د_حسام السعد
مقدمة
أتت الحرب في سورية على مقدرات الحياة المادية والاجتماعية والثقافية كافة، وتأثرت بالضرورة الأنساق المشكّلة للتنظيم الاجتماعي السوري و”الدولة السورية” التي اُختطفت من جانب سلطة البعث وبنيتها القمعية والطائفية.
وكشفت الثورة/ الحرب مرحلة بعد تالية عمق البنية الطائفية للنظام من جهة، والاصطفاف إلى جانبه، لاسيما من أبناء طائفته. ومنذ تصدير النظام في خطابه الإعلامي رواية مزيفة عن الثورة بأنها ذات بعد إسلامي/سني تستهدف إقصاء المكونات السورية الأخرى، خصوصا المذهبية منها؛ اتخذ خطاب وسلوك ما سنطلق عليه جموع “الموالين” مسارات تحددت بما يأتي:
1- إقصاء كل من ليس “معنا” بوصفنا “نحن” لهم تمثلات رؤية الحدث السوري، ودفعه إلى مرتبة “الآخر”.
2- اتهام كل المعارضين والخارجين عن نسق تمثلاتهم الجمعية بالطائفية.
3- إسباغ النعوت السلبية بداية ثم الاستبعاد المادي والرمزي من سوريا كثقافة ونسق جامع للمكونات كافة.
ما نحاول هنا تتبعه، هو موضعة السوري غير الموالي من قبل خطاب الموالاة وتمثلاته الجمعية، في موقع الغريب والآخر، في معادلة تنتجها فقط حالات استثنائية كالحالة السورية. وهو يعني نزع صفة الانتماء إلى سورية التي يعرّفونها الموالون هم، والتي ترتبط برموز السلطة الأسدية منذ أكثر من خمسة عقود مضت.
1- السوري من حيث هو آخر
منذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، وبموازاة التعاطي الأمني مع المتظاهرين المطالبين بإسقاط نظام الأسد بداية، ثم استخدام العنف المسلح والاعتقال التعسفي وغيره من قبل النظام وأذرعه الأمنية ما يُصنف كجرائم ضد الإنسانية؛ اشتغل النظام السوري عبر قنواته الإعلامية وكل ما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها على ترسيخ “نمط” و”صورة” ناجزة عن المتظاهرين، الذين تم تصنيفهم معارضين للنظام السياسي السوري بشكله الذي استقر عليه لحظة انطلاق الثورة.
لكن يجب التنويه هنا أيضا، أن لفظ “معارضين” لم يكن دارجا على لغة خطاب النظام حتى مراحل متأخرة، تلك المرحلة التي فرضت الحديث عن “معارضة وطنية شريفة!” تحت مظلة النظام، و”معارضة” مرتهنة للخارج ومصالحه.
لكن المتظاهرين الذين خرجوا على نظام الأسد تم إطلاق الكثير من الصفات الاحتقارية عليهم، أكثرها دلالة كان وصف رئيس النظام “بشار الأسد” لهم بأنهم جراثيم، أو مندسين ودخيلين على النسيج السوري كتعبير ورد أكثر من مرة على لسان مستشاري الأسد بداية أحداث درعا.
ومنذ ذلك الوقت درجت تسميتا “موالين” و”معارضين” تظهيراً للانقسام السياسي الحاصل بين الطرفين. وبينما عمل الإعلام الثوري “البديل” على كشف جرائم الجيش والفروع الأمنية وأزلامها بين صفوف الشعب السوري؛ كان الاشتغال من قبل النظام على تكريس صورة نمطية تجاه كل من يعارضون النظام أو يتعاطف مع هؤلاء المعارضين، أو من البعض الذين اتخذوا موقفا حياديا بالصمت في بعض الأحيان.
خلق “الفيس بوك” بوصفه واحدا من أهم وأسهل وسائل التواصل والبث الإعلامي، مساحة كبيرة ونشطة لتكريس عدة أنماط سلبية تجاه معارضي النظام، على اختلاف مشاربهم ومناطقهم ومستواهم التعليمي والثقافي والطبقي، بحيث تم حشرهم جميعا ضمن صفات محددة، ليس أسوأها الخيانة والارتهان لمن يريد تخريب “الوطن” من الخارج.
هكذا ظهر مثلا منذ الأسابيع الأولى للثورة، واتساقا مع جيش يقمع ويقتل مواطنيه، جيش سوري الكتروني يشرف عليه أكاديميون مختصون في العلوم السياسية والإعلام وعلم الاجتماع وعلم النفس، يهتم ببث الشائعات وملاحقة صفحات المعارضين مما يمكن تسميته بحرب إعلامية اتسمت بعدم التكافؤ في ظل سيطرة النظام وملحقاته على وسائل الإعلام ووسائل نشرالمعلومات والأخبار والصور المختلفة.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل بدأت صفحات “الفيس بوك” المؤسسة أمنيا والخاصة بالموالين “وهي كلها مدعومة بأبواق إعلامية وأكاديمية موالية” بالانتشار الكبير، بحيث باتت شبكات الأخبار الفيسبوكية تعمل يوميا لتكذيب أخبار التظاهرات أول الأمر، ثم فبركة الكثير من المواقف والأخبار، وبث تهم الخيانة لجموع المتظاهرين.
ومع تأزم الوضع السوري، وازدياد شدة التخندق بين النظام والثائرين عليه، كان لا بد من “صناعة صورة” ناجزة بسماتها الرئيسية عن السوريين الذين اختاروا الخروج من “نصّ” النظام وروايته الرسمية عن المسلحين والمؤامرة الكونية وغيرها.
تم إنجاز الصورة، في واقع الحال، ووُسمت تلك الفئة العريضة بتهم تراوحت بين التغرير والخيانة وضعف النفس، ناهيك عن الامتثال للخارج وتنفيذ أجندات الدول التي تريد تخريب ازدهار سورية “الأسد” واللغو الكبير عن المقاومة وإسرائيل وقلاع الصمود، تلك الشعارات التي زيفت الوعي السياسي السوري لعقود طويلة منذ عهد الأسد الأب.
والحقيقة، نستطيع الحديث منذ تلك المرحلة، أي منذ انطلاق الثورة حتى منتصف عام 2012، عن صورة ووصف صبغا اللغة الرسمية للنظام وامتدا إلى لسان الموالين، الذين كانوا في غالبيتهم من أصحاب المصالح في بقاء النظام الفاسد، أو ممن ينتمون إلى طائفة النظام بعد خطاب ترهيب لهم من “ثورة ذات بعد إسلامي سنّي”، إضافة إلى بعض الصامتين الذين اختاروا الانحياز إلى لغة رواية النظام والموالين الرسمية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فمع تبدل الحال في مراحل الثورة، وتحويلها إلى ما سُمي بـ (الحالة السورية) أو (الأزمة السورية)، باتت تُضاف إلى تلك الصورة “الناجزة” إضافات جديدة، وتشمل في نطاقها مناطق كاملة ونعوت دينية وإيديولوجية متناقضة.
مضافا إلى ذلك بعض المكونات السورية الدينية(الدروز والاسماعيليين) أو القومية كالكرد والتركمان أو ممن باتوا من النسيج السوري كالفلسطينيين السوريين.
لقد ترافق ذلك مع صعود الحركات الراديكالية على ميدان القتال والسياسة السوريين. فظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام(داعش) وجبهة النصرة وحركة أحرار الشام وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية،
ولأن “صورة” غير الموالين يجب أن تكون قاتمة بالمطلق، عادت في مرحلة ما بعد 2016 المزيد من النعوت والصفات لتظهر من جديد بحق المعارضين، ولتتم مقارنتها بوصوف إيجابية لمكونات غير سورية(روسيا وإيران وتشكيلات من الميليشيات المذهبية التي قاتلت ولا تزال إلى جانب النظام).
2- مكونات سورية .. صفة “الآخر”
يصعب الحديث عن “آخر سوري” بالنسبة للسوريين عامة، فـ “الآخر” يفرض حضور “الأنا” بالضرورة. لكن ما حصل هو أن “الأنا” السورية، بفعل الانقسام حول الموقف من الثورة، أنتجت “آخرا” سوريا من قبل الموالين “هو السوري المعارض” وتطورت “صورته” و”موضعته” بالنسبة لهم “الموالين” مع المراحل المتلاحقة لأحداث الثورة.
في المراحل الأولى من الثورة، كان الحديث عن أبناء “خانوا” أو “انحرفوا” عن نهج الوطن “الأسد طبعا”، وكانت الصفات المسبغة عليهم لا تدخل في تصنيفهم “آخرا” غير سوري، فإمكان إنهاء الثورة بالعنف المفرط كان واردا، وبالتالي فإن العودة إلى حضن الوطن “الأسد” و”التوبة” كانا واردين أيضا، بل هما السيناريو الذي كانت سياسات النظام تعمل على إشاعته وتظهيره، مع تسامح “الدولة” مع مواطنيها وأولادها العاقين.
إلى هنا، لم يكن خطاب الموالاة قد تجاوز حدوده المعروفة سابقا في أزمات ومفاصل مرت بها البلاد. فقد حافظ هذا الخطاب على لغة الخيانة والارتهان للخارج والتخريب و”الأبناء العاقين” كصفات لمن كانوا في الطرف الآخر من المعارضين والمشككين بروايات النظام. حصل هذا في حوداث حماة أوائل الثمانينيات “المجزرة”، وفي قضية توريث “بشار” السلطة السياسية والعسكرية من أبيه كذلك.
مع بداية الثورة عادت تلك الصفات لتجد طريقها إلى خطاب النظام، ووصلت لحدها الأقصى، كما في المراحل السابقة في عهد الأسد الأب وبداية عهد الابن، في إسباغ نعت “الخيانة” و”المغرر بهم” و”فاقدي البوصلة الوطنية”.
تشابه خطاب النظام في المرحلتين بفعل تشابه “الحدث” سابقا أو “الأزمة” كما نُعتت الثورة حديثا، وكان واضحا أن القضاء على الثورة ليس بالأمر الصعب، كما كان يطمح ويخطط نظام ارتكب واحدة من أبشع المجازر في تاريخ المنطقة المعاصر “حماة 1982″.
لكن السيناريو المزمع تنفيذه (القضاء على الثورة) لم يحدث مطلقا. استمرت الثورة وبدأت بعض المناطق تخرج عن سيطرة النظام، وانقسم السوريون أكثر فأكثر مع تمسك كل بروايته عن الحدث. ازدادت كمية العنف والدم، وازدادت وحشية النظام والجيش و”ميليشيات الدفاع الوطني” و”الشبيحة” والميليشيات الطائفية غير السورية، بطريقة تجاوزت حدود المتوقع.
مع ارتفاع منسوب الدم والكراهية لدى النظام ومن يقف معه سوريا وغير سوري، استمر تأييد النظام من مواليه مع كل شكل جديد من أشكال القمع والعنف، فتم تبرير حرق السوريين ونحرهم وإلقاء البراميل عليهم واستخدام السلاح الكيماوي بحقهم، وبدت حرب وجود بالنسبة للكثير من الموالين، من كافة الطوائف وأصحاب المصالح، لاسيما التابعين لطائفة النظام.
ويمكن لنا بالنظر إلى المتغيرات المذكورة أعلاه، الحديث عن انزياح “صورة غير الموالين”، وليس المعارضين فقط، فقد تم حشر كل من لا يقف صراحة مع النظام وخطابه في جهة أخرى، وتأسست بالتالي صورة لـ “آخر” سوري، سواء في الداخل أو الخارج، ممن خرجوا من نسق الموالاة للنظام السياسي والعنف وتبرير القتل، وكذا بالنسبة لمن يتحدث عن جرائم النظام وطائفيته من مكونات سورية مختلفة الأصول أو ممن انسجموا داخل الجسد الاجتماعي السوري خلال عقود طويلة مضت.
3- صفات جديدة .. الآخر سوريًا
يكتسب “الآخر” صفته بالتفارق مع “الأنا”، مستندا إلى الاختلاف بالدرجة الأولى. ويكتسي موقعا فيه من التبخيس أو التعظيم اتساقا مع نمذجته واختلافه في المواقف والسلوك، أي والخطاب كتعبير مكثف.
يصبح الآخر رمزا، وترسم “الأنا” تخوماً حوله وتحدده بوصفه صورة ناجزة أُسبغت عليها كل الصفات التي لا تشبهـ”نا”، بوصفـ”نا” موالين. وإذا كانت العلاقة بين الأنا والآخر متضمنة “إشكالية” ترسيخ الرمز، في الثقافات عموما، فإنها في الحالة السورية قد تجاوزت تلك الإشكالية وتكرست “صورة” غير الموالين بوصفها وظيفة يمكن القول بأنها شيطانية “ببعدها المعرفي الاجتماعي”.
وهكذا، أصبح “الآخر” السوري غير سوريا في ضمير الموالين ولغتهم وخطابهم اليومي. انتقل من مرحلة “الابن العاق” إلى المنبوذ وغير السوري في أصوله ومواقفه.
هذا الموقف انسحب على “لغة” الموالين كافة، ولم يكن الأكاديميون (نخبة الموالين) استثناء من ذلك.[1]
تكرّس الخطاب السابق واستمر حتى الآن. هذا الخطاب، في بعده المعرفي، يعني نزع صفة “المماثل” عن الآخر المعارض، إذ يغدو غير سوري، وتثبيت صفة “المفارق” و”المختلف” للموالي. فقد بات استمرار الاعتراف بالمعارض يشكل تهديدا لوجود الموالي، لذلك يجب أن يُدفع المعارض إلى مساحة هوياتية أخرى مختلفة لا تشبه الهوية المتفق عليها “بين الموالين هنا”.
لم يكن هذا التقسيم القسري والإقصائي، على مستوى الخطاب الداخلي بين الموالين أو في بنية لغتهم وقناعاتهم، مستحدثاً بالكامل بفعل الثورة وفي زمنها فحسب، بل كان موجودا قبل الثورة السورية بصورة أكثر باطنية وأقل شيوعاً وتصريحاً. لكن هذا الخطاب تم إعلانه جهرا دونما أي حرج في فضاء الإعلام المعاصر، الالكتروني وقت الثورة.
وفي العودة إلى أحداث حماة ومجزرتها الشهيرة سلوكيات ذات مؤشرات ودلالة، إذ عاش المواطن السوري يدافع عن كونه لا ينتمي ولا يؤيد بل ويكره جماعة الإخوان المسلمين، خشية اتهامهم من قبل أي مخبر أو عنصر أمن أو تقرير كيدي بأنهم “إخونجية” كما كانت التسمية الدارجة آنذاك. حتى ولو كان السوري مسيحيا “من ديانة أخرى” أو من طائفة من الأقليات أو حتى ذو اتجاه فكري يساري/شيوعي.
لكن هذا الخطاب وجد أخيرا مساحته الواضحة، فتم إعلانه جهرا دونما أي حرج في فضاء الإعلام المعاصر، الإلكتروني خصوصا، وتحوّل إلى ما يشبه “الكود” الدال على خطاب الأنا الموالية ضد الآخر “غير الأنا” المعارضة، والتي يحاول الخطاب الرسمي تغليفها بالكلام المنمّق عن الوطن وحضنه وما إلى ذلك من اللغو الخطابي.
هنا يمكن القول: إن محددات السوري من حيث هو “آخر” أصبحت محل إجماع وبات متفق عليها بين جموع “الأنا” الموالية. فتنمذجت تلك الصورة على مستوى إيديولوجي وثقافي ومناطقي وديني، وحتى على مستوى الشكل والهيئة.
4- التمثلات الجمعية .. ترسيخ الإقصاء
لا يمكن الحديث، في الحالة السورية، والجزم كذا الأمر، عن “الأنا” و”الآخر” كما تعينت في الدراسات السوسيولوجية والثقافية والاستشراقية ببعدها المعرفي والسياسي الخ. لذلك نرى أن الفهم الأدق للحالة السورية في تمفصلها حول الأنا والآخر، يكمن في ما يطلق عليه في السوسيولوجيا بـ “التمثلات الفردية والجمعية”.
تتكون “بنية” التمثلات ذهنيا اتساقا مع المعطى الخارجي بما يشمله من خبرات الفرد والجماعة، مضافا إليها مواقف “شخصية/ شخصنة” مدعمة بإدراك عام لمجمل عناصر “المعطى” بحيث تصبح عملية مركبة تتفاعل لدى الفرد والجماعة، وتتخذ صورة إما نسبية أو ثابتة، يطلق عليها مصطلح (تمثّل/ تمثّلات).
تنطوي “التمثلات” بالضرورة، على سلوك ومواقف واستجابات، تتجلى في “المعنى” ذي الدلالة عند “الاستجابات” تجاه “المثير” وهو الذي هنا هو “الآخر” ودلالاته المتعددة.
ورغم أن العديد من السوسيولوجيين[2] قد أكدوا أن “التمثلات الجمعية” تسبغ النسق المجتمعي العام، اتكاء على انسجام مشترك للإدراك وخطاب “لغة”، بحيث تترسخ سمات اجتماعية مشتركة؛ فإنه في الحالة السورية ومع انقسام النسق المجتمعي في اتجاهين متنافرين، انزاحت “التمثلات الجمعية” من إدراكها للآخر غير السوري، إلى تمثلات جديدة نحو السوري “غير الموالي” المعارض للنظام.
فرض هذا وعيا جمعيا جديدا ذا سمة طائفية، يؤسس لـ “تمثلات” جديدة، سمتها الرئيسة إدارك ناجز لصورة السوري الآخر “غير الموالي” ضمن صفات تتراوح بين السلبية والاحتقار.
5- تمثلات جديدة .. الصورة الناجزة
تتشكل “التمثلات” من بنية من المعارف، وتصبح هي أيضا شكلًا من أشكال المعرفة. والحديث عن “نسق معرفي للتمثلات” يحيلنا بالضرورة إلى نسق التفســـير والتأويل.
تشكلت “التمثلات الجمعية” الجديدة للسوريين الموالين وأضيفت إليها “معارف وتفسيرات” تراكمية مع أطوار الثورة، وتم تصنيفها على الدوام من خلال نظام للتفسير يعتمد على الصور والصفات الناجزة التي جرى تثبيتها في “خطابهم ولغتهم”.
فاشتغل “الخطاب” الموالي على تقديم تفسيرات لأي موضوع قد يحمل طابعا إشكاليا أو “حمالًا للأوجه”، فتم ما يمكن تسميته بـ “صناعة تمثلات” لها خصوصية في المفاهيم والمعتقدات والصور والمواقف بطبيعة الحال، بحيث تم إنتاج قواعد قيمية خاصة بها يُحاكم السوري الآخر بناء على مدى قربه أو بعده منها.
ثمة خصوصية أيضا للحالة السورية لدى الموالين، فما يجري من تكريس للسوري بوصفه “آخرا” وتمثلات وصور له، يغير معادلات التحليل السوسيولوجي المعتاد بامتياز. فإذا كانت التمثلات الجمعية قد تقوم بكشف انحراف لنمط إدراك فردي مغاير عن الجمعي “بعض الاستقلالية في الإدراك والحكم ضمن النسق المجتمعي المتجانس”؛ فإن السلوك الفردي لـ “الموالين” والقادم من الإدراك الجمعي، قد انسجم وتجانس مع المعطى الاجتماعي للأحداث الواقعية “بما هو مثير يستتبع استجابة”، وأصبح محكوما كليا “السلوك الجمعي” بهذه الوضعية دون ظهور انحرافات فردية “على مستوى الإدراك والسلوك والفعل”.
ويمكن هنا ذكر المحددات التي أنتجت التجانس في تمثلات السوري من حيث هو آخر بشكل جمعي في خطاب “الموالين” المعرفي، وهي الآتية:
- البعد الوظيفي للتمثلات:
تتجلى مهمة هذه “التمثلات”، التي جرت صناعتها، بأداء وظيفة محددة ومستمرة “إلى حين تغير تلك التمثلات حسب مصالح النظام”. هذه الوظيفة هي تكريس “سردية” تبخيس “الآخر” في إطار اعتباره أحد مكونات النسق المجتمعي الذي شذّ عن نسق المعارف والوظائف المتفق عليها، فبات “غريبا” يستحق ليس فقط نعته بالصفات السلبية والاحتقار، بل أيضا باستبعاده من مكونات النسق في الوعي الجمعي “للموالين طبعا”.
ولأنه يستحق القتل والتعذيب والحرق وغيرها من وسائل العنف، فتجري عملية شيطنته وتشكيل صورته على أنه إرهابي أو خائن أو غيرها من الصفات؛ كمقدمة لتسويغ شكل ونسبة العنف المُمارس عليه. وهذا تماما ما يماثل فلسفة الاستعمار في الحقبة الاستعمارية الشهيرة، حين كانت تجري عملية تصنيف ونمذجة للشعوب التي تم استهدافها لتُستعمر، وتكوين صورة ثقافية ناجزة عنها تسوغ التدخل لاستعمارها بحيث تتم شرعنة الاستعمار من قبل المجتمع ومكوناته والنسق الجمعي العام.
- البعد الإقصائي للتمثلات:
في الحالة السورية، تُعد “تمثلات” الموالين منتجا ورأس مال أمني، يتيح امتلاكه تسويغ الأشكال الجديدة من العنف، المتدرج من الخطاب اللفظي إلى استخدام أقسى أنواع العنف المادي.
ورأس المال الأمني هذا، المدعوم بنسق معرفي وإدراك تمت صناعته، يفتح نطاق “التفسير” الأحادي ضمن منطوق معرفي يسوّغ الاتجاه العنفي لدى “الموالين” وخطابهم.
يسيطر هذا البعد الإقصائي على بنية النسق، ويدفع بالآخر نحو الصفة الشيطانية، التي تعمل هنا أيضا على تدعيم “التفسير الوظيفي” المُشرعن لدخول جميع الفئات إلى “حقل” العنف المتفق عليه في خطابهم.
استند هذا “البعد الإقصائي” على تصالح “أخلاقيات” النسق الموالي “كتمثلات” مع فكرة العنف. فتمت محاكمة السوريين من حيث هم “آخرين” ضمن قواعدهما “النسق كتفسير من ناحية وقواعده الأخلاقية من ناحية أخرى”، دونما استثناء لـ “هم” أي المعارضين أو الخارجين عن السردية والنص الرسمي.
فمثلا، حوكم جميع الأكاديميين الفارين من الجامعات السورية، سواء من خرج احتجاجا على عنف النظام أو من تم اعتقاله وفصل من عمله ثم هرب خارجا؛ في مستويين: فقد تم نعتهم بالإرهابيين وأحيلوا غيابيا إلى محاكم الإرهاب. وأدينوا أخلاقيا بوصفهم خونة و”ناكري جميل” النظام الذي “رعاهم وأمّن لهم الوظائف الحكومية في الجامعات”، لكنهم اختاروا العيش كلاجئين. وفي الحالتين هم “آخرين” يستحقون اللعنة والإبعاد.
- البعد السوسيو/ سلوكي النفسي للتمثلات:
تحولت “التمثلات الجمعية” الجديدة للموالين، ضمن نسق المعارف والوظائف، بما هي “نوع إنتاج”، إلى شمولية توحّد جميع “الموالين” وخطابهم طبعا.
هنا، يكون هذا “المنتج الجمعي” ذو بعد وظيفي يُعنى بما هو سلوكي ونفسي/شخصي من حيث هو نسق تسويغات. وهو قادم من “تمثلات جماعة” بعينها ضمن النسق الجمعي الكلي.
تعمل القواعد “التفسيرية” بوصفها نسقا معرفيا، على إحالة كل تفاصيل الأحداث الواقعية اليومية إلى التفسير المتفق عليه، من صفات ونعوت شمولية بحق “الآخر” مع كل ما تتضمنه من “مهانة واحتقار وسلبية مطلقة”، وهو ما يبرر التعاطي السلوكي مع أي مجزرة أو ضربة كيماوية أو سلسلة البراميل المتفجرة والصواريخ؛ وإلا فكيف يمكن لمستوى العنف والقتل الممنهج وصور أشلاء الأجساد أن تمرّ كحدث “حيادي” عند جموع الموالين؟.
وهذا يحيلنا إلى مستوى جديد من التحليل، فصور القتل والعنف عموما تستدعي مشاعر الصدمة أو التعاطف أو الشفقة أو الغضب أو غيرها من المشاعر، مما يعطي صفة “الأنسنة” للمشاهد والمتلقي. أما في الحالة السورية، فالمشاعر متشابهة بموجب “نسق التفسير الموالي”، إذ تسود مشاعر الشماتة والسخرية والتشفي.
يعود كل ما سبق، إلى نطاق أو نظام التفسير المتفق عليه، وتتخذ تلك المشاعر صورة خطاب شرعي لدى الموالين من السويات كافة وعلى اختلاف خصائصهم الاجتماعية والتعليمية والثقافية، إذ تشمل العسكري والشبيح والفنان والأكاديمي، في معادلة تبدو جديدة في تاريخ النزاعات، على الأقل في منطقتنا.
- البعد السياسي للتمثلات:
للمنتج الجمعي الآنف ذكره أيضا بُعد سياسي، إذ يصطدم أي سجال سياسي حول الثورة السورية والنظام القمعي برواية مكرسة، عن مؤامرة مستمرة ضد سوريا، قابلة دائما لالحاق أي دولة أو جهة أو شخصية إلى حلقة المؤامرة المزعومة.
ومن ثم يصبح أي نقاش سياسي معارض مع موالي، على أي مستوى، فاقدا لصيغة تواصل وأي أرضية يمكن الاتفاق عليها. بل على العكس تماما، فبعد مرور أكثر من ست سنوات من عمر الثورة/ الحالة السورية، لا يزال خطاب الموالاة يعود “حين يفلس” إلى ما قيل في الأيام الأولى من الثورة، بوصفه خطاب يعاد إنتاجه بصيغ إنشائية متباينة.
- البعد الديني/ الطائفي للتمثلات:
أُضيفت، مع مراحل الثورة المختلفة، كصفات لـ “الآخر” السوري، عدا عن أنه خائن ومرتهن وغير ذلك، صفات جديدة. إذ جرى ربط التنظيمات الراديكالية التي تحارب النظام، “داعش” و”جبهة النصرة” وغيرها، بجميع المعارضين دون استثناء، وجرى تعويم تلك الصورة الراديكالية، مع كل الصفات الدينية السياسية، نعوتا مرافقة لجمهور غير الموالين بوصفهم داعشيين ” كلفظ بات يحمل دلالة عنفية وإقصائية”.
عُمم هذا الخطاب أيضا على الأفراد المنتمين لنسق النظام ذاته، في حال المنافسة على تقلد مناصب إدارية أو سياسية وغيرها، وبدا المتغير الطائفي ورقة رابحة في أي خلاف حاصل بين شخصيتين متنفذتين تتصارعان على منصب معين.
هنا أصبح كل سوري لا ينتمي لطائفة النظام “في الداخل/ مناطق سيطرة النظام” ملاحقا بإشارات الريبة، مما يعني قابلية أن يتحول يكون “آخرا” أيضا في أي وقت وتحت أي ظرف جديد.
بالمقابل، ورغم تغلغل المنطوق الطائفي في سلوكيات النظام سياسيا، وفي سلوك “جنوده” ومرتزقته عسكريا[3]؛ فإن التهم الراديكالية الدينية يوصم بها من هم غير موالين من ناحية، ويصبح كل من يتحدث عن طائفية النظام أو البعد الطائفي، جهة أو “نسق” يرى سورية من خلال النظرة المذهبية والطائفية.
وهذا أمر فيه من الخطورة الكثير، إذ جعل جمهور المعارضين أو “غير الموالين” من المختصين، يعرضون عن تشريح بنية النظام الطائفية واستغلاله لهذا البعد في تجييش أبناء الطائفة العلوية، درءا لتهمة النظرة الطائفية في النسق السياسي. وهو أيضا ما دعا الجموع الكبيرة للحديث عن الوحدة الوطنية وتحاشي تثبيت “المتغير الطائفي” في سلوك الجيش والفروع الأمنية والشبيحة وشعاراتهم ووشومهم[4]، وكذا الأمر في الخطاب الأعلى مستوى لدى الموالين من مثقفين وفنانين وأكاديميين.
يشابه هذا البعد في درجة خطابه الإقصائي والعنفي، البعد الوظيفي للتمثلات الجمعية. بل هو المقدمة الضرورية التي تنتج العنف وتشرعنه وتسوّغ لغة التهكم والسخرية حتى من جثث الأطفال المحترقة والنساء اللواتي قُتلن بعد اغتصابهن.
6- الآخر قريبا .. السوري عدوا
استقرت حالة الانقسام السوري على مستوى “النسق الجمعي” إلى نسقين، وتم “تثبيت” متغيرات النسق الموالي بصورته الناجزة وظيفيا وإيديولوجيا وتفسيريا، مما مهد لشرعنة العنف بأشكاله و”فنونه” المتعددة.
ولأن “النسق” الموالي بات مفتوحا على إدخال عناصر مشابهة له، على مستوى التفسير والوظيفة والسلوك، استتبع ذلك عملية “إدماج وظيفي” لمكونات جديدة لهذا النسق الجديد، الإقصائي لمكونات سورية اتخذت صفة الآخر أو “الغريب” بمفهوم أوسع.
هكذا دخلت تلك العناصر المتشابهة والمتجانسة “طائفيا وبراغماتيا” إلى النسق الجمعي الموالي، ضمن إطار “تمثلات” و”رؤية للعالم” متطابقة، مع كل ما تحمله تلك التمثلات من محددات وأبعاد.
يصبح، والحال هكذا، من ينتمي إلى الميليشيات والمرتزقة المتواجدين في سورية أكثر قربا من السوري “الآخر”، ويتم إسباغ الصفات “الوطنية” عليه، على اعتبار أن الانتماء يكون للسلطة هنا وليس لدولة ومجتمع بمكوناته المتعددة، بل ويتمثل أيضا خطاب النسق الموالي ولغته، ويتبنى “تمثلاته” تجاه السوري “الآخر” الذي لا يتفق معه. فيغدو التهليل لـ “حزب الله” أو لحركة “النجباء” العراقية وغيرها متسقا مع خطاب العنف والتحقير. وتغدو مباركة “سحق الإرهابيين” من قبل “حزب الله” مثلا على الحدود السورية- اللبنانية سلوكا منسجما مع “نسق كلي للتفسير” لدى الموالين.
ويضاف إليه في الحالة السورية معادلة جديدة أيضاً. إذ تنضح لغة هذا النسق بخطاب من الكراهية والاحتقار تجاه اللاجئين السوريين الذين فرّوا من قمع وعنف النظام مرغمين، فيتم تسويغ قتلهم وامتهان كرامتهم من قبل الجيش اللبناني وميليشيات حزب الله على اعتبار أنهم أهالي “الإرهابيين”.
تتمثل صيغة القريب/ البعيد، أو الـ “نحن/ الآخر” بشكل أكثر وضوحا في اختلاط لغة الخطاب لدى أي دارس لما يجري في سوريا. عنف يسترسل على الصفحات الإخبارية الموالية وعلى ألسنة الأفراد، على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم، وتحقير وسخرية و”شماتة” بالسوري الذي أُقصي إلى مرتبة “الغريب/ الآخر”.
حدث هذا في مجازر صغيرة وكبيرة موزعة على مناطق وبلدات مختلفة. نخص بالذكر بشكل خاص ردود الأفعال والخطاب/ اللغة تجاه ضحايا مجزرة خان شيخون الكيماوية حين امتلأت صفحات الموالين وشبكاتهم الإخبارية بالشتائم واللعنات والسخرية من مناظر الأطفال الموتى ومن الآباء والأمهات الثكلى.
ذات الأمر تكرر في (سقوط حلب). فقد قدمت الصور أثناء حصار حلب وفي أيام اجتياحها “السقوط”، وشهادات الناجين بعد ذلك، “بانوراما حرب” متجاوزة لقدرة تصورها ذهنيا، من حرق للجثث وانتشار لها في الشوارع وانتحار البعض من النساء خوفا من الاغتصاب، وقتل الأطفال عمدا وغيرها من أبشع صور الإجرام.
في ظل هذا، كانت الاحتفالات بـ “تحرير حلب” تطغى على تلك الصور البشعة، وسوّغ البعد التفسيري نجاح التدخل الروسي والإيراني والميليشيات الأخرى في سحق جميع “السوريين الآخرين” وخصوصا المدنيين، الذين هم أيضا حاضنة “الإرهاب” ويستحقون الموت!.
استنادا إلى كل ما سبق، هل يمكن أن تتنتج المكونات السورية “تمثلات جمعية” تخص كل واحدة منها دون الأخرى، ويصبح بالتالي كل مكوّن هو “آخر” بالنسبة للمكونات الأخرى؟.
لا تزال الحالة السورية تطرح من الأسئلة الإشكالية الكثير، وهي ربما ستنفتح على تأويلات جديدة طالما يستمر تأثير الحرب على النسق المعرفي للتنظيم الاجتماعي السوري ككل، وعلى الجماعات والمكوّنات المجتمعية كل على حدة.
[1] الأسوأ في مواقف الموالين، في هذه الفكرة التي نناقشها، هو موقف “النخبة” الموالية، التي بدأت تصدّر مقولات إبعاد المعارضين من النسق السوري، لاسيما المثقفين من أولئك المعارضين. مقولات تروّج بأنهم دخيلون على المكون السوري.
[2] بشكل خاص اميل دوركهايم، ومن ثم كل من سار على دربه في التنظير في هذا الإطار.
[3] نذكر هنا، طبعا، جميع الألوية التي تتكنى بأسماء طائفية بداية بحزب الله وليس انتهاء بأبي الفضل العباس وما تضمه من مقاتلين من جنسيات مختلفة تجمعهم روح الطائفة.
[4] يتميز الشبيحة ومرتزقة الميليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانب النظام، بالوشوم المطبوعة على زنودهم وصدورهم وأحيانا رؤسهم، وهي كلها عبارات تخص الطائفة أو رسوم تحيل إلى طائفة، ناهيك طبعا عن رباط الرأس أو الزند وعبارات باتت معروفة ربما أشهرها هو “لبيك يا زينب” على اعتبار أن هذه الميليشيات الطائفية من المرتزقة “تحمي” أبناء تلك الطوائف، بل وتأخذ “ثاراتها” المغرقة في القدم إن لزم الأمر.
المصدر: قلمون