منير الربيع
لم تعد معضلة تشكيل الحكومة مسألة الأسماء التي تُكلّف بتشكيلها، ومن يعّين وزيراً فيها. فعملية حرق الأسماء مستمرة. وطريقة طرحها وتسريبها كفيلة بذلك: بعد الصفدي، ظهر بهيج طبارة، ثم برز اسم سمير الخطيب الذي استعجل إعلان قبوله المهمة، فعجّل الرئيس نبيه بري توكيد حرقه، معتبراً أن ما يجري محرقة لأسماء المرشحين السنّة جميعاً.
المسألة أصبحت في مكان آخر: كيف يمكن الالتفاف على مطالب الناس، والاستثمار في تحركهم؟
البيان الذي أصدره الرئيس سعد الحريري معلناً عدم رغبته بتشكيل الحكومة، ومطالباً بالإسراع في الاستشارات النيابية، وداعياً بالتوفيق لمن يتحمّل هذه المسؤولية، يفتح الباب أمام تساؤلات كثيرة: هل سيكون الحريري مؤيداً للشخصية التي تسميها الكتل النيابية لتشكيل الحكومة؟ وهل يكون شريكاً في هذه الحكومة، ويتمثّل بوزراء، أم يؤيد الرئيس المكلف، ولا يمنحه الثقة ولا يتبناه؟
الحريري يحرج بعبدا
القوى السياسية، وخصوصاً حزب الله والتيار العوني، تريد حكومة تكنو سياسية، تتمثل فيها القوى السياسية كلها. وهذا قفز على مطالب الشارع. ولو سلّمنا جدلاً أن هناك ضغوطاً دولية لاستبعاد حزب الله من الحكومة الجديدة، فإن هذا الهدف لن يتحقق في ظل المعادلة القائمة والمساعي المستمرة للاتفاق على تشكيل الحكومة التكنو سياسية. وقد يكون ما يتحقق فقط هو المعادلة التي طرحها رئيس الجمهورية: استبعاد جبران باسيل يقابله استبعاد سعد الحريري.
بعيد إعلان الحريري موقفه، سربت مصادر قصر بعبدا أن الاستشارات النيابية ستبدأ يوم الخميس المقبل. لكن مرسوم الدعوة إلى الاستشارات لم يصدر. وهذا يعني أن ما أرادته بعبدا، هو الرد السريع على الحريري الذي تسببت خطوته بالمزيد من إرباك القصر الجمهوري. واستمرت الاتصالات بالحريري للاتفاق معه على شخصية تتولى رئاسة الحكومة وتحظى بالقبول السني. وفي حال التوافق، لا شيء يكون تغيّر في المعادلة. لكن لماذا يوافق الحريري على حكومة كان يرفض ترؤسها بنفسه؟ ثمة احتمالان هنا: حماية موقعه في السلطة بالحفاظ على التسوية بشكل أو بآخر، وترك الباب مفتوحاً أمام عودته بعد استقرار الأوضاع، بناءً على قواعد التوافق مع عون وحزب الله. وإما أن يكون الموقف الدولي الذي كان يمانع تشكيل مثل هذه الحكومة، وافق عليها أو غض النظر عنها. وهذا يُظهِر كما لو أن بعض الدول كانت مشكلتها مع الحريري!
إذا لم يسم الحريري الشخصية التي يرشحها حزب الله ورئيس الجمهورية للحكومة، يعني أنه مضى بخياره الجديد سياسياً: الخروج من التسوية الرئاسية. وهذا ما يعتبره حزب الله وعون هروباً من المسؤولية، واستجابة لضغوط دولية، ولوضع لبنان والحزب وعون في مواجهة مع المجتمع الدولي، ما دامت الحكومة من لون واحد، ولا تحظى بالغطاء السنّي. وهذا يؤدي إلى تداعيات أكيدة في الشارع.
سقوط الأقنعة
وفق مصادر الحريري الاعتداءات والتوترات في بيروت رسالة ضغط لإرغامه على القبول بالشروط التي يفرضها حزب الله، إلى جانب اتهامه بتعطيل تشكيل الحكومة ليبقى هو رئيسها، من دون سواه. ولذا رد الحريري قائلاً: لا أريد تشكيل الحكومة، ولا بد من الإسراع في الاستشارات لتشكيل حكومة تلبي تطلعات الناس. وهنا تؤكد المعلومات أن الحريري لم يرضخ لشروط حزب الله وعون اللذين اتهماه بحرق محمد الصفدي وبهيج طبارة، بعد موافقته عليهما، وبأنه لا يريد أحداً سواه رئيساً للحكومة، لعزل الحزب ووضعه في مواجهة المجتمع الدولي.
منذ التسوية الرئاسية إلى ما بعد ثورة 17 تشرين، كانت اللعبة لعبة أقنعة: حزب الله يتقنّع بالحريري حيال المجتمع الدولي. ويرتدي قناع جبران باسيل في علاقته بالمسيحيين وبالرأي العام المسيحي الشعبوي. ويرتدي قناع الدولة استناداً إلى تحالفه مع رئيس الجمهورية. أما بعد اندلاع الاحتجاجات واستقالة الحريري، فقد أصبح كل طرف يسعى إلى التقنّع بمطالب الناس: ارتدى الحريري قناع التماهي مع مطالب الشارع، واستمر في التفاوض لتحسين شروطه السياسية لتشكيل حكومة لا تخضع لشروط حزب الله القاسية. وحيال جمهوره وبيئته ارتدى الحريري قناع المواجهة مع عون وباسيل اللذين يستفزان بيئته. وتجاه الدول الأوروبية ارتدى قناع الحفاظ على الاستقرار والتزامات لبنان الدولية للحصول على مساعدات. أما أمام الأميركيين والسعوديين، فارتدى قناع المواجهة مع حزب الله.
لعبة استخدام الشارع في مقابل شارع آخر، والتصعيد الذي اعتمده حزب الله لتهديد اللبنانيين والمجتمع الدولي وتصديع الاستقرار، تنضوي بدورها في لعبة الأقنعة: حرك الحزب شارعه واتهم الحريري بتحريك الشارع المضاد. وهنا لا بد من قراءة الموقف الدولي الذي ينقسم إلى فئتين: الأوروبي بقيادة فرنسا وبريطانيا، اللذين يريدان حكومة يتمثل فيها الجميع. هذا في مقابل الأميركي الذي يرفض تمثيل حزب الله في الحكومة. وإذا تشكلت الحكومة، يكون مجدياً قناع العنف الذي لوّح به حزب الله، فجاءت الحكومة وفق ما يريد.
سعد يريد سعد
إصرار عون على إجراء الاستشارات النيابية سريعاً، وارتفاع أسهم سمير الخطيب لتولي رئاسة الحكومة، قد تجعلان مصيره كمصير الصفدي وطبارة. فطريقة طرح اسمه، والإيحاء بأنه كُلّف قبل إجراء الاستشارات، وإصدار الحريري بيان تخليه من دون أن يسم أحداً قبل الاستشارات، هذه كلها مؤشرات إلى عدم وجود توافق ناجز على ترويس الخطيب. وهذا يوحي للبعض أن الحريري لا يزال يناور ويرفض التفاوض قبل الاستشارات. وهناك من يقول إن “سعد لا يريد غير سعد”. والأهم أن الخطيب لم يجد من يعلن تبنّي طرح اسمه، فيما سارع هو إلى قبولها، مقابل بدء آخرين بفتح ملفاته متهمين إياه بالتورط بملفات فساد.
هذه الحسابات السياسية بعيدة كل البعد عن مطالب الناس في الشارع واهتماماتهم. في الكواليس يخوض السياسيون مفاوضاتهم، للتمكن من مواقعهم واستعادتها. وحسابات السياسيين تتعارض مع حسابات الناس. ونجاح الساسة في إعادة إنتاج سلطتهم التوافقية يعني ضمناً أنهم حصلوا على غطاء دولي. فيما الأنظار تتجه إلى المتظاهرين للنظر في ما إذا كانوا سيستمرون في تحركاتهم. وهل ينجح رهان القوى السياسية على إضعاف التحركات الاحتجاجية؟
المصدر: المدن