ياسر الحسيني
في الأيام القليلة التي رافقت دخول القوات التركية والجيش الوطني السوري إلى الأراضي السورية الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ظهر ذلك الإنقسام في الساحتين العربية والدولية، بين مؤيّد ومعارض لهذه العملية التي أطلق عليها اسم ” نبع السلام”، وما يهمنا بادئ الأمر هو الانقسام الحاصل على صعيد المجتمع العربي، ولكلّ من الفريقين وجهة نظر تكاد تفصح عن مدى تباين المعايير وإختلالها وخاصة “الأخلاقية” منها، الذي يكشف لنا حجم الكارثة التي ألمّت بالعالم العربي، نتيجة الأمراض المجتمعية التي ساهمت الأنظمة بتكريسها لتبتلي الأمّة بالفرقة والعمى، فلا تُجمع على شيء حتى في المسلّمات.
المعارضون لهذا العمل العسكري كثيرون، وعلى رأسهم ملوك وأمراء وحكومات، ويرون فيه احتلالاً من دولة أجنبية! وكأن الوجود الإيراني والروسي والأميركي والفرنسي والبريطاني ليس احتلالاً! لكن المشكلة لا تقف عند مواقف الدول، إنما تمتدّ إلى شرائح لا يستهان بها من المجتمعات العربية، التي تكشف لنا فداحة ما وصلنا إليه من الاصطفاف الذي يتناقض مع الحالة الوطنية في الدولة الواحدة، فكيف إذا عمّمنا على دول العالم العربي؟
هذه الحالة من الانقسام تقتضي منّا التوقف عندها، ومحاولة استكشاف الركائز التي تستند عليها، التي تجعل كلّ طرفٍ يعتقد أنّه على صواب.
المعارضون للتدخّل التركي:
في جردة سريعة لمواقف الدول التي عارضت وبقوّة هذا التدخل، نجد أنّها هي ذاتها الدول التي تساند نظام الأسد منذ اليوم الأول لقيام الثورة ولو بشكلٍ مبطّن، وعلى صعيد الجماعات والأفراد، يفاجئنا أنّ معظمهم كانت لهم مواقف سلبية من “الربيع العربي” وساندوا انقلاب (عبد الفتاح السيسي) على الديمقراطية الوليدة في مصر، وشيطنوا الثورة السورية ووصموها بالمؤامرة والإرهاب، وصمتوا على مجازر النظام والميليشيات الإيرانية والطيران الروسي، بحجّة أنّ النظام السوري هو الوحيد من يقف بوجه إسرائيل!
هناك من يغلّف رأيه بسحنة “العروبة” ويعارض احتلال أي أرض عربية، ونسي أنّ شمال سورية هو بالأساس يقبع تحت احتلال ميليشيات حزب العمال الكردستاني (التركي)، التي يتزعمها عبد الله أوجلان (التركي)، المحميّة من قبل القوات (الأميركية).
المؤيّدون للتدخّل التركي:
هناك نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين من أبناء المحافظات الشرقية (الحسكة ـ الرقة ـ دير الزور) الموجودين في تركيا تؤيّد التدخّل، وتمنّي نفسها بالعودة سريعاً إلى قراها وبلداتها التي خرجوا منها رغماً عنهم، بما فيهم الأكراد أنفسهم الذين هربوا خشية زجّ أولادهم وبناتهم في صفوف ما يسمى “وحدات حماية الشعب الكردي”، بالإضافة إلى السواد الأعظم من الشعب السوري المهجّر والنازح، الذي يبحث عن بارقة أمل، في الخلاص من هيمنة الميليشيات بكلّ أشكالها وانتماءاتها، بعد أن أيقنوا بأنّ العالم لم يخذلهم وحسب، وإنّما هو من سمح بدخول هذه الميليشيات من أجل القضاء على الثورة وتمكين الأسد من استعادة بسط حكمه على الشعب السوري “ما تبقى منه” بالحديد والنار من جديد.
وما بين من يؤيّد ويعارض، تبقى المصلحة التركية هي الفيصل، عندما أدركت تركيا بأنّ حزب العمال الكردستاني pkk”” وبنسخته السورية pyd”” قد أصبح أمراً واقعاً على حدودها، ويشكّل تهديداً لأمنها القومي، وهي التي عانت من إرهاب “pkk” على مدى عقود، ولا بدّ من التعامل مع هذا الخطر بحزم، وطردهم بعيداً عن حدودها، لمسافة 32 كيلومترعلى أقل تقدير، ما يضمن لها أمن القرى والبلدات التركية الحدودية، التي تعرّضت للقصف من قبل ميلشيات قسد مع بداية التدخل التركي، وكذلك ضمان عودة اللاجئين السوريين من أهالي المنطقة بعد تحرير (رأس العين) و (تل أبيض) والقرى المحيطة من وجود تلك الميليشيات، وصولاً إلى تحقيق “المنطقة الآمنة” على طول الحدود السورية التركية شرقي الفرات، المتفق عليها مع الولايات المتحدة الأميركية.
ردات الفعل الغربية المعارضة بشدّة للتدخل التركي، واتخاذها خطوات غير مسبوقة، بوقف بيع الأسلحة لتركيا، ربما تكشف لنا حقيقة التدخل وأبعاده، وأنّه جاء معاكساً لرغبات الغرب وإسرائيل، والعديد من الدول العربية التي لها خصومة مع حكومة أنقرة، وهذا ما يجعل القرار التركي بالتدخل يحظى بتأييد كلّ من يعارض “التطبيع” مع إسرائيل من جهة، ويؤيّد حق الشعب السوري بنيل حريّته والعيش بأمان على أرضه من جهة أخرى. سُئل الإمام الشافعي: كيف نعرف أهل الحقّ في زمن الفتن؟ فقال: “اتبع سهام العدو فهي ترشدك إليهم”.
المصدر: اشراق