منير الربيع
يستطيع العالم أن يسحقني قبل أن يأخذ توقيعي. يلتزم الرئيس ميشال عون بمقولته هذه، التي أطلقها في نهاية الثمانينات، ولا يزال يذكّر بها أو يستذكرها مناصروه وكوادر تياره. لكن التجربة أثبتت أن البلد هو الذي يُسحق في ظل عناد عون وإصراره على مواقفه. وهو كان دائماً، يلجأ إلى خطوات غير متوقعة حين يواجه أي مشكلة سياسية، من حرب الإلغاء إلى حرب التحرير. لا يتراجع عون عن طموح يسعى إلى تحقيقه. الوزير جبران باسيل أقرب الأشخاص إلى عون في الطموحات وطريقة التفكير، هو أيضاً لا يتراجع. ويردّ على الهجوم بهجوم، بلا أي اعتبار لما يمكن أن يرتّب هذا التعنت على البلاد.
أتقن التيار الوطني الحرّ، فن الهروب إلى الأمام، وفن تعطيل كل مؤسسات البلد إلى أن يتحقق ما يريده. التجربة شاهدة على ذلك، خصوصاً قبيل انتخاب عون رئيساً للجمهورية. وبما أن باسيل هو ظل عون وتوأمه “السياسي” أو إبنه السياسي والروحي، فهو لا يتوانى عن تكرار تجربة “مرشده” لتحقيق ما يريد. فهو ردّ على التظاهرات التي عمّت لبنان من أقصاه إلى أقصاه بتظاهرة خاصة به بالقرب من قصر بعبدا، محاولاً خطف شعارات الحراك ونسبها لتياره، ومصراً على المضي في المواجهة، ليس فقط بهدف البقاء وزيراً في الحكومة، إنما لطموحه السلطوي الأبعد من ذلك.
“مدير” الجمهورية
كان عون في سياسته، متقدماً على غيره في طريقة ابتكار الخيارات والشعارات، وفق براغماتية واسعة الذمة جداً، معتمداً على لغة فوقية تلقي بالاتهامات على كل الخصوم، على غرار “كتاب الإبراء المستحيل”، ومن ثم الدخول بتسوية متكاملة، وإبراءً تاماً مع سعد الحريري. اكتسب باسيل أسلوب عون هذا، فتقدم على غيره من السياسيين، وفق لغة التعصب والغريزة الطائفية بما يظنه يوائم تطلعات جمهوره، وبما يوسع شعبيته.
الأسلوب نفسه لا يزال متبعاً من قبل عون كرئيس للجمهورية، وباسيل كـ”مدير” لهذه الجمهورية منذ ثلاث سنوات إلى اليوم. لكن حدث ما لم يكن يتوقعه لا عون ولا باسيل، وهو الانفجار الاجتماعي الذي تحول إلى انتفاضة شاملة، قادرة على الابتكار في تحركاتها يوماً بعد يوم. وهذا أكثر ما يحرجهما كما يحرج غيرهم من السياسيين.
وكل هذا الابتكار اللبناني الآخذ في التقدم والتطور وإثبات نفسه يوماً بعد يوم، بتحركات فعالة أكثر من قطع الطرقات، لا تجد السلطة أي مجال للتعاطي معه بطريقة جدية، إنما يستمر منطق الهروب الى الأمام. فمنذ اليوم الأول قال عون إنه لن يرضخ لهذه التحركات والاحتجاجات، وكان في ذلك متماهياً مع حزب الله، المتمسك بعدم إعطاء أي تنازل للمنتفضين، لأن ذلك سيثبت أن معارضة العهد صائبة.
الهروب إلى الأمام
يهرب عون وباسيل إلى الأمام مجدداً، لا استشارات قبل الوصول إلى توافق سياسي، ولا استشارات وتشكيل حكومة قبل إنهاء الانتفاضة، ولو اقتضى ذلك التعامل معها كما تم التعامل مع الثورة السورية، على حدّ تعبير بعض المحسوبين على رئيس الجمهورية وفريقه. لطالما ادعى عون أن مشروع الإصلاح والتغيير هو مشروعه. وقد بنى زعامته على هذا الأساس، ليجد أن شيئاً من هذا لم يتحقق بينما انفجر الشارع بوجهه. وهذا ما لا يمكن أن يرضى به.
ويهرب عون إلى الأمام من خلال الاستعراضات، التي نراها في بعض الاستدعاءات لبعض المسؤولين للتحقيق معهم من قبل المدعي العام المالي. لا شك أن الخطوة جيدة، لكن يجب أن تستكمل حتى النهاية، وأن لا تكون غب الطلب، وتطال إما بعض المحسوبين على الخط التاريخي المعارض لعون، أو المسحوب عنهم الغطاء السياسي. حتى هذه التحقيقات تعتبر إنجازاً للانتفاضة، بينما لا تزال حسابات السلطة في مكان آخر، متلهّية بتسجيل النقاط بين أفرقائها وضد بعضهم البعض، من دون العمل على أي إجراءات إصلاحية حقيقية، خصوصاً بما يتعلق بغلاء الأسعار، التي ارتفعت بشكل جنوني، ما سينعكس مستقبلاً على وضع الليرة مقابل الدولار.
استهداف الرؤساء السابقين
وبدلاً من العمل الجدي على معالجة الأسباب المعيشية للانتفاضة، يستمر التلهي بالحسابات السياسية، وبالاستعراضات. إذ تحول ملف الفساد إلى لعبة إعلامية أكثر من يجيدها هو عون وفريقه، بدءاً من الادعاء على نجيب ميقاتي وصولاً إلى فؤاد السنيورة. وكأن عون يريد أن يخاطب الناس بأنه يستجيب لما يريدونه، لكنه في الحقيقة ينهمك في تصفية الحسابات مع خصومه. وفي هذا يمارس الضغط على سعد الحريري، عبر استهداف رؤساء الحكومات السابقين، بالتزامن مع الصراع على الصلاحيات، وتأجيل الاستشارات، وعدم الدعوة إليها، بانتظار الاتفاق على التأليف قبل التكليف.. وللضغط على الحريري أكثر والتلويح له بفتح ملفات له أو لمحسوبين عليه لإجباره على التخلي عن شروطه، للقبول بتأليف الحكومة الجديدة.
من الواضح أن أركان السلطة لا يريدون تقديم أي تنازل للمواطنين المنتفضين، وخصوصاً في السياسة، لذلك يتم الردّ على ابتكارات الناس والطلاب والشباب، بأساليب إعلامية باتت مكشوفة.
المصدر: المدن