أنور بدر
يعرف “صموئيل هنتنغتون” مفهوم الجيش الاحترافي في الدول الديمقراطية، بمعنى عدم تدخل أفراد الجيش في الشؤون السياسية كونها تقع خارج نطاق تخصصهم، حيث أكد على أهمية “ولائهم للمجتمع” وليس لحزب أو قائد سياسي، وهذا ينطبق على أغلب النظم الديمقراطية، حيث تنحصر مهمة الجيش بالدفاع عن الدولة بمعنى الوطن والحدود والسيادة، ضد أي اعتداء خارجي قد يضر بمصالح الدولة أو الشعب.
بهذا المعنى سنكتشف غياب مفهوم الاحترافية أو تناقص منسوبها في جيوش أنظمة الاستبداد عموماً، وفي أغلب دول “الربيع العربي”، التي نعنى بدراستها الآن، حيث استطاعت المؤسسة العسكرية في ظروف شتى، كحروب التحرير وصناعة الاستقلال أو المواجهة مع عدو خارجي وبشكل خاص إسرائيل، أن تهيمن على السلطة السياسية، لتحصر مفهوم الاحترافية بالفارق بين التطوع في الجيش والخدمة الإلزامية فقط، أو تقليص الاحترافية في إطار الكفاءة والجاهزية القتالية لدى شرائح الضباط تحديداً، من خريجي المعاهد والكليات الحربية.
اكتسبت أغلب هذه الجيوش مشروعية وطنية نتيجة دورها المركزي في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة، لكنها تغولت لاحقا على السلطة السياسية، وأدارت البلاد مباشرة عبر الانقلابات العسكرية، أو من وراء واجهة مدنية تبقى طوع إرادتها.
يستوقفنا في سياق الربيع العربي بداية، رفض الجيش التونسي الدفاع عن سلطة الرئيس زين الدين بن علي ضد المظاهرات التي اندلعت في البلاد، مما عجل بهروبه في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، قبل أن تكمل الثورة شهرها الأول، بينما في مصر جرت بعض المحاولات لجر الجيش والأجهزة الأمنية لمواجهة المتظاهرين في ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، لكن المؤسسة العسكرية تدخلت في النهاية وفرضت تنحي الرئيس حسني مبارك، خوفا من استمرار الثورة باتجاه تحقيق تحول ديمقراطي كامل.
لنعترف بداية أن الأنظمة العربية، وتحديدا في دول الربيع العربي، تبدو متشابه من حيث طبيعتها الديكتاتورية وخلفيتها الطبقية، وفسادها الاقتصادي، واعتمادها على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في تأكيد شرعيتها الانقلابية أو الانتخابية، من خلال دساتير شكلية تلبي مصالحها، وغالبا ما يتم تجاوزها بالواقع الإجرائي أو عبر قوانين استثنائية أو قانون الطوارئ.
مع ذلك نلاحظ تباينات في شكل السلطة وأساليب عملها وإدارتها البلاد بين نظام وآخر، تبعا لتطور البنى المجتمعية والاقتصادية، وتبعا لتطور المؤسسات الحزبية والسياسية، وتطور بنى وهياكل المجتمع المدني في كل دولة، فإذا كان النظام المصري قد اشترى ولاء جنرالاته بمناصب في الشركات الكثيرة المملوكة أساسا للمؤسسة العسكرية، فإن العقيد معمر القذافي الذي تسلم السلطة بانقلاب الفاتح من سبتمبر 1969، وزع مقاليد الجيش بشكل عائلي وقبلي وجهوي أيضا، كما استولى على النفط وتصرف بعائداته بشكل جنوني وبدون أي قيود دستورية. وعاث فسادا واستبدادا دمّرا ثروات ليبيا ونسيجها الاجتماعي لأكثر من أربعين سنة.
بينما الرئيس على عبد الله صالح حكم اليمن “السعيد” منذ عام 1978، لأكثر من 33 سنة، وحمل رتبة مشير وهو لا يحمل حتى الشهادة الابتدائية، وتمكن من إحكام قبضته على المؤسستين العسكرية والأمنية، ووضعهما عُهدةً في يد أشقائه وأبنائه أولا، وتاليا أبناء الأقرباء من قبيلته وقريته، وهذا ما سمح له أن يجير هذه المؤسسات ضد اليمنيين الذي انتفضوا عليه، حتى بعد تنحيه عن السلطة وفق “المبادرة الخليجية” لعام 2012 التي منحته الحصانة، إلى لحظة اغتياله عام 2017.
لكن تعقيدات الحالة السورية جعلت المشهد مختلفاً عما عرفناه في الأنظمة السابقة، بدءا من الانقسامات العمودية في المجتمع، إلى طبيعة تحالفاته الدولية التي سوقها باعتباره قطب الممانعة والتصدي الوحيد في مواجهة الإمبريالية وإسرائيل، وصولاً إلى خصوصية المؤسسة العسكرية في سوريا، والتي ما تزال تمارس القتل والإبادة ضد السوريين وتدمير سوريا بكل الوسائل بعد أكثر من ثماني سنوات على انطلاق ثورة السوريين المغدورة، التي طالبت بالحرية والكرامة، ونادت بشعار “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”.
خصوصية المؤسسة العسكرية في سوريا، أنها صنعت أول تجربة انقلاب بين تلك الدول عام 1949، ما فتح شهية العسكر على السلطة السياسية، حتى تتالت الانقلابات وصولا إلى الانقلاب العاشر بقيادة حافظ الأسد، والذي دعاه “الحركة التصحيحية”، وهو ما أفقد الجيش احترافيته التي أشرنا اليها بداية، غير أن الانقلاب الثامن في هذه السلسلة والذي حصل في آذار 1963، كان الأسوأ لأنه أنتج سلطة تحالف العسكر مع أيديولوجية حزب “البعث”، وفي هذا التحالف جرى تحصين السلطة السياسية ضد أي انقلاب جديد إلا من داخل سلطة البعث التي شهدت انقلاب شباط 66، وانقلاب الأسد الأخير عام 70.
خطورة الانقلابات العسكرية أنها أدخلت العسكر إلى ملعب السياسة، فأصبحت المؤسسة العسكرية تصنع الحكومات وتضع الدساتير، لكن بعد انقلاب آذار 63 أصبحت المؤسسة العسكرية تحتكر الحقل السياسي والنشاط العام في المجتمع، فالبعث يمتلك أيديولوجيا شمولية لا تعترف بالآخر.
لكن حافظ أسد لم يكتف بذلك، فهو منذ بدأ في عضوية “اللجنة العسكرية” التي تشكلت في القاهرة، شارك بفعالية في انقلابات البعث الثلاثة، واستطاع عبرها أن يتخلص من جميع قادة الصف الأول في حزب البعث، كما تخلص من كل القادة العسكريين بما فيهم شركاؤه في اللجنة العسكرية، وبعد أن استتبت له السلطة في انقلاب ال 70، تابع نفس السياسة للتخلص من كل القادة العسكريين الذين كان لهم دور مساند له، لينتج سلطة سلالة إمبراطورية مستبدة وفاسدة ما زالت تحرق البد وتدمرها وتقتل السوريين وتشردهم، على أمل الحفاظ على سلطتها.
وفي هذه الأثناء طور الأسد مفهوم “الجيش العقائدي”، مستفيدا من تجارب الدول الشيوعية الداعمة له، ليصبح الجيش مسيساً بالضرورة، وعلى كل من يطمح للدخول إلى إحدى الكليات العسكرية أن يكون منتميا لحزب “البعث”، وقد شرعن الأسد ذلك في دستور 1973، حيث نصت المادة 8 منه على اعتبار حزب البعث “القائد للدولة والمجتمع”، كما نصت المادة 11 منه بأن: “القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى، مسؤولة عن سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية”، فالمؤسسات العسكرية والأمنية أصبحت تدين بولائها للحزب وأهدافه، وليس للوطن فقط، وحين رُفع شعار “سوريا الأسد” حلَّ الولاء للأسد بديلاً عن الولاء للوطن، وأصبحت أي معارضة لسلطة الحزب تعتبر خيانة عظمى يحاكم عليها القانون.
في هذا السياق فقط يمكن أن نفهم شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وبالتالي سلوك المؤسسة العسكرية ومعها المؤسسات الأمنية في مواجهة السوريين، تلك المؤسسات التي لعبت على التناقضات العمودية في المجتمع التي استغلها النظام بأبشع الصور لتفتيت وحدة السوريين وإنهاء الهوية السورية على مذبح الأيديولوجيا الحزبية، حتى أن الأسد الصغير لم يخجل من التصريح بأن: الوطن ليس لمن يولد فيه بل لمن يدافع عنه.
واضح أن الجيوش لعبت دورا متباينا في صيرورات الشعوب المطالبة بالحرية والتغيير في دول الربيع العربي، حيث احتكرت مسبقا حقل السياسية والنشاط العام، وظلت هي المؤسسة القوية الوحيدة المنظمة والمتماسكة لإدارة فساد واستبداد النظام، ما يطرح سؤالا برسم اللجنة الدستورية الآن:
كيف يمكن أن يتم التعاطي مع هذه المؤسسات العسكرية والأمنية التي فقدت بعدها الاحترافي والوطني والأخلاقي؟!
المصدر: بروكار برس