حسام ميرو
منذ منصف عام 2012، وخصوصاً بعد أن أفشل الإخوان المسلمون وحلفاؤهم في “حزب الشعب”، مؤتمر توحيد المعارضة السورية في القاهرة، والذي كان معوّلاً عليه إنتاج قيادة مشتركة للمعارضة السورية بكل أطيافها، بما فيها القوى والأحزاب التي تمثّل الأقليات الإثنية، منذ ذلك التاريخ، بدا واضحاً أن الإسلاميين معتدّون، بل واثقون، من حجمهم السياسي والشعبي، بما يكفي لرفض أي تقاسم لقيادة المعارضة مع القوى الأخرى، وفي الوقت ذاته قادرون على درء تهمة عدم قبولهم بالديمقراطية، انطلاقاً من تحالفهم مع “حزب الشعب”، بقيادة زعيمه التاريخي المناضل رياض الترك.
انبنى موقف الإخوان المسلمين على وصول الفرع المصري للإخوان إلى الحكم في أهم دولة عربية، والدعم التركي-القطري لهم، وهو ما منحهم ثقة زائدة بموقعهم في الصراع السوري، مضافاً إلى ذلك “المظلومية التاريخية” لحوادث الثمانينات في القرن الماضي، معتقدين أنها كافية لمنحهم تفويضاً شعبياً، لتمثيل السنّة السوريين، فوضعوا العقبة تلو الأخرى أمام توحيد المعارضة السورية، فهي في نظرهم مجرد أطر تاريخية لا وزن لها شعبياً، ولا سند إقليمياً لها.
وفي الوقت الذي مارس فيه الإخوان المسلمون السياسة ببراغماتية شديدة، بغض النظر عن مآلاتها اللاحقة، فقد اتّخذت القوى والشخصيات الديمقراطية من الطهرانية خطّاً سياسياً، في لحظة تاريخية غاية في التعقيد، تحتاج إلى تنويع سلّة الخيارات، والاشتباك مع الحدث، بدلاً من تركه لمآلاته العفوية، أو رهينة موازين قوى الآخرين، فقد أكد خطاب القوى الديمقراطية على ما لا تريد الانزلاق إليه، وهو ما تجلى في اللاءات الثلاث ل “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي”، حيث رفضت الهيئة العنف والطائفية والتدخل الخارجي، لكنها لم تقل فعلياً ما هو الحل، وكيف يمكن تغيير موازين القوى، التي تفضي إلى قبول النظام السوري للحل السياسي، كبديل عن الحل الأمني/ العسكري.
ومع اتخاذ العنف والعسكرة منعطفاً لا عودة عنه، ظهرت تباينات عدة بين القوى الديمقراطية، فقد سعت بعضها إلى دخول “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، معلّلة ذلك بأن دخولها سيغيّر من موازين القوى داخل هذا الكيان، وسيجعل من الصوت الديمقراطي وازناً في قراراته، وهو ما ينبغي أن يصب -من وجهة نظر تلك القوى- في مصلحة الثورة السورية، وأبرز تلك القوى “تيار مواطنة”، و”اتحاد الديمقراطيين السوريين”، اللذين، وعلى الرغم من تباين مرجعيتهما السياسية، فقد تبنّيا الخيار نفسه، وهو الالتحاق بركب النادي الرسمي للمعارضة السورية.
في مقابل هذا الخيار، انسحبت شخصيات ديمقراطية لها تاريخها النضالي، من العمل السياسي المباشر، وتبنّت خيار العمل المدني، خصوصاً العمل على القضايا الحقوقية، انطلاقاً من رؤية مفادها أن العمل السياسي أصبح بلا جدوى، وبأنه أصبح رهينة القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي فإنه من الأجدى العمل في الحقل المدني، حيث توجد حاجة كبيرة للعمل على قضايا حقوقية، مثل توثيق الانتهاكات، ودعم وتمكين النساء خلال الحرب، وتأكيد حقوق المواطنة المتساوية، وغيرها من القضايا ذات الصلة بالمجتمع المدني.
في مواقف الديمقراطيين السوريين، ونتحدّث هنا عن خيارات واضحة وعامة، وليس عن الاستثناءات، برز خطّان أساسيان، الأول براغماتي/ انتهازي، والثاني طهراني، لا يقلّ من حيث النتيجة النهائية انتهازية عن الأول، وعلى الرغم من محاولة كلاهما التمايز عن الآخر، لكنهما يشتركان ببعض النقاط الرئيسة، وأولها أن آليات تفكيرهما غير مطابقة للواقع، وهي تنمّ عن تفكير رغبوي/ ذاتي، لا صلة له بالحسابات السياسية، أو بالموقف الجذري من القضيتين الوطنية والديمقراطية.
الصفة الثانية التي تسم الخطيّن كليهما هي اعتمادهما على شخصيات محورية، وليس على بنى أفقية ديمقراطية، وهو ما يتناقض مع ادعائهما الأساس بأنهما يمثلان قوى ديمقراطية، وقد كان واضحاً طغيان النرجسية والفردانية على عمل قيادات القوى الديمقراطية، حيث يمكن اختصار أي تيار منها بقياداته، التي غالباً ما تتمحور حول شخصية مركزية، هي المرجعية في اتخاذ القرارات.
وخلال السنوات السابقة، نشأت العديد من التحالفات بين قوى ترفع شعار الديمقراطية، لكن كل تلك التحالفات بقيت عند بيانها التأسيسي، ولم تتمكّن من التحول إلى لاعب رئيس في المشهد الوطني السوري، فلم نشهد لها خطوات مهمّة، أو حضوراً سياسياً وإعلامياً مهمّاً، عدا بعض البيانات التي يتم تصديرها من وقت إلى آخر، لتأكيد أنها ما زالت موجودة، ليس لأنصارها، فهي لا تمتلك أنصاراً يعتدّ بهم، وإنما لنفسها.
ومنذ عام تقريباً، نشطت بعض القوى الديمقراطية، وهي مجموعات حزبية صغيرة، في التواصل والحوار فيما بينها، من أجل الوصول إلى تحالف عريض، وقد تذهب خلال الفترة المقبلة نحو عقد مؤتمر لها في باريس، لكن آليات العمل التي اتبعتها، والمواقف المتباينة فيما بينها، خصوصاً نحو مسألة تبني العلمانية بشكل صريح (معظم تلك القوى تدّعي بأنها علمانية، لكنها لا تريد رفع هذا الشعار)، أو عدم وضوح الرؤية حول الشكل التنظيمي، وكيفية اتخاذ القرارات، والموقع التي تطمح إليه في المشهد السوري، كل تلك المشكلات تشير إلى صعوبة أن تنجز تلك القوى تحالفاً له مغزى من حيث التأثير في مجريات الحدث السوري.
بالطبع، إن الوطن السوري، وعلى الرغم من كل المآل الكارثي الذي وصل إليه، هو أحوج ما يكون إلى قوى ديمقراطية وازنة، خصوصاً مع تداعي القوى الإسلامية وخطابها، وانكشاف تبعيتها للقوى الخارجية، إلا أن نشوء قوى سياسية ديمقراطية وازنة يحتاج إلى عوامل موضوعية وذاتية، أهمها الابتعاد الكلّي عن البراغماتية في صيغتها الرغبوية والانتهازية، وخلع رداء الطهرانية، والاشتباك مع الواقع السوري، بكل ما يحمله من مشكلات وأزمات.
وأمام هذه الحاجة الملّحة، ثمة سؤال جوهري، تبدو الإجابة عنه مثيرة للتشاؤم، وهو: هل يمكن إعادة بناء القوى الديمقراطية بالأشخاص والقيادات نفسها؟
المصدر: بروكار برس