لعلها ثرثرة المساطيل فوق سطح النيل، بل لعلها عبث من بعض شرائح الشعب المصري، أراد منها الكاتب الكبير نجيب محفوظ، في تلك المرحلة، أن يغرد حولها، ويلاقح تلك الحوارات، التي كانت تدور جوانيتها، في احدى عوامات النيل الشهيرة، والتي ارتأى أن يسميها كرواية جديدة ” ثرثرة فوق النيل “… وان كنت قد بدأت قراءتها قبل شهرين، ثم انقطعت عنها، ما ينوف عن أربعين يوماً، لأسباب خارجة عن ارادتي، ثم عدت اليها الآن، لأكمل قراءتها، وأستمتع بالقص الروائي الجميل، الذي عودنا عليه الأديب الراحل والكبير نجيب محفوظ..
ولأن محور الرواية يدور حول (الجوزة) ودورانها، الواقع في العوامة يومياً، ليجمع حولها حالة من الناس المثقفين، الذين يهربون من معاناة الحياة، ليروا في دوران الجوزة، والانسطال فيها، ملاذاً آمناً لهم، عساهم يخرجون بها وعبرها، من الهموم المتلاحقة فوق رؤوسهم.. فيعبرون في هذه الجلسات عن مكنونات البشر ومعاناتهم اليومية، لكن هذا الاجتماع الليلي اليومي، لم يكن هروباً موفقاً، حيث جرهم جميعاً، الى فعل لا أخلاقي، قادهم الى السجن.
ولأن (محفوظ) قد بدأ بشهر (نيسان شهر الاكاذيب) كما قال، وكما اعتاد الناس على تسميته، فان ” الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر، الملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف، ويالها من تسليه أن تلاحظ المضاعف، من جدية مظهره، وهو يؤدي عملاً تافهاً “.
كانت الرواية تصر على إطلاق اعترافات، من شخوصها الذين يجلدون فيها أنفسهم، وكذلك يجلدون المجتمع، الذي يعيشون بين ظهرانيه، فيقول على لسان أبطاله ” كلنا أوغاد لا أخلاق لنا، يطاردنا عفريت مخيف، اسمه المسؤولية”، بينما يقول لصاحبه ” إنك أباحي منحل، وإنك بلا عقيدة وربما أنك بلا عقيدة لأنك منحل، أما ليلى فما هي الا رائدة زائفة منحلة مدمنة، لا شهيدة كما تتوهم “.
في ثرثرة فوق النيل ” يحلق الروائي في سماوات لا حصر لها، ويدرج الكثير من المعطيات الفكرية والايديولوجية التي كانت صائرة في مرحلة الستينيات من القرن المنصرم، مما يعطي انبثاقات متعلقة بالجيل الجديد، ” وهذا هو سر نجاح الهزليات التي تصورنا على حقيقتنا ” كما يقول.. وهو لم ينس، أن ينتقد حتى الاعمال الروائية والمسرحيات ايضاً، فيقول ” أما هزلياتنا المحلية فتنتهي عادة بتغير مفاجئ للممثل الهزلي، في شكل موعظة سخيفة، ولذلك فالفصل الثالث، يكون عادة أضعف فصول المسرحية، وهو يكتب في الواقع للرقابة “.
عموماً فقد تركنا الروائي (محفوظ) في آخر الرواية نعبث في ملكوت العمل، الذي لا ينتهي حيث ” قبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم في حذر، وهو يمد بصره الى طريق لا نهاية له “.
تركنا هنا ليقول بأن طريق الحوار والملاقحة، وتطوير الأوطان وتعميرها، طويل طويل، ولا ينتهي خلال أيام، أو سنوات، فمن يحب الوطن، والعمل الوطني، لا بد له من أن يكون من أصحاب النفس الطويل، لان التغير المجتمعي، وكذلك السياسي، لا يأتي خلال أيام، أو سنوات قليلة.. لكن الصحيح أيضًا أنه سيأتي لا محالة، والتغيير سيصل لا ضير ولا مناص من ذلك.