عبده الأسدي
يشكّل الدستور روح الدولة، وفحوى النظام السياسي، ويعكس الحالة السوسيو- سياسية والسوسيو – اقتصادية للدولة. وهو يقدم مقاربة تاريخية كبيرة لماهية الدولة، ولآلية عملها، تشريعياً وتنفيذياً، ويقدم الدستور، فوق ذلك، هوية النظام السياسي.
ولا يستقيم الحديث عن الدولة دون دستور، ولا يكون دستور دون وجود دولة، إنهما توءمان يمضيان لصياغة عقد المواطنة. بيد أن هذا العقد يُصاب بالعطب حينما تستولي على السلطة طغمة حاكمة، تسلب الدستور جوهره، وتعيد إنتاج “واقع دستوري افتراضي” بما يتلاءم ومصالحها. تحافظ على هياكل الدولة من برلمان وحكومة، ومستلزمات من صناديق الاقتراع، وغيرها، وتشرك الجميع فيه، على قاعدة أن الكل يريد أن يستفيد من البقرة الحلوب (الدولة)، بيد أن رأس النظام، حصٌر على الرئيس، هو ثابت لا يتغير، بتغير الزمان، وإن رحل، فإن “العناية الإلهية” تقدم نسل الرئيس في صورة الرئيس المؤبد.
ولربما تشكل الحالة السورية هنا نموذجا بالغ الأهمية، فقد شكلّت حقبة الأسد الأب انقطاعاً في الحياة السياسية السورية، انقطاع ما كان له أن يتشكّل من دون السياسة الممنهجة التي عملت على تصحير الحياة السياسية السورية من أي دلالة مجتمعية، فتم بناء منظومة تطييف مجتمعية، بعد أن أدخلت السياسة إلى الطوائف فباتت الطوائف طائفية، وأصبح الدستور لزوم ما لا يلزم، واستحكمت الأجهزة الأمنية بكل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية، والثقافية والإعلامية. ثم جاء الوريث الابن ليكمل مسيرة التطييف، فتم تغيير الدستور خلال نصف ساعة، بهدف الاستيلاء على كرسي الرئاسة، بعيد وفاة والده في حزيران/يونيو 2000 (تعديل المادة 83 من الدستور التي اشترطت أن يكون عمر الرئيس 40 عاماً على الأقل عند تسلمه الحكم، ليصبح وفقاً للتعديل 34 عاماً، وليصدر بعدها سلسلة من المراسيم التي تهيئ له الاستيلاء الأبيض على السلطة).
يصح القول إن عصر الأسدين تمثل في اغتيال الدستور السوري بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، على الرغم من كل العيوب الموجودة في دستور 1973، فلم يعد الدستور هو الناظم، بل أضحت الدولة المتضخمة بمركزية الأمن والعسكر، وبنزعة الطائفية والإثنية وحُسن استثمارهما هي المسيطرة، ولم يعد المجتمع السوري سورياً بقدر ما أضحى مجتمعا طائفياً إثنيا.
وبالمحصلة وكما يقول الكاتب ياسين الحاج صالح، “صار السنّيون أكثر سنية والعلويون أكثر علوية والمسيحيون أكثر مسيحية وهكذا، وصار الجميع أقل سورية”. وصارت الجمهورية السورية جمهورية آل الأسد.
وهنا لا بد من التساؤل هل كانت إشكالية الواقع المتأزم تاريخياً في سوريا تحمل في جوهرها، أو لنقل في أحد تجلياتها، إشكالية دستورية أو بعداً دستورياً؟ أو هل يمكن أن نعتبر أن أحد أسباب تفجر الثورة السورية، هو غياب دستور ناظم للحياة السياسية في سوريا، دستور يضمن الحقوق ويصون الواجبات، ويحقق الكرامة للمواطن في دولة المواطنة؟
هذا التساؤل يدفعنا للبحث مجدداً، عن مدى جدية النظام السوري في التعاطي مع ملفات التفاوض سيما ما يتعلق بمسألة كتابة دستور جديد للبلاد عبر اللجنة الدستورية التي لم تحقق إلى الآن أي تقدم يُذكر.
اعتقد انه من المفيد أن نستذكر بعجالة مسألة الدستور في سياقها التاريخي في سوريا، وكيف كانت تشكل عصب الحياة السياسية في سوريا، بهدف تبيان ما الذي أحدثه الانقطاع التاريخي في المسار السياسي لتاريخ سوريا منذ أن سيطر حزب البعث على مفاصل الحياة السياسية بعيد الانقلاب المشؤوم الذي نفذه الأسد الأب في عام 1970.
المسار التاريخي للحياة الدستورية:
لقد جرّد الدستور الذي تم وضعه بعد الجلاء الفرنسي عن سورية (1946)، في العام 1950 بمواده الـ 166 الرئيس من معظم الصلاحيات التي كان يملكها في الدستور السابق (دستور1930)، ومنح البرلمان صلاحيات واسعة، خشية أن يستغل الرئيس صلاحياته. ناهيك عن أن القضاء كان مستقلاً، لا سلطان عليه غير القانون.
اضطراب الحياة السياسية في سوريا، آنذاك، جعل من المستحيل المضي في تطبيق بنوده، إذ يكفي التذكر أنه ما بين عامي 1947 و1954 تعاقبت على سوريا عشرون حكومة وأربعة دساتير. ناهيك عن سلسلة انقلابات عسكرية نجح أغلبها في إطاحة الحكومة.
بيد أن مرحلة الوحدة مع مصر، وما استتبعها مع وضع دستور جديد في العام 1958، قد ألغى الحياة السياسية في سوريا، وأعطى الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، باعتباره رئيساً للجمهورية العربية المتحدة، صلاحيات واسعة النطاق. ما وسع من دائرة التململ في أوساط بعض الضباط السوريين الذين قاموا بتنفيذ انقلاب عسكري أطاح الوحدة عام 1961.
ما يعنينا هنا هو التأكيد أن هذه المرحلة شكلت بالفعل تجربة مفصلية في الحياة الدستورية في تاريخ سوريا، إذ اختلفت جوهرياً عن المرحلة الأولى، والتي يسميها كثير من المؤرخين بالجمهورية الأولى، لناحية احتكار حزب الاتحاد القومي (الحزب الأساسي لعبد الناصر) الهيمنة الكاملة على الحياة السياسية، وبالتالي صياغة عقد دستوري يتوافق معه (الجمهورية الثانية).
مع نجاح الانقلاب العسكري على الوحدة مع مصر، عادت سوريا إلى العمل بدستور عام 1950.
دشًّن قيام اللجنة العسكرية في تنفيذ انقلاب 8 آذار/مارس عام 1963 ولادة “الجمهورية الثالثة” في سوريا، أو لنقل ولادة جمهورية البعث، ولادة أفرغت الحياة الدستورية في سوريا من أي مضمون قانوني، وجعلت من الأيديولوجيا القومجية معياراً لقياس وطنية المواطنين، وليس مواطنية المواطنين في دولة المواطنة المفترضة، في حين استحوذت على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية عبر عملية تطييف واسعة لم يسلم منها أحد في المجتمع السوري.
واستطاع حزب البعث أن يستولي، بشكل كامل، على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتمت صياغة دستور جديد في العام 1964، دستور أعطى صلاحيات واسعة لما عُرف آنذاك بالمجلس الثوري، تشمل التشريع والاشراف على عمل السلطة التنفيذية.
بيد أن الصراعات داخل أجنحة حزب البعث، أدت إلى تنفيذ حافظ الأسد انقلابه العسكري تحت مسمى الحركة التصحيحية في العام 1970، بهدف إعادة ثورة 8 آذار/ مارس إلى “سياقها الصحيح”، كما تزعم سردية البعث التصحيحية.
ولتكريس سيطرته وضع الأسد الأب دستوراً جديداً عام 1973، دستور أعطاه صلاحيات واسعة النطاق، وأبعد من ذلك فقد نصت المادة 8 منه على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع. وبناء عليه يرشّح مجلس الشعب الرئيس بناءً على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث، الذي هو أميناً عاماً لها، وأن يُطرح لاستفتاء شعبي، دون أن يكون هناك مرشح آخر، إلى جانب تحكّمه بالمؤسسة العسكرية والتشريعية، وسلطته لإعلان حالة الطوارئ أو إلغائها، وتحديد السياسة الخارجية، وإعلان حالة الحرب أو السلام.
وعلى وقع تفجر الثورة السورية، حاول النظام أن يجري تعديلات طفيفة على الدستور، فقام بإلغاء المادة الثامنة منه، وطرح قانون أحزاب تعددي جديد، إضافة إلى رفع حالة الطوارئ التي استمرت 48 عاماً مستبدلاً بها بقانون ” مكافحة الإرهاب”.
لكن الذي حدث أن بنية النظام السياسية والأمنية والعسكرية كانت قد تجذرت في كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية السورية، ناهيك عن كون الدستور الجديد أو المعدل، هو صيغة معدلة عن السابق، فلم ينقص أي شيء من صلاحيات الرئيس وهيمنته على المؤسستين التشريعية والتنفيذية، واحتكاره لقيادة الجيش والقوات المسلحة، إضافة إلى كونه رئيساً للمجلس القضائي الأعلى (وهي السلطة الوحيدة القادرة على إحالته إلى المحاكمة).
وبالمحصلة يمكن القول إن الحياة الدستورية خلال عهدي الأسد الاب والابن كانت حياة إقصائية، استخدم فيها الدستور كمطية لتثبيت حكم الأوليغارشية الحاكمة، ولتعزيز هيمنة حكم أقلية طائفية، لكنها تعبر بالجوهر عن هشاشة سياسية، فاستطاع أحداث استقطابات بالغة العمق في المجتمع السوري الذي انتفض لاستعادة ذاته وامتلاك قراره.
“الدستورية” وجدل الأضداد بين “الجهورية الثالثة” و”الثورة”
هل يصح القول إن الثورة السورية تشكل في إحدى تجلياتها حلما لصياغة عقد دستوري جديد، وهل تستطيع قوى الثورة السورية أن تساهم في تخليق هذا العقد عبر حوار أو مفاوضة مع وفد النظام السوري؟ وهل بعد كل الذي أحدثه النظام السوري من خراب ودمار، هل يمتلك هذا النظام المقدرة والديناميكية لإحداث قطيعة مع ماضيه الدموي، ويقوم بصياغة عقد دستوري مع أطياف المعارضة السورية؟ هي وغيرها من الأسئلة الإشكالية نحاول في هذه العجالة أن نقدم لها مقاربات لمناقشة مسألة صياغة دستور جديد، على ضوء ما استجد من تشكيل اللجنة الدستورية:
أولاً: أن تشكيل اللجنة الدستورية، ليس نصراً للنظام السوري، لأن أن عمل هذه اللجنة -في ما يخص الدستور الجديد-يمس أحد تابوهات النظام، حيث يعتبره أمرا محظورا غير مسموح الاقتراب منه. لكن ثمة من يرى عكس ذلك، فأي تغيير دستوري قد يحصل سيتطلب الضوء الأخضر من النظام، بل هو يعتبر أن إحداث اللجنة الدستورية هو إقرار باستحالة تغيير الواقع السياسي والدستوري، بل وثمة من يرى أن تشكليها إنجاز سياسي للنظام، وهو يعني تخلي المعارضة عن حلمها بإقامة حكم دونه، ما يعني أن الأسد باقٍ، أو أن نظامه باقٍ، وأن العملية الدستورية سوف تتم تحت أنظاره، وأنه قادر على شلّ عمله والتحكم بمجرياته بأي وقت، وتحت أي ذريعة (سبق أن رفض وفده وبشكل مطلق في الجولة الثانية وضع جدول أعمال لها، وطرح ما سماه بوثيقة الركائز الوطنية).
ثانياً، إن اللجنة الدستورية ليست بدعة أو اختراعا روسيا أو نتيجة توافق روسي مع النظام السوري، وأعتقد أن تشكيلها هو ثمرة جهود سياسية دامت نحو عشرين شهراً، بدأ مع مؤتمر سوتشي الذي خرج بقرار يتيم هو ” تشكيل لجنة دستورية لكتابة الدستور السوري”، وهو بالفعل استند إلى القرارات الأممية، وليس بهدف مساعدة النظام في دفن بيان جنيف 1 والقرار 2254. صحيح أن الروس حاولوا، أكثر من مرة، تمرير معلومات بأنه تمت صياغة دستور سوري من قبل خبراء روس، وأنهم بصدد تحريف مسار عمل اللجنة الدستورية، لكنني أعتقد أنه من الأهمية بمكان استثمار نفاط الضعف في تشكيل اللجنة الدستورية، وتحويلها إلى نقاط قوة لصالح المعارضة السورية.
ثالثاً: إن الشعب السوري حينما خرج للمطالبة بالحرية لم يكن معنياً بمسألة تغيير الدستور أساساً، أو وضع دستور جديد، لكن النظام السياسي السوري للجمهورية الثالثة (جمهورية البعث) هو الذي أجهض الحياة السياسية والدستورية في سوريا، وهو الذي صنع دستوراً جديداً أبَّد الأسد الأب ومن بعده الأبن إلى الآن، ولربما لو لم يتم إحداث قطعية سياسية، عبر ثورة الشعب السوري، فسيكون التاريخ السوري أمام مهزلة لا مثيل لها، بأن يكون حافظ بشار الأسد الرئيس القادم لسوريا وهكذا دواليك.
رابعاً، ينبغي التعامل مع اللجنة الدستورية ضمن حجمها الطبيعي، بمعنى أدق لا يمكن اعتبارها نصراً للمعارضة السورية، أو نصراً لتطلعات الشعب السوري، في الحرية والكرامة، ولا يمكن اعتبارها بداية عهد جديد سينهي عهد الظلم والقمع، بل محطة، ليس إلا، بعد أن تم تجميد بيان جينف رقم 1 والقرار الأممي 2254.
خامساً، إن التمني وحده لا يفيد في العمل السياسي، وإعادة التذكير بما جاء في بيان جنيف، أو في القرار الدولي 2254، أيضاً لا يفيد. في السياسة تُخلق الحقائق السياسية عبر فرض مستجدات عسكرية جديدة. فلا يمكن العودة إلى القرار الأممي القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي طالما أن المعارضة فقدت عسكرياً الكثير، وطالما أنها رهنت نفسها لتجاذبات إقليمية وعربية بالغة السوء. مما يعني أن المستجدات السياسية تفرض منطقها السياسي اعتماداً على تغيّر ميزان القوى.
لكن ألا يصح القول إن دخول المعارضة بوابة اللجنة الدستورية بحجة الواقعية السياسية ومكسب للنظام وانتصار لأطروحاته السياسية، ودليل على خسارة هذه المعارضة أوراقها السياسية؟
سادساً، إن الاكتفاء بموقف الرفض أو ما يمكن أن نسميه بالعدمية السياسية لا يصب في مصلحة الشعب السوري، سيما أن ميزان القوى العسكري يميل تماما لصالح النظام، ولا سيما مع فقدان المعارضة السيطرة على الكثير من المناطق. وبالتالي ربما يجدر بالمعارضة السورية أن تستثمر أي منبر عالمي لتثبت أن النظام لا يرغب بإحداث تغيير حقيقي في مساره السياسي، ولا يمتلك المقدرة الديناميكية على احداث قطيعة سياسية مع حاضره، إنه نظام قائم تاريخياً على لعبة الاستقطابات الطائفية والاثنية، وهي أهم مقومات بقائه واستمراره ومهما حاول أن يغيّر من طبيعة بنيته فلا يمكن له أن يغيّر من طبيعته العدوانية.
وبالتالي فقد يكون الولوج في بوابة العمل عبر اللجنة الدستورية مفيدا في فضح هذا النظام، وتعريته.
سابعاً، إن النظام السوري، سيفقد شرعيته فيما لو تم التوصل إلى دستور جديد لسوريا، دستور “الجمهورية الرابعة”، بعد أن أجهض دستور “الجمهورية الثالثة” كل ما حققه الشعب السوري من إنجازات لدمقرطة الحياة السياسية، ومسألة تداول السلطة. لأن الدستور الجديد لن يكون إلا بمثابة إسفين يُدق في المنظومة الأيديولوجية والطائفية المُشّكلة للنظام السوري.
ثامناً، إن اللجنة الدستورية لن تكون إلا خطوة من ألف خطوة، وربما أكثر، لكنها لن تبدد حلم السوريين في الحرية والكرامة والمواطنة، بل لربما تضع هذه اللجنة العالم أمام مسؤولياته في أن يتعامل بجدية مع عذابات السوريين وآلامهم، فنحن أمام معطى قانوني، وامام واقع سياسي يدعو لصناعة دستور جديد، فلماذا لا تخوض المعارضة السورية غماره، وهي تدرك، تماماً أن هذا النظام لا يستطيع أن يخرج من جلده، ووان رئيسه لن يترك كرسيه إلا راحلاً إلى قبره.
تاسعاً، إن رفض اللجنة الدستورية يتطلب تحقيق بديل سياسي آخر، بديل يستند إلى معطيات عسكرية وسياسية جديدة، وجميعنا يدرك الحال الذي آلت إليه المعارضة السورية من تشرذم وتشتت، وأسلمة وتجاذبات لهذا النظام العربي أو ذاك، أو لهذا البلد الإقليمي أو غيره. لذا أعتقد أنه من الحكمة عدم مقاطعتها.
عاشراً، على المعارضة السورية استثمار كل الجبهات، و”الجبهة الدستورية” واحدة منها. فأينما أتيح للمعارضة السورية أن تعبر عن كينونتها السياسية، وأن تجسد حلم السوريين في التحرر ينبغي عليها استغلاله. فالسياسة لا تحكمها المبادئ الأخلاقية، بل المصالح السياسية، ومن مصلحة الشعب السوري استثمار كل المنابر، لفضح نظام دموي بالغ الخطورة.
حادي عشر، ربما ما ذهب إليه الكاتب والباحث السوري وائل السواح من ضرورة الانفتاح على الطرف الثالث، أو بعض أطرافه (المجتمع المدني) هي خطوة بالغة الأهمية، وهنا لا بد من العمل على تعميق هذا الطرح، ومحاولة تقديم مقاربات قانونية بالتوافق مع هذا الطرف بهدف التوصل إلى صيغة لبلورة شكل الحكم في سوريا مستقبلاً عبر وضع دستور جديد.
ثاني عشر: إن أحد أخطر عيوب فريق المعارضة في اللجنة الدستورية (ائتلاف11، مستقلون11، فصائل مسلحة 10، الهيئة 7، منصة القاهرة 5، منصة موسكو5، المجلس الكردي 1) أن فريقها غير منسجم في التوجهات السياسية والرؤى، مقابل فريق النظام الذي يمتلك مرجعية واحدة (القصر الجمهوري في دمشق). وكذلك فإن فريق المجتمع المدني، في كثير من شخصياته قريب من النظام السوري في توجهاته السياسية وفي رؤيته للحل السياسي المنشود. مما يضع المآلات المستقبلية لعمل اللجنة أمام احتمال الخروج بتعديلات طفيفة على دستور الجمهورية الثالثة (جمهورية البعث) أو أن يتمسك فريق المعارضة، بما جاء من أجله، دستور يؤسس لولادة الجمهورية الرابعة، وهنا فإنه من المستبعد أن يوافق النظام، وإما أن يعطل أحد الفريقين أعمال اللجنة الدستورية، لسبب ولآخر، من دون إلغائها رسمياً، ما يعني نسف فكرة التوصل إلى صياغة عقد دستوري جديد.
ثالث عشر: لا بد من التشديد على أن فكرة أن أي دستور سيتم وضعه لن يشّكل إلا المدماك الأول في بناء شاهق، لكنه الأساس لصوغ العلاقة بين الدولة والشعب، ولإيجاد دولة المواطنة. وهنا لا بد للمعارضة أن تُعمل التفكير النظري في الاطروحات القانونية، بحيث تستفيد من كل الأفكار التي طورها علماء القانون والسياسة والاجتماع، وأن تعتبر دخولها في حقل التفاوض مع النظام السوري، ضمن آلية اللجنة الدستورية هو بمثابة شكل من أشكال الصراع السياسي. فالصراع مع نظام مستبد ليس حقله الميدان العسكري فقط، بل ثمة ميادين أخرى والميدان القانوني هو واحد من هذه الميادين.
رابع عشر، من الأهمية بمكان أن تمتلك المعارضة السورية تصورات وسيناريوهات لمستقبل الحكم في سوريا، لا أن تنتظر ما قد يُعرض في جلسات التفاوض حول شكل الحكم، كل شكل نظام يحمل في طياته سلبياته وإيجابيات، والعمل على دراسة هذه المعطيات وفقاً لإحداثيات الواقع السوسيو- سياسية والسوسيو – اقتصادية للوضع في سوريا هو أمر بالغ الأهمية والحيوية. فلا ينبغي أن يكون عقلنا السياسي اقصائياً يرفض أي فكرة دون التبحر فيها، ودون دراستها، سواء تعلق الأمر بإبقاء النظام السياسي جمهوري، أو التوجه إلى الصيغة البرلمانية أو الفيدرالية أو غير ذلك.
ثمة مخاطر لا يمكن التقليل من شأنها، بأن يختزل النظام السوري الصراع بصفته صراع سياسي ببعد عسكري، إلى مجرد خلاف قانوني، على مسألة إعداد دستور جديد، رغم انه لا يمكن تجاهل أن النظام فقد ورقة التوت إزاء طروحاته، بأنه يحارب منظومة إرهابية عابرة للحدود استوطنت أرض سوريا الجغرافية، إلى إجباره للتفاوض مع معارضة تمتلك رؤية سياسية لمستقبل سوريا، وتسعى لأن ترسم للسوريين حلمهم في بناء دولة المواطنة.
ما يفترض الآن التأكيد عليه، أن تعي المعارضة دورها ليس فقط من أجل صياغة عقد دستوري جديد، فهذه مسألة قد تأخذ وقتا طويلا، بل دورها في الحفاظ على الهوية السورية، وإعادة بناء الكيانية السورية، بإطار جمعي قائم على مبدأ سوريا لكل السوريين، وأن بناء دولة المواطنة يعني دفن “سوريا الأسد” وإلى الأبد. دفن يحمل معه كل الوسخ العالق بتاريخ سوريا.
المصدر: بروكار برس