كريستوف رويتر ترجمة: علاء الدين أبو زينة
يشكل أسطول من سيارات الأجرة ذات العجلات الثلاث العمود الفقري للاحتجاجات المناهضة للحكومة في بغداد. فهي تجلب الإمدادات إلى الخطوط الأمامية وتعود بالجرحى. وهذه لعبة خطيرة، لكنها واحدة يصر سائقو هذه المركبات على الفوز بها.
تأتي التهديدات بالموت عادة عبر الهاتف، لكن أعداء أبو طيبة لم يتمكنوا من الوصول إليه بهذا الطريق. كان قد فقد هاتفه قبل أيام عدة لدى إطلاق النار عليه أثناء محاولته سحب رجل أصيب بجروح خطيرة من منطقة الاشتباك. ولذلك تلقى تحذيراً من الطراز القديم: مذكرة دُسَّت من تحت بابه تقول إنهم سيقتلونه إذا واصل ما يفعله.
يهز أبو طيبة، المهيب الميال إلى الكآبة، كتفيه الموشومين فحسب. ويقول: “دعهم يأتون ويحاولون”. والرجل البالغ من العمر 34 عاماً ووالد لثلاثة أطفال هو جزء من أكثر الجماعات غرابة في الاحتجاجات الجماهيرية التي هزت بغداد وغيرها من المدن العراقية الكبيرة في الشهر ونصف الشهر الماضين. إنه سائق توك-توك، وواحد من الآلاف مثله في الأحياء الفقيرة في بغداد، الذين يقومون بنقل الناس في أنحاء العاصمة العراقية في سياراتهم الآلية ذات العجلات الثلاث.
أو، على الأقل، كان هذا هو ما فعلوه حتى شهر تشرين الأول (أكتوبر)، عندما شرع مئات الآلاف من الناس في الخروج إلى الشوارع، أولاً في بغداد، ثم في عشرات المدن الأخرى. ويحتج المتظاهرون الغاضبون على الجشع المخزي لقادتهم، واضطرارهم إلى العيش في دولة فاسدة حيث تكسب الحكومة مليارات الدولارات من صادراتها النفطية، بينما تعيش الجماهير في فقر.
ومع أن هذه حركة بلا قيادة، فقد طورت مع ذلك مستوى من التماسك الذي لم يكن يمكن تصوُّره ذات مرة. الشبان يحتجون بجانب الشابات؛ والطلبة بجانب العاطلين عن العمل؛ وموظفو الخدمة المدنية والجنود الذين يرتدون ملابس مدنية بجانب الأمهات؛ والمسنّون الفقراء بجانب رجال القبائل في أزيائهم المزخرفة؛ والممرضون الشجعان بجانب الشابات المحجبات بالكامل واللواتي يرتدين خوذات البناء الصفراء وأقنعة الغاز.
في المنتصف من هؤلاء جميعاً، ثمة سائقو التوك-توك. وهناك أسراب منهم في الميادين والحدائق والجسور التي يحتلها المحتجون. وهم يجلبون المصابين من الخطوط الأمامية إلى المستشفيات الميدانية في الخلف، ثم يعودون بالماء والكتل الخرسانية للحواجز.
حيث يقف المتحررون من الخوف
باعتبارها رشيقة وسريعة الانطلاق وقادرة على المناورة بطريقة فريدة، تنطلق عربات التوك-توك على الطريق في صفوف من أربع مركبات متجاورة. وفي بعض الأحيان، تبحر هذه العربات عبر الأزقة الضيقة، واحدة تلو الأخرى، لإخلاء الساحات في غمضة عين بمجرد أن تشرع قوات الأمن المخيفة في إطلاق النار على الحشود. وقبل ما يقرب من أسبوعين، قالت اللجنة البرلمانية العراقية لحقوق الإنسان إن 319 شخصاً قد قتلوا منذ بداية الاحتجاجات في تشرين الأول (أكتوبر)، وإنما لا توجد أرقام رسمية. ويقول الأطباء إن وزارة الصحة أمرت المستشفيات الحكومية بالامتناع عن إعطاء المعلومات. ومع ذلك، يفقد محتجّون أرواحهم كل يوم تقريباً في بغداد أو كربلاء أو البصرة أو الناصرية.
لكن الناس لا يستسلمون. ثمة عشرات الآلاف الذين يتجمعون كل يوم في بغداد في ميدان التحرير الواقع في قلب المدينة، بينما تحولت المنطقة المحيطة بالميدان بأكملها إلى مدينة خيام للثائرين. ويقف معظم المحتجين الذين تحرروا من إسار الخوف في المقدمة، عند المتاريس الخرسانية، على الرغم من الطوفان المستمر لخراطيش الغاز المسيل للدموع. وفي المساء، يبدأ الحشد في الغناء: “نموت عشرة، نموت ميّة، أنا قافل عالقضية”! ويقف رجل عجوز فوق صندوق طوال ساعات، غير بعيد بأكثر من 70 متراً فقط عن قوات الأمن، وهو يلوح بعلم عراقي عملاق.
“لا”، يقول في لحظة هدوء. “كنت خائفاً طوال حياتي، لكن هذه ليست طريقة للعيش”. ويقول إنه لم يعد خائفاً. “عليهم أن يأتوا ويطلقوا النار”.
بغض النظر عمن كان رئيساً للوزراء في البلاد على مدار العقد ونصف العقد الماضيين، فإنه لم يتم فعل شيء لوقف التفكك التدريجي للدولة. يجب أن يتم شراء كل توقيع في البيروقراطية الشبيهة بالمتاهة، ولا توجد في المستشفيات أي أدوية، وخريجو الجامعات ليس لديهم وظائف، ويُترك العسكريون المصابون والمعاقون من دون أن يعتني بهم أحد. ويتعين على عائلات أولئك الذين يقبعون في السجون لسنوات من دون محاكمة أن يدفعوا ثمن كل حبة دواء وكل قطعة ملابس تُعطى لأقربائهم.
“إنه ليس سجناً، إنه خطة عمل”، تشكو والدة أحد المختفين. كانت احتجاجات مماثلة قد حدثت في البصرة في صيف العام 2018 لأن مياه الصنابير كانت ملوثة لدرجة أن آلاف الأشخاص انتهى بهم المطاف في المستشفى.
“فرسان الثورة”
“ماذا أعطانا قادتنا السياسيون؟”، يسأل طبيب شاب لم يذكر اسمه بسبب الخوف. وأجاب على الفور عن سؤاله الخاص: “التدين الغامض والكراهية الموجَّهَين إلى كل أولئك الذين ليسوا من المسلمين الشيعة. إنهم يتصرفون كما لو أنهم مختارون من الله لجعلنا ننزف حتى الجفاف. لقد نلنا ما يكفي! لم نعد نريد أن تعاملنا إيران كمستعمرة! نريد دولة موحدة لجميع العراقيين، سواء كانوا من السنة أو الشيعة أو المسيحيين”.
منذ الإطاحة بالدكتاتور السابق صدام حسين في العام 2003، الذي كان سنياً، أصبحت البلاد تحت سيطرة الأغلبية الشيعية وهيمنت عليها جمهورية إيران الشيعية المجاورة سياسياً وعسكرياً.
بمعنى ما، ترمز عربات التوك توك -التي أتت من الهند وظهرت لأول مرة في شوارع العراق منذ حوالي أربع أو خمس سنوات- إلى تراجع العراق البطيء إلى مكانة الدولة النامية؛ إلى مكان يستطيع فيه الأثرياء وحدهم تكلف ركوب سيارة مكيفة الهواء، في حين يركب الناس العاديون التوك توك. والآن، تحولت سيارات أجرة الفقراء هذه إلى “فرسان الثورة” -كما تسميها الكتابة على الجدران في ميدان التحرير، مصحوبة بصورة لتوك توك مجنَّح. وحتى الصحيفة التي ينتجها أولئك الذين احتلوا الساحة تسمى “التوك توك”.
على مدار حفنة قليلة فقط من الأسابيع، وفي منطقة لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلومترات مربعة، تمكن المحتجون من إنشاء شيء فشلت الحكومة العراقية في تأسيسه للبلد في السنوات الأخيرة: ثمة مجتمع منظم للغاية، تتولى فيه لجان مختلفة المسؤولية عن توفير الاحتياجات المختلفة، مثل الكهرباء، ومياه الشرب، والطعام والمراحيض. ويستخدم المشرفون الحبال لإنشاء ممرات لإجلاء الجرحى، بينما توجد في منطقة مرتفعة مهجورة -طُرد منها قناصة الحكومة في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)- أماكن إقامة مؤقتة، ومكتبة ومسجد.
إذا كانت عربات التوك توك هي الوحدات الآلية لثورة تشرين الأول (أكتوبر) العراقية، كما يسميها النشطاء، فإن أبو طيبة هو نقطة الهجوم. وتكتسي كامل مركبته، باستثناء مقعد الراكب، بصفائح معدنية من تاجر خردة. وبدلاً من الزجاج الأمامي، الذي تحطم بعد إطلاق النار عليه، وضع شاشة مصنوعة من شبكة سلكية وظهر ثلاجة. وهي ستارة مثالية لصد عبوات الغاز المسيل للدموع.
وهو يعمل كل ليلة، يتقحّم مجلجلاً إلى الأمام نحو الظلام الصاخب حيث مواجهات الخط الأمامي، والتي لا تمكن رؤيتها إلا من بعيد بسبب الخفقان الأخضر لمؤشرات الليزر التي يستخدمها المتظاهرون.
“لقد نلتُ ما يكفي”
لا يشعر أبو طيبة بالاندهاش بشكل خاص لأنه أصبح هدفاً لتهديدات بالقتل. كان قد أمضى سنوات مقاتلاً في مجموعة ميليشيات تسيطر عليها إيران. وقد تشكلت هذه الوحدات المعروفة باسم “وحدات الحشد الشعبي” في العام 2014 كردة فعل على لذعر واسع النطاق الناشئ عن توسع “داعش”. لكن وضع هؤلاء المقاتلين كان إشكالياً منذ البداية: فحتى بينما كانوا يتلقون الرواتب والشرعية من الدولة العراقية، فإنهم كانوا خاضعين لسيطرة طهران.
إنهم أفراد هذه الميليشيات المقنَّعون على وجه التحديد -والذين لا يرتدون الشعارات التي تحدد الهوية- هم الذين ينشرون الموت والإرهاب في صفوف المتظاهرين بإطلاق النار على الحشد. ويقول أبو طيبة: “لقد نلت ما يكفي من هذا”، وقال إنه لذلك قرر تبديل الجوانب.
حتى بعد أسابيع عدة من الاحتجاج، ليس لدى الحكومة ما تقدمه للمتظاهرين سوى الإهانات والعنف. بعد فترة وجيزة من بدء الحركة، أوقف رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، شبكة الإنترنت في جميع أنحاء البلاد. ثم ادعى أن قوات الأمن لم تفتح النار على المتظاهرين، على الرغم من وجود أكثر من 100 جثة تثبت خلاف ذلك. وأخيراً، وعدت الحكومة بالامتناع عن استخدام “الأسلحة الفتاكة”. ومع ذلك، تحولت قوات الأمن منذ ذلك الحين إلى إطلاق خراطيش الغاز المسيل للدموع من عيار 40 ملم، والتي هي أثقل بكثير من العبوات العادية. ويميل أفراد هذه القوات إلى التصويب على رؤوس المتظاهرين وصدورهم بدلاً من الإطلاق في الهواء.
ثمة أشرطة الفيديو المروعة التي يتم تداولها والتي تعرض الناس وهم يموتون. وهي تظهر ما يحدث عندما يتم إطلاق النار على شخص ما في رأسه من مسافة قريبة باستخدام أحد هذه الخراطيش المعدنية؛ حيث يتدفق الغاز المسيل للدموع من فروة رأسه. ووفقاً للأرقام التي جمعها العديد من الأطباء العاملين في المستشفيات في المدينة، فقد قُتل 31 شخصاً في أقل من أسبوعين بسبب قنابل الغاز المسيل للدموع.
عبور الحاجز
سوف تتمتع الدولة دائماً بميزة عندما يتعلق الأمر بحجم القوة التي يمكن أن تستخدمها ضد المتظاهرين. لكن قادة العراق يبدون متجهين، دون علمهم، إلى خسران معركة مختلفة، حول معنى الرموز. وعلى سبيل المثال، يتم الآن اعتقال الناس لمجرد أنهم يحملون العلم العراقي.
والأساطير الدينية، وقصص المعاناة التي عاشها الأئمة الشيعة في الكفاح ضد الطغيان قبل نحو 1.400 عام -يقوم المحتجون بتكييفها وإعادة تفسيرها ليجعلوها كلها خاصة بهم.
بل إن رئيس الوزراء عبد المهدي يدّعي بأن المتظاهرين الشباب الذين يعيدون فقط تمثيل لعبة الفيديو الشهيرة على الإنترنت “أرض معارك اللاعبين المجهولين” تم استخدامهم كوقود لتسخيف الحكومة. وقد شرع بعض المتظاهرين في ارتداء ملابس شخصيات اللعبة، وهم يتجولون عبر سُحب الغاز المسيل للدموع في بغداد في أردية منسدلة إلى الكاحل، معلنين أنفسهم “موتى أحياء” (زومبيات) –عابرين بشكل أساسي من عالم خيالي إلى أرض الواقع.
ولأن هناك أولئك المهتمين بالدفاع عن سلطتهم وملياراتهم من العائدات في هذا الواقع، تجمع كبار السياسيين قبل أسبوعين، إلى جانب واحد من أهم رجال الدين الشيعة، لعقد لقاء مع صانع الملوك للحكومات العراقية: قاسم سليماني، قائد قوة القدس الإيرانية وسيد الميليشيات في العراق. وقد أراد التأكد من أن الجميع ما يزالون يذعنون لخطه -بالتحديد جلب الاحتجاجات إلى نهاية، بغض النظر عن الوسيلة.
خلال ذلك الاجتماع، أظهر حيدر العبادي، رئيس الوزراء السابق الذي تمت إقالته العام الماضي، بوضوح معارضته لهذا النهج. لكن السؤال الرئيسي سيكون قريباً ما إذا كانت استراتيجية القمع الوحشي التي تستخدمها الحكومة ستنجح بالفعل؛ أو ما إذا كانت ستحول الاحتجاجات إلى حركة مقاومة عنيفة.
يعتقد أبو الطيبة، سائق التوك توك الشجاع، أن هناك فرصة ضئيلة لحل معقول. وعلى الرغم من ذلك، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة له في الوقت الحالي هو واحد مختلف: بالتحديد كيف يدفع فاتورة المستشفى لابنته البالغة من العمر عامين. ويقول: “ما زلت لم أسدد حتى الآن الأقساط الثلاثة الأخيرة من ثمن التوك توك، 75.000 دينار؛ أي ما يعادل 570 يورو (630 دولاراً). وتومض على محياه ابتسامة عاجزة -ثم ينطلق مجلجلاً بعربته، عائداً مرة أخرى إلى المتاريس”.
المصدر– (ديرشبيغل) / الغد الأردنية