو تفضيلهم على زواره التقليديين من حركة «فورتسا نووفا» اليمينية، التي زار زعيمها روبيرتو فيوري الأسد مراراً، بعد محطة في لبنان للقاء الرئيس اللبناني ميشيل عون صديقه منذ فترة طويلة.
فالأسد وعون بالإضافة إلى حزب الله هم حماة المسيحية، حسب الرواية المثيرة للسخرية، التي نالت إعجاب «كازا باوند» وحركة «فورتسا نووفا» وبعض الأوساط الكنسية، وما يعرف باليسار المناوئ للإمبريالية. كل ذلك يكسب الزيارة أهمية خاصة، فهي ليست مجرد رحلة سياحية، قامت بها مجموعة أشخاص لا على التعيين، فكما هو واضح هناك، رغبة جامحة في تسليط الضوء على جزء معين من تاريخ الشعب السوري وتقاليده العريقة، فصحيفة «بريماتو ناسيونالي» الناطقة باسم الحركة السيادية في إيطاليا، أسهبت في الحديث عن زيارة الوفد لمدينة تدمر المشهورة في العالم بأسره بآثارها، التي أصبحت بفضل الصحيفة المذكورة المدينة التي ما زال سكانها يتحدثون باللغة الآرامية حتى أيامنا هذه. مسألة لفتت انتباه، ألبيرتو سافيولي أحد علماء الآثار الإيطاليين الخبراء بتاريخ سوريا، الذي شدد على أن اللغة الآرامية محكية في معلولا، كما هو معروف ومثبت، فسوريا إذن ليست هي المعنية بالاهتمام، لكن الهدف هو الحديث عن نقاط محددة، بهدف تغذية الكراهية بين المسلمين والمسيحيين.
فاللغة الآرامية هي اللغة التي تحدث بها المسيح، وبالتالي فإن المجازر التي شهدتها مدينة تدمر السياحية، يجب أن ترتبط حكماً باللغة الآرامية وبالسيد المسيح بالتالي. وعلى الرغم من أن مدينة معلولا شهدت اعتداءات وعمليات اختطاف بدورها، لكنها لم تحظ «بشرف» زيارة الوفد حتى الآن، على أقل تقدير. بعد ذلك وصلت رحلة الوفد إلى حلب، موثقة بصورة له تحت القلعة، نشرتها وزارة الإعلام السوري، تهيمن عليها صورة هائلة للأسد بالطبع، الأب الصغير، في حين وقف أعضاء الوفد ملوحين بعلم «كازا باوند» والعلم الإيطالي. وهذا ما أثار شعوراً عارماً بالسخط من هذه اللعبة، الأسد يعلو علمنا الوطني الذي يرفرف إلى جانب علم «كازا باوند». استفزاز واضح، لكنه لم يثننا عن مشاهدة صور أخرى لأعضاء الوفد، نشرتها الوزارة المذكورة، وهم يزورن الكنائس ويشعلون الشموع بكل ورع ويتذوقون الأطباق السورية اللذيذة، أو يطلعون على أعمال الترميم.
هذه هي إذن سوريا الحوار والتسامح، التي تتصدر رواية نظام قمعي يسعى لاستغلال هذه الزيارة لترويج صورته كنظام علماني يحترم التعددية، برأي الأوساط القادرة على تصديقه، لكن إذا كان المسلمون السنة إرهابيين جميعاً فما جدوى التسامح؟ ولماذا يجب ترميم مساجدهم؟ وإذا لم يكونوا كلهم إرهابيين فلماذا طُردوا من حلب عندما استعاد النظام السيطرة عليها؟ ولماذا تم تهجير أكثر من ستة ملايين سوري من أصل عشرين مليوناً من مجموع السكان، وتحويل خمسة ملايين آخرين من السوريين إلى نازحين داخل الأراضي السورية، عدا عن مئات الآلاف الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم وتشويههم، فلماذا؟ مقولة لا تعقل منطقياً وتخالف معطيات الواقع فمن المستحيل أن يكونوا كلهم إرهابيين، لذا كان لا بد من تغيير الرواية: والقول إن الثورة لم توجد أساساً، وإن الانتفاضة الشعبية ضد نظام قمعي ودموي ولصوصي يحكم منذ عقود، هي مجرد بدعة من اختراع الصحافة، والأسوأ من ذلك اتهام ملايين السوريين بالحصول على أموال من الأنظمة الخليجية، ما يعني أنهم خاطروا بأرواحهم وحياتهم لمواجهة نظام القمع الوحشي مقابل حفنة من النقود.
هذه الرواية تناسب النظام الذي ساهم بشكل حاسم ومؤكد في خلق «داعش» المتوحش، وتناسب اليسار المعادي للإمبريالية الذي يعتقد بوجود إمبريالية واحدة، تلك الأمريكية، أما الآخرون فليسوا إمبرياليين، بل هم مناهضون للإمبريالية، وتناسب أيضاً اليمين المتطرف، الذي لا يرى بدوره إلا إمبريالية واحدة، تلك الأمريكية.. الأمر نفسه ينطبق على بعض الأوساط الكنسية المعادية لتوجهات المجمع الكنسي الثاني الإصلاحي، وهم من دعاة المحافظة على الهوية وترسيخ أنظمة سيادية من خلال تشريعات قانونية وإجراءات عامة تمكنهم من تمثيل أتباعهم. نحن لم نسمع من كل هؤلاء أي كلمة تضامن مع ضحايا العنف الآخرين من مدنيين عزل، لم تصدر عنهم أي بادرة تعاطف حتى مع ضحايا تنظيم «داعش». وقد عبّر رجل ديني مسيحي عن هذه الرؤية خير تعبير في مقابلة إعلامية أجريت معه مؤخراً: «نعلم تماماً أن مؤيدي النظام ليسوا كلهم من الأخيار، وأن المعارضين ليسوا من الأشرار جميعاً، لكن رسالة قداسة البابا كان وقعها سيئاً علينا، حيث أبدى فيها القلق على المناطق الخاضعة لسيطرة الجهاديين، أكثر من قلقه على المسيحيين المهددين والمعذبين»، هنا لا بد لنا أن نرد على رجل الدين هذا، أولاً لماذا لا تزال مدينة إدلب تحت سيطرة الجهاديين؟ فقد كانوا مبعثرين في كل الأرجاء السورية، لكن ما إن بدأ النظام يستعيد السيطرة على الأراضي، حتى بدأ شيئاً فشيئاً بنقلهم إلى هناك جميعاً على متن وسائل مواصلات خاصة به. ما تفسير ذلك؟ ولماذا نقل إلى إدلب أيضاً مليوناً وخمسمئة ألف سوري من المدنيين العزل، الذين لم تتلطخ أياديهم أبداً بالدماء؟ لماذا لم يُسمح لهم بالبقاء في بيوتهم؟ لماذا عمل النظام على تفريغ مناطق كاملة وتهجير المدنيين من سكانها إلى إدلب ليصبح عدد سكانها جراء ذلك ثلاثة ملايين شخص يعانون من تعسف ثمانين ألف مجاهد؟
قد يكون السبب هو رغبة النظام في استملاك بيوتهم وتمهيد الطريق أمام موجة إبعاد جماعية للسكان غير المرغوب فيهم؟ هل يمهد الطريق ربما لمعركة أخيرة يروج لها أمام العالم يظهر من خلالها أن ثلاثة ملايين من أبناء البشر المحرومين هناك من كل شيء هم ثلاثة ملايين إرهابي؟ هل أخطأ قداسة البابا في الاهتمام أيضاً بثلاثة ملايين مدني تُقصف مستشفياتهم منذ أسابيع، وتدمر حقولهم قنابل النابالم، في غارات يشنها الجيش السوري؟ هل بوسع البابا أن يهتم بمعاناة المسيحيين كدأبه دائماً، وأن يهمل آلام ثلاثة ملايين من الأبرياء، الذين فرّ الكثيرون منهم إلى شمال محافظة إدلب المحرومة من مخيمات اللاجئين، واضطروا إلى العيش في العراء في منطقة لا تتوفر فيها إلا بضعة مستشفيات تُقصف بشكل ممنهج من الروس والسوريين؟ لا، ليس بوسع البابا أن يقوم بذلك. بالفعل وجه البابا رسالة إلى الأسد يطالبه فيها باحترام حقوق الإنسان تجاه المدنيين والمعتقلين والمفقودين، فكيف يمكن أن ترفض رسالة كهذه؟ ولتوضيح معناها صرح وزير خارجية دولة الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين: «في مارس 2018 نشرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية تقريراً حول هذا الموضوع، أشارت فيه إلى وجود عشرات آلاف الأشخاص المعتقلين بشكل تعسفي، في سجون غير نظامية أحياناً وفي أماكن مجهولة، حيث يخضعون إلى مختلف أنواع التعذيب، ويُحرمون من أي نوع من الرعاية الحقوقية أو إمكانية الاتصال بذويهم. لقد بين التقرير أن الكثيرين منهم يقضون للأسف في السجون، فيما تتم تصفية الآخرين بشكل جماعي».
إن أهمية رسالة البابا الهائلة تنبع من الانتقادات السيادية المتطرفة تُضاف إليها انتقادات ممثل المعارضة المزعومة، الذي لام البابا لأنه وجه رسالته إلى الطاغية وأتباعه، لكن مع من تباحث هو نفسه، عندما كان مفاوضاً وزعيم وفد المفاوضات من أجل مستقبل سوريا؟ إن انتقادات رجال الدين للبابا في هذا الإطار تتمتع بأهمية بالغة، فهي تظهر أن بعض الأوساط الكنسية تتحدث عن المسيحيين، بدون أن تتساءل أبداً عن سبب عدم رجوع المسيحيين، وعدم رغبتهم للعودة أصلاً، مع أن النظام الذي استعاد السيطرة على كامل سوريا تقريباً يدافع عنهم ويحميهم؟ وعندما دعاهم بطريرك دمشق إلى البقاء قال بعضهم لدى خروجهم من الكنيسة: «معه حق إلا أن جميع أقاربه وذويه موجودون في أوروبا منذ فترة طويلة». هم لا يطرحون هذا السؤال حتى القليلون منهم الذين لا يقدسون النظام، لا يطرحونه لأنهم لا يستطيعون ذلك. ومن يبدي استياءه وتعجبه من الموقف الذين اتخذه البابا إلى جانب سكان المنطقة الخاضعة لسيطرة إرهابيي الجهاد، لا يريد ولا يستطيع الحديث عن ثلاثة ملايين إنسان من المدنيين، الذين يعيشون تحت قنابل بوتين والأسد، معارضين لرؤية الفصائل الجهادية.
فهل انعدمت القدرة على التمييز والفهم؟ كل شيء ممكن استناداً إلى ما قام به البطاركة السوريون، الذين اجتمعوا في الخامس عشر من أغسطس الماضي متجاهلين مأساة إدلب تجاهلاً كاملاً، ليهللوا للنظام من خلال بيان بطريركي مشترك. لقد صمتوا عن الجرائم وحيّوا انتصار «المؤسسات الشرعية» السورية على الإرهابيين. هل تتمتع هذه المؤسسات بالشرعية فعلاً؟ وماذا عن إرهاب الدولة؟ لقد شاهدنا في سوريا إرهاباً فظيعاً، لكن أليس إرهاب الدولة إرهاباً أيضاً؟ هل يوجد إرهاب الدولة والإرهاب ضد الدولة في سوريا فقط؟ أم هناك إرهاب مئة وخمسين ألفاً من الإرهابيين الأجانب، من لبنانيين وعراقيين وأفغان وباكستانيين، استدعاهم الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا للدفاع عن النظام، فارتكبوا ممارسات وحشية مماثلة لوحشية «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية التي غذتها بلدان الخليج؟
هكذا تضيق الدائرة وتصبح المواقف الثلاثة المؤيدة للأسد موقفاً واحداً، وتتشابه مواقف اليمين الأوروبي المتطرف ويمين العالم المسيحي المناوئ للمجمع البابوي إزاء مواضيع أخرى. وليس بجديد على رجال دين مسيحيين أن يستقبلوا زوار «كازا باوند» بحفاوة في سوريا. أما إذا انتقلنا للحديث عن اليسار المناوئ للإمبريالية فالصمت أفضل من أي كلام.
المصدر: القدس العربي