علي العبد الله
بين قصف مواقع كتائب حزب الله العراقي يوم 29/12/2019 وقتل قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، فجر يوم 4/1/2020، نقلة إستراتيجية في التعاطي الأميركي مع التغوّل الإيراني، غيّرت قواعد الاشتباك، وكثّفت الضغط على القيادة الإيرانية لوضعها أمام أحد خيارين: القبول بشروط الإدارة والتفاوض على ملفات سياسية وعسكرية، من أجل العودة إلى دولة طبيعية تلتزم بقواعد القانون الدولي أو التحول إلى هدف مباشر للآلة العسكرية الأميركية الجبارة.
لم تأت “النقلة” الأميركية للرد على استفزاز مليشيات موالية لإيران. صحيح أنها كانت السبب الظاهر والذريعة المعلنة، لكنها، المليشيات، وفرت الغطاء من دون أن تكون الهدف، فالقرار الأميركي بعكس اتجاه التعاطي السياسي مع النظام الإيراني لوقف تمدّده ولجم التنمّر المتزايد لأذرعه في دول الإقليم استدعته وحتّمته ممارساتٌ إيرانية متراكمة، استهدفت المصالح الأميركية مباشرة، عبر التخطيط، والسعي إلى محاصرة الوجود الأميركي في أكثر من دولة، تمهيدا لإخراجها من الإقليم، وزاد الطين بلة أن هذا يتم بالتنسيق مع قوى دولية عدوة للولايات المتحدة، روسيا والصين، ومنافسة لها على السيطرة والنفوذ العالمي، ما يضعف الموقف الأميركي في ملفّاتٍ أخرى في أقاليم بعيدة.
وقف سليماني خلف قرارات وممارسات ميدانية إيرانية كثيرة: في لبنان، حيث سيطر حزب الله وحليفاه، حركة أمل والتيار الوطني الحر، على القرار اللبناني وتحكم بالمسار السياسي للبلد، تجلى ذلك في أكثر من ملف من تشكيل حكومة سعد الحريري، وضمان الثلث المعطّل فيها، إلى عرقلة الوساطة الأميركية في ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل، وصولا إلى منح شركاتٍ روسيةٍ حق التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية اللبنانية وتأهيل مستودعات النفط في ميناء طرابلس، إلى العراق، حيث فرضت مرشحيها للرئاسات الثلاث: الجمهورية والوزراء والبرلمان، انتشر حينها قول سليماني: ثلاثة صفر، اعتبرها ثلاثة أهداف سجلها في مرمى الولايات المتحدة، وثبتت نظام المحاصصة واستخدمت البلد واجهةً للالتفاف على العقوبات الأميركية، وسوقا تجارية رابحة لشركاتها ومنتجاتها، إلى سورية، حيث لم تكتف ببسط سيطرتها على مناطق واسعة تخضعها لسطوتها العسكرية، وتعيد هندستها سكانيا ومذهبيا، بل راحت تستنفر العشائر العربية شرق الفرات لمواجهة النفوذ الأميركي: تشكيل مليشيات من عشائر عربية بتسليح وتدريب وتمويل إيراني، ودفعها إلى مشاغلته تمهيدا لدفعه خارج المنطقة. كان لاجتماع مستشار المرشد الأعلى للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، مع شيوخ عشائر عربية؛ ونشر صور الاجتماع؛ دلالة واضحة ومباشرة على قرار إيران التصدّي للنفوذ الأميركي شرق الفرات.
انطلقت إيران، في قراراتها وممارساتها المذكورة، من فرضيةٍ مفادها بأن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي حقق فوزا انتخابيا عام 2016 على خلفية رفضه لعب دور شرطي العالم، وإعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن، والذي يستعد لمعركةٍ انتخابيةٍ جديدة لن يخالف فيها توجهه السابق، لأنه يتسق مع توجهات الرأي العام الأميركي الذي يريد التركيز على ملفاتٍ داخليةٍ، وصرف الأموال التي هدرت في حروبٍ خارجية، الحديث عن ترليونات الدولارات، بين 5.5 و 8 ترليونات، في حربي أفغانستان والعراق فقط، على البنية التحية المتآكلة والتعليم والصحة وتوفير فرص عمل للأميركيين، واعتبرت أن عدم ردّه على تفجير ناقلات نفط وإسقاط الطائرة المسيّرة فوق الخليج وقصف منشآت نفطية سعودية خير برهانٍ على ذلك، فاندفعت؛ عبر جنرالها العتيد؛ لاختبار رد فعله على كسر التفاهم السابق على التعايش في العراق عبر بسط السيطرة على مؤسسات الحكم والمسؤوليات الرئيسية، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء، والمركز الحكومي والمنطقة الدبلوماسية ومختلف الطرق السريعة التي تربط إيران بسورية، وإدارة المجال الجوي في البلاد بوضع عناصر من المليشيات الموالية فيها على رأس هذه المؤسّسات، سلّمت الحكومة العراقية المستقيلة مسؤولية أمن المنطقة الخضراء إلى ضابط المليشيات أبو منتظر الحسيني (اسمه الحقيقي تحسين عبد مطر العبودي)، العضو في منظمة بدر الموالية لإيران، والذي يشغل منصب مستشار رئيس الوزراء لشؤون قوات الحشد الشعبي، وإدارة مطار بغداد الدولي لعلي تقي، وهو مسؤول استخباراتي في منظمة بدر، والذي أوكل أخيرا خدمات المعاينة الميدانية للطائرات إلى شركة وهمية تابعة لكتائب حزب الله العراقي، وطرد ضباطا محترفين عديدين من المراكز القيادية في الجيش العراقي، بمن فيهم قائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب، عبد الوهاب الساعدي وقائد عمليات الأنبار محمود الفلاحي والمسؤول في “قيادة عمليات بغداد” جليل الربيعي، على خلفية علاقاتهم بالقيادة العسكرية الأميركية في العراق، وعملت على تثبيت النظام العراقي والإبقاء على رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، في منصبه والبطش بالحراك الشعبي المطالب بالتغيير، والعمل، بعد اضطرار عبد المهدي للاستقالة تحت ضغط الحراك الشعبي، على الاحتفاظ بمنصب رئيس الوزراء بترشيح بدائل من الموالين لها، والرد على النصيحة الأميركية بتلبية مطالب الحراك، بقصف أهداف أميركية وقتل وجرح أميركيين، غلطة الشاطر الذي لم يعط أهميةً لإعلاناتٍ أميركيةٍ سابقة، اعتبرت قتل أميركيين، أو استهداف مصالح أميركية خطا أحمر، فكان الفعل ورد الفعل الذي أودى بحياة الجنرال الهمام.
اعتبرت الإدارة الأميركية قتل أميركيين ضربةً مباشرةً لهيبة الولايات المتحدة، واستخفافا بقدرتها الرادعة، ومؤشّرا على تصعيدٍ آت، فكان الرد الأولي بقصف مواقع لكتائب حزب الله العراقي، ثم قتل الجنرال سليماني ردا على محاصرة السفارة بقيادة رموز التيار الإيراني: فالح الفياض، أبو مهدي المهندس، هادي العامري، قيس الخزعلي، وحامد الجزائري، وإحراق أبوابها الخارجية، بأوامر منه في تحدٍّ صريح ومباشر للولايات المتحدة، والإعلان، في كلا الهجومين، عن قيام القوات الأميركية بهما، وعن مواصلة هذا النهج، وفق المتحدّثة باسم الخارجية الأميركية، مورغان أورتاغوس، ما يعني الانتقال إلى حالة حربٍ مباشرة وإنهاء تفاهم التعايش بينها وبين إيران في العراق.
شعرت الإدارة الأميركية أنها تخسر العراق، وأن الضربة ضد كتائب حزب الله العراقي لن تزيد العلاقات مع النظام العراقي سوءا، لأنها سيئة بالأساس، وأن قتل سليماني ثمنٌ لعمله على إخراج القوات الأميركية من العراق منطقي.
لم تكن عملية قصف مليشيات تابعة لإيران مواقع أميركية، بأوامر من الجنرال سليماني، وقتل وجرح أميركيين غلطته الأولى، فقد انخرط في معارك، ولعب أدوارا أكبر من قدرات بلده ومليشياتها الطائفية، كادت تُهزم في سورية لولا التدخل العسكري الروسي، ناهيك عن فشله في قراءة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية الإيرانية ضد هدر المال العام على مشاريع خارجية، والذي، مع الفقر والبطالة والفساد المستشري، قاد إلى تآكل إيجابيات الثورة الإسلامية وتلاشيها، إلى تجاهله انعكاسات سياسة التمييز والقهر التي مارستها حكومة نوري المالكي على السُنّة، فتسببت بتظاهراتٍ واعتصاماتٍ ضخمة، قاد قمعها الوحشي إلى ولادة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما تبعه من صراع وتدمير المدن والبلدات والقرى العراقية، وتوجيهاته بمواجهة الثورة السورية بالقوة العارية التي قادت إلى انهيار الدولة وتمزّق المجتمع، فالجنرال الذي حوّلته الآلة الدعائية الإيرانية إلى أسطورة، ونصّبته بطلا قوميا على الإيرانيين، ومنحته القيادة الإيرانية، المرشد الأعلى، كرتا على بياض، للتصرّف واتخاذ القرارات الميدانية، حيث بات يُنظر إليه أنه الرجل الثاني في النظام، وقع ضحية نجاحاته بتقمّصه شخصية المعصوم وجالب الانتصارات، قال إنه أوجد عشر إيرانات خارج إيران، ما حوّل قتله إلى مشكلةٍ عويصة للنظام الإيراني؛ فموقعه ودوره الكبير جعل الرد على قتله ضرورة للمحافظة على صدقية النظام، وعلى صورة هذا النظام لدى شعبه وأتباعه، عبّر المرشد الأعلى عن ذلك، بطلبه من المجلس الأعلى للأمن القومي بـ “رد قاس ومؤلم”، مع ما يمكن أن تحمله العملية من تداعيات، فالرد وقتل أميركيين لن يمرّ من دون عقاب، خصوصا أن الرئيس الأميركي على أبواب حملة انتخابية رئاسية، وذكريات عملية “براينغ مانتس” في إبريل/ نيسان 1988؛ حين دمّرت القوات الأميركية نصف الأسطول الإيراني، رداً على لغم أصاب الفرقاطة الأميركية، صمويل روبرتس، في مياه الخليج، ما تزال طازجة، وتحرّكات قطع الأسطول الأميركي التي أخلت مواقع كثيرة في بحر الصين وشرق آسيا، وتوجهت إلى منطقة الخليج، واستنفار القوات الأميركية في قواعدها في العالم، وتعزيزها بمزيد من الجنود والقدرات القتالية، تشي بحجم الرد المنتظر على أي هجوم إيراني، استبق الرئيس الأميركي، ترامب، الرد بإعلانه عن تحديد 52 هدفا سيتم قصفها فور وقوع هجوم إيراني ضد أميركيين أو مصالح أميركية.
هل تتجاهل إيران كل هذه المخاطر، وتنخرط في مواجهةٍ مدمرةٍ مع الولايات المتحدة، أم تبتلع هزيمتها وتتناسى ثأرها، وتترك للزمن مداواة جراحها. ثمّة سابقة في هذا المجال، تناسيها الثأر لعماد مغنية الذي قتل في دمشق عام 2008 بعملية مشتركة أميركية (سي آي أيه) وإسرائيلية (الموساد)، وتبحث عن مدخل للتفاوض مع الإدارة الأميركية بشروط معقولة.
المصدر: العربي الجديد