أحمد مظهر سعدو
من الصعوبة بمكان الحديث عن الراحل العزيز عبد الله هوشة / أبو يوسف، الذي كان من المثقفين الموسوعيين، والعضويين بكل ما للكلمة من معنى، وهو الذي امتطى القلم والفكر السياسي، مناضلًا مكافحًا، من أجل وطن ديمقراطي حر، يسوده العدل، تحت سيادة القانون، دون النظر إلى المعطى العصبوي أو الأقلوي، أو أي تسلط مهما كان، حتى لو كان (ديكتاتورية البروليتاريا)، التي بنيت الماركسية على قيامتها.
لم يكن أبو يوسف من السياسيين الانتهازيين أو الوصوليين، وهو الذي زهد في كل المراكز أو المناصب، وآثر الوطن على كل ما عداه ، فكان ماركسيًا ديمقراطيًا منفتحًا، يحاور الجميع ويستوعب الكل، ولا يهادن الذين يختلفون معه في الرأي، بل يصر على متابعة الحوار، وبناء أرضية مشتركة ليتكئ عليها من يرى في الوطن مبتغىً للحرية والكرامة، وليتابع من بعده كل الذين يختلفون أو يتفقون معه على طول المدى، وفق رؤيا مفادها :أن الفرد أو الحزب أو التجمع أو الجبهة جزء من كل، لا يجوز ولا يحق لأحد استلابها أو الاستحواذ على ساحتها، مهما علا شأنه، أو تمكن من ارتياد آفاقها. ويدرك أننا جزء من مجموع ومحصلة أجزاء، نتعاون ونتجمع من أجل الوصول إلى المبتغى، بالحق والعدل، دون الهيمنة على حقوق الآخرين.
في تاريخ علاقتي الشخصية في العمل الوطني والثقافي والمعرفي والسياسي معه ، يمكن القول إن ذلك من الذكريات الجميلة التي لا يمكن للمرء أن يتجاوزها أو ينساها، بدءً من العمل سويًا في إطار (التجمع الوطني الديمقراطي)، الذي تأسس أواخر السبعينيات من القرن الفائت، في مواجهة الدكتاتور والاستبداد المشرقي الذي مارسه في سورية الأسد الأب، منذ سرقته للوطن والسلطة مع بداية السبعينيات، ولقد كانت تجربة العمل الوطني السوري المعارض للاستبداد عبر (التجمع الوطني الديمقراطي) من التجارب المهمة التي كان للأستاذ عبد الله هوشة فيها الباع الكبير، لتكون نواة معارضة تعي دورها، وتدرك ماهية العمل الوطني الديمقراطي، في مواجهة التسلط الأسدي الفاشي. ولقد عملنا سويًا في إحدى مؤسسات التجمع، في مجلس تحرير صحيفة ( الموقف الديمقراطي) التي كانت تصدر عن قيادة التجمع، و كان يرأس المجلس (أبو يوسف) بكل حنكة وروية وسعة أفق، حيث كان عمله غاية في الصعوبة، لأن المجلس كان يضم كتابًا وإعلاميين وسياسيين من كل أطراف التجمع الوطني الخمسة، بالإضافة للمستقلين، وهو عمل شاق للغاية، إذ كيف يمكن أن يكون المُنتَج السياسي معبرًا عن الجميع ومتوافقًا مع رؤيا الأحزاب المنضوية تحت لواء(التجمع الوطني الديمقراطي)، فكان أبو يوسف رغم آلامه الصحية التي كان يعاني منها في ظهره ، يصبر ويصابر ويتحمل كل الساعات الطوال التي نجتمع فيها، لتجري التكليفات لكتابة العدد الجديد من (الموقف الديمقراطي) ، ومن ثم ليكون الاجتماع الثاني قبل نهاية الشهر، والذي سيقر المواد لدفعها للطباعة والنشر والتوزيع، وطبعًا كل ذلك ضمن ظروف أمنية غاية في الصعوبة، وفينا العديد من الملاحقين أمنيًا، وأولهم الأستاذ عبد الله، وآخرين كانوا متابعين وملاحقين من المخابرات السورية، خلال خمسة عشر عامًا أو يزيد، ومنذ عام 1990 وحتى ما بعد رحيل الدكتور جمال الأتاسي الذي كان يقود التجمع، كان أبو يوسف شُعلة حركة، ونضال وعمل لا يكل ولا يمل، على حساب أسرته، وعلى حساب كل حياته الشخصية، حيث كان أيضًا يتابع العمل في حزبه الحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي ، أثناء غياب المناضل رياض الترك في سجون الأسد. وهو عمل شاق في شقه الحزبي المحظور، وفي شقه السياسي الثقافي لإصدار أعداد صحيفة (الموقف الديمقراطي) الشهرية، التي كانت تعبر عن موقف المعارضة الديمقراطية، في ظل غياب السياسة من المجتمع، التي ألغاها المقبور حافظ الأسد، وزج في سجونه الآلاف من أطياف المعارضة السورية الإسلامية والقومية والماركسية، وكل تلاوين المعارضة.
الأخ أبو يوسف.. كم كنت أترقب الاجتماعات للقائه والاستماع إليه، والوقوف حول رؤياه السياسية، الواعية والمستنيرة، وكيف يخوض في رحاب التحليل السياسي بطريقة قل أن نلقاها عند سواه في تلك المرحلة، كان صريحًا في رؤيته لأي مسألة، ويقبل النقد بكل محبة، ويجادل ضمن الموضوعية الواضحة على محياه، ولا يقبل الخوض في أي موضوع نقاشًا وبحثًا إلا إذا كان مطلعًا على مفاصل حدوده، وجل امتداداته المعرفية والسياسية، بل والأدبية والثقافية، وهو الأديب والمثقف الذي كان يصر أثناء دراسته في مصر على حضور اللقاء الأسبوعي للأديب المصري الكبير نجيب محفوظ. كما كان الصديق الصدوق للراحل سعد الله ونوس، حيث يحدثنا عنه وعن مواقفه، ورؤيته في الأدب والسياسة.
أذكر مرة وبينما كنا مجتمعين في دمشق حي التضامن في منزل أحد الأخوة الأعزاء وكان تاريخًا لا ينسى يوم 10 حزيران/ يونيو 2000، وإذ تدخل علينا زوجة الصديق صاحب البيت (رحمها الله) لتقول أنتم هنا ولا تعلمون أن حافظ الأسد الذي نعارضه قد مات منذ قليل. وفوجئنا حقًا لهذا الخبر وهللنا له وفرحنا، لكنه وعبر ابتسامته الهادئة، كان يقول لنا (تريثوا ولابد أن تنتظروا ما بعد ذلك). ثم سارعنا إلى فض الاجتماع والرحيل على دفعات، خشية حدوث مالا يحمد عقباه.
عبد الله هوشة الرجل الوطني الديمقراطي السوري المثقف انبرى بعد وفاة الدكتور جمال الأتاسي ومع انطلاق ما سمي بربيع دمشق، ليشاركنا مع المؤسسين ال 15 في البداية، لإطلاق منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي، في 30 آذار / مارس 2001 في منزل الراحل الأتاسي الكائن على اتوستراد المزة بدمشق، وهو المنتدى الذي لقي التفافًا جماهيريًا منقطع النظير، وحضورًا سياسيًا وثقافيًا كبيرًا، حتى ضاقت بالحضور كل قاعات وغرف المنزل، ليصل الحضور إلى الشارع الرئيسي، وهو ما عجل في إقفاله واعتقال بعض مجلس إدارته نذكر من المعتقلين الدكتور حازم نهار وسهير الأتاسي وآخرين. كان عبد الله هوشة مواكبًا لحركة المنتدى، مترقبًا لما يمكن أن يأتي، وهو الذي كان يشكك كثيرًا بصدقية هذا النظام، ويرى أنه لن تطول بنا مدة فتح المنتدى بل كافة المنتديات، وهو ما حصل بالفعل عندما قرر النظام الأمني أنه ضاق ذرعًا بهؤلاء الذين يجتمعون ويحاضرون ويُعَرون الاستبداد والمستبدين، الذين شاركوا في نشاطات المنتدى أمثال: رياض الترك، د_ عبد الرزاق عيد، د _ حسان عباس، د_ يوسف سلامة، والكثير من أهل السياسة والثقافة.
أما علاقتي به التي لم تنقطع يومًا فقد عادت لتتجدد أكثر وأكثر، بعد انطلاق الثورة السورية في آذار / مارس 2011، وما جرى خلالها من نشاطات وحراكات سياسية على مستوى الوطن في الداخل والخارج ، حيث أصر أبو يوسف أن يبقى في الداخل السوري، ولا يغادر الوطن مهما حصل، لنلتقي بعد ذلك عبر اجتماعاتنا السكايبية، ولكن هذه المرة من خلال (وحدة دراسة السياسات) في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وهو الذي ترأس الوحدة لينتج الدراسات السياسية التحليلية العميقة، والتي تغوص في الهم السوري، حيث كان يصر على أن تكون الدراسات التي يشارك فيها، وكذلك من كانوا في الوحدة المشار إليها، تلاقح الهموم السورية، وليس مقبولاً لديه أي بحث أو دراسة لا يرتبط بالهم السوري، وكان كعادته دقيقًا في كل ما يكتب ، بل في كل ما يمر بين يديه من دراسات ، لتكون ورقة علمية حقيقية تُقدم لراسمي السياسات ، كي يُستفاد منها بالفعل، بعيدًا عن لغة وأسلوب الانشاء .
كم كان يبهرني برؤيته السياسية العميقة، واستشرافه للمستقبل في كل ما يكتب أو يناقش ويحاور. وكم استوقفتنا صياغاته الفكرية المتماسكة والصادقة، عندما قال مثلًا: (إن السُّنة في سورية هم عماد الدولة الوطنية بامتياز) وهو بذلك يحفر عميقًا في الواقع السوري، بواقعية ديمقراطية عَلمانية، متجنبًا الفكر الطائفي البعيد عن رؤيته وقناعاته، لكنه الجريء في طرحه هذا في لحظة زمنية يصعب فيها المضي في بناء الهوية الوطنية الجامعة، وصولًا إلى العقد الاجتماعي الذي يجمع ولا يفرق.
وإن كان الورق لا يتسع للحديث عن أبو يوسف، فإن هذا الرجل لا تملك إلا أن تُحبه وتحترمه حتى لو اختلفت معه، وتشتاق إليه قدر اشتياقك للوطنية السورية، وللحرية والكرامة التي ضحى من أجلها، وعمل كل ما بوسعه لإنتاج سياسة تتكئ للأخلاق، ولا تتعدى على أي دور وطني للآخر المختلف معه، وكان قادرًا على ذلك ومقتدرًا، حتى امتلك كل هذا الالتفاف حوله، ليس في حزبه فقط، بل من قبل كل أبناء الوطن الذين عرفوه.
المصدر: كتاب صادر عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة