محمود الوهب
يبدو أنَّ ما قاله الكاتب السوري عبد الرزاق عيد، وكان ضيفاً على المؤتمر السابع الموحد للحزب الشيوعي السوري، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1991، كان صحيحاً ودقيقاً وذا رؤية استشرافية، حين ختم مداخلته بقوله، من دون مجاملة أو مواربة: “إنَّ ما يشرِّف هذا المؤتمر اليوم هو أن يعلن عن حلِّ الحزب”. وكانت تلك المرحلة (البيروسترويكا) قد فصلت بين قطبين متناقضين على صعيد العالم، وشهدت حلَّ أحزاب شيوعية عالمية، واستقالة قادة لها شأنها وتاريخها.. وعاش ما تبقى منها على هامش السياسة، فيما القليل القليل منها استطاع أن يجدّد نفسه ورؤيته ويستمر.
دافعُ هذه المقالة أن يعقوب كَرُّو، عضو المكتب السياسي السابق للحزب الشيوعي السوري الموحد، نشر على “فيسبوك” نصَّ رسالة سياسية مؤرخة في 6 مايو/أيار 2005، كان المكتب السياسي للحزب قد رفعها إلى الرئيس بشار الأسد على أعتاب انعقاد المؤتمر القُطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق، ويقول يعقوب معلَّقاً: إنه “لو جرى تنفيذ ما تضمنته هذه الرسالة من مطالب وطنية وشعبية، أو لو شرع بتنفيذها، وإن على مراحل، لوفَّر على سورية وشعبها كل ما حدث من دمار وسفك دماء ومآس لا يزال بعضها مستمراً”. ويعوِّل الكاتب، في حال تطبيقها، على إمكانية انعطاف النظام الشمولي باتجاه دولة القانون والمؤسسات، دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، دولة المواطنة المدنية العلمانية التي لا تمييز بين مكوناتها على أي أساسٍ عرقيٍّ أو قوميٍّ أو ديني. وأَمِلت الرسالة من مؤتمر البعث إلغاء حالة الطوارئ، أو حصرها في مناطق لها حساسيتها! وإقرار قانون ديمقراطي للأحزاب يعمل على توسيع الانفراج السياسي الداخلي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي. وذهبت الرسالة إلى مدى أبعد، فطالبت برفع يد حزب البعث عن الدولة والمجتمع، وبالتالي إلغاء التمييز بين أعضائه وبقية المواطنين لدى القبول في المسابقات التوظيفية، والجامعات، وكذلك في احتكار إدارات الدولة، وإلغاء القانون الذي يربط نشاط النقابات المهنية به. كما تحدثت الرسالة عن الأوضاع المعيشية، ومكافحة البطالة، والفساد، ومحاسبة الفاسدين الذين نهبوا وينهبون مال الدولة وخيراتها، واتخاذ تدابير عقابية بحقهم، وطالبت أيضاً باستقلالية القضاء ونزاهته.
الرسالة جادة ودقيقة في وصفها لما تحتاجه سورية والسوريون، وما جاءت عليه شكَّل سبباً رئيساً لنزول المواطنين، في شهر مارس/ آذار من عام 2011 إلى الشارع، ليحصدهم الجيش السوري “الباسل” باسم المؤامرة الكونية، وليلغي ذلك الحلم المقترن بحرف التمنّي “لو”، وليشعل فتيل تدمير سورية! لكن خاتمة الرسالة جاءت بكلمات تطيِّب خاطر “السيد الرئيس”، وتبعث على ثقته واطمئنانه، فلا تشي بأي موقف عملي يمكن للحزب أن يتخذه: “إننا نعلن التفاف حزبنا وأصدقائه حول السياسة المبدئية التي تقودونها بحكمة وشجاعة وصبر طويل، في مجابهة الضغوط والأخطار المتزايدة من الولايات المتحدة.. نتمنّى لكم الصحة والقوة، ونتطلّع إلى تحقيق نجاح المؤتمر العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي”.
وإذا كانت خاتمة الرسالة قد فصلت بين ما يطالب به الحزب وموقفه الثابت من بشار الأسد و”سياسته المبدئية”، فهي تستدعي ملاحظاتٍ لا بد منها: أنَّها رسالة حالمة، إنْ لم تكن ساذجة، إذ تصوّر الحال الأبوية الخالصة الواصلة إلى درجة التقديس المطلق، على الرغم من أن مرسلها حزب شيوعي علماني، يناضل لتحسين سبل حياة الناس، وواقعهم على الأرض. وتعكس، في الوقت نفسه، الحال التي آل إليها الحزب، منذ قبل التعاون مع كتلة الضباط اليمينية التي يقودها حافظ الأسد إكراماً للسوفييت، آنذاك، على الرغم من انعطافه مائة وثمانين درجة، مبرّراً ذلك بأقوال لماركس وبالأدبيات السياسية السوفييتية. ويمكن القول إن انهيار الحزب بدأ مع مجيء حافظ الأسد الذي رافقه انقسام الحزب الكبير، ما جعله ينشغل بأموره التنظيمية، ويبتعد عن الهم الوطني. ويفتقد، فيما بعد، القدرة على فرض أيّ نوعٍ من الاستقلالية خلال مناقشة ميثاق الجبهة الذي أعطى حزب البعث قيادة الدولة والمجتمع، ومنع عمل أحزاب الجبهة في الجيش وبين الطلاب، ما يعني أنه سلَّم أمره إلى حزب البعث في الدولة والمجتمع، حتى إن نكتة ذات دلالة تداولها السوريون، آنذاك، تشير إلى أن الحزب كتب على يافطةٍ علَّقها على واجهة مقرِّه تقول: “مكتب الحزب الشيوعي السوري لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي”. ولبيان التناقض الذي صارت إليه سياسة الحزب بين ما يرسم ويعلن وما ينفذ أو ما يتجلى في مواقف عملية، يمكن النظر إلى سياسة الحزب التحالفية التي رسمها في مؤتمره الثالث المنعقد في يونيو/حزيران 1969 وفق بنود ثلاثة: الذهاب إلى أبعد مدى في التعاون مع القوى الوطنية والتقدمية داخل الحكم وخارجه. الدفاع عن مصالح العمال والفلاحين وصغار المنتجين. الحفاظ على وجه الحزب المستقل!
أقول على الرغم من ذلك، لم يستطع الحزب الشيوعي السوري أن يلتزم بأيٍّ من تلك البنود في الواقع العملي، اللهم إلا إذا عددنا نضال الحزب السياسي كله، يبدأ بكتابة مقال في صحيفة، وينتهي بإصدار بيان في مناسبة ما. ولكن الأمر عند الشيوعيين غير ذلك، ومع ذلك، منذ التحالف الذي بدأ مع ما سميت “الحركة التصحيحية”، لم يتحالف الحزب مع أيٍ من الحركات السياسية التي انبثقت خلال حكم “البعث”، على الرغم مما تتمتع به من وطنية واهتمام بتنمية البلاد، وتتبنى مصالح الفئات والشرائح الاجتماعية التي يعنيها البند الأول، ومنها ما انقسم عن أحزابٍ وطنيةٍ قائمة، كحزب البعث والأحزاب الوحدوية، وثمّة أحزابٌ ذات صبغة عمالية وماركسية أخرى ظهرت خلال تلك المرحلة.. وقد احتجت كل تلك الأحزاب على الممارسات الديكتاتورية التي أخذت تبرز في سلوك هرم السلطة من تمجيد ومنح ألقاب يرافق ذلك قمع وفساد غير مسبوقين. وكأنما إحدى أهمِّ مهام الأسد في مجيئه تعطيل السياسة بالمطلق، أو أن مهمّة القبول بقرار مجلس الأمن 242 تتطلب لجم الشعب، وتعطيل السياسة. ويعرف الأسد الطامع في السلطة وحدها ما يريده تماماً، ولذلك لا تنقصه الأحزاب في ظروف غليان المنطقة بُعيد 1967. وهكذا جاءت الجبهة مجرّد واجهة، فمعظم أحزابها منقسم أصلاً عن حزب البعث، وكانت تعيش اليتم بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وانقلاب أنور السادات على إرثه، فوجدت ضالتها في شخص حافظ الأسد. وهكذا مجَّدَهُ بعضهم أكثر مما فعل “البعث” نفسه، إلى درجة أن بعض قياديي “البعث” صاروا يغارون من مزايدات الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، صفوان القدسي، عليهم في وصف الأسد “رجلا في أمة، وأمة في رجل”. أما الحزب الشيوعي المعوَّل عليه، وذو التاريخ النضالي، فقد وصلت إليه رسالة الأسد عبر الوزير يوسف الفيصل برضى الأسد عن التمجيد، وربما بأمر منه، ولم يتخذ أي إجراءٍ، على الرغم من قلقه من ديكتاتور جديد.
وهكذا اقتصرت المواقف على البيانات، أو طرحها أحياناً في مجلس الشعب. وحين يخرج البيان عمّا هو مسموحٌ به، كانت السلطة التنفيذية تتخذ إجراءاتٍ زجريةً، كمنع القيادة من السفر أو عدم تمثيل الحزب في قوائم الجبهة لدى هذه الانتخابات أو تلك. حصل ذلك لدى موقف الحزب من دخول الجيش السوري لبنان، وحين مجزرة تل الزعتر في 1976 في بيروت، وارتكبت بوجوده، وفي الموقف من الحرب الإيرانية العراقية التي نشبت في 1980، ودخول الجيش الإيراني أراضي عراقية، وفي قضايا داخلية كالموقف من مجازر حماة في 1982 تحت غطاء ملاحقة الإخوان المسلمين، والموقف من القضية الكردية، وكذلك موقف الحزب من الفساد ونهب المال العام وتوقف التنمية وخراب القطاع العام وسوى ذلك.
اليوم، وقد صار الحزب ثلاثة أحزاب، عدا عن الذين انسلخوا عنه كلياً، اسماً ومحتوى، واحد منها معارضٌ فوق الطاولة، ومنسقٌ مع جهازيْ الأمن السوري والروسي تحت الطاولة، واثنان يتماهيان بالنظام السوري، وبكل ما ارتكبه من جرائم وموبقات جملة وتفصيلاً، توضح ذلك رسالة الحزب الشيوعي السوري “الموحد” المرسلة إلى الأسد في 30/ 11/ 2019 بمناسبة مؤتمر الحزب، وجاء فيها: إنَّ “أعضاء المؤتمر العام الثالث عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد يتوجهون إلى سيادتكم بالتحيّة والتقدير لمواقفكم الوطنية الخالصة، ولصمودكم على رأس الدولة، وفي قيادة الجيش العربي السوري الباسل، في مواجهة أشرس غزو إرهابي عرفته البشرية، مدعوم من تحالف دولي معاد لسورية وشعبها بقيادة الإمبريالية الأميركية، ومشاركة فاعلة من الكيان الصهيوني.. إلخ”.
وإذا كان من تعليق على هذه الرسالة، فإن مرسليها لم يروا من سورية غير بشار الأسد، فلا شيء عن تدمير سورية، بناءً واقتصاداً وتغييراً ديمغرافياً، ومحاولاتٍ لطمس الهوية السورية وفق نظرية التجانس وتهجير عشرة ملايين إنسان، ناهيكم عن القتل الممنهج الذي طاول مئات ألوف السوريين، ومنهم قياديون في الحزب ذاته (إبراهيم قندور، عضو مكتب سياسي، قتل بطلقة قناص، لم يذكر في نعيه من قاتله)، وأبناء قياديين وإخوة لهم وأبناء إخوة (فؤاد اللحام ونجم خريط)، إضافة إلى من صُفِّي في سجون النظام.
ويذكر أنَّ شيوعياً جاء يطالب قيادة الحزب بالتدخل للإفراج عن ولده الشيوعي المعتقل (كمال أحمد والد الشاب يشار/ الجولان) فكان جواب الأمين الأول “وماذا يمكننا فعله إذا كنت لم تحسن تربية ابنك؟” كما أنَّ الحزب لم ير الاحتلالات المختلفة، ومناطق النفوذ، وافتقاد السيادة الوطنية ترنيمة النظام العذبة، وكذلك لم يتحسّس هذا الانهيار الاقتصادي الذي يهدّد الشعب السوري بأبسط سبل عيشه! ولم يدرك أنَّ الذي يواجه “أشرس عدو” قد قدَّم سوريةَ المدمَّرة، شعباً ومقدراتٍ، هدية لذلك العدو، بل إنه استجلب أعداء أكثر شراسة.
المصدر: العربي الجديد