سمير رمان
تحتاج الفيروسات إلى حوامل كي تنتقل بين الناس. ففي الصين، ونتيجة الكثافة السكانية العالية، كان كافياً أن يصاب شخصٌ واحد ليكمل الفيروس مشواره القاتل.
تقول السلطات الإيرانية إنّ الفيروس وصل مدينة قمّ عن طريق شخصٍ كان في مقاطعة ووهان المنكوبة بالوباء (توفي في ما بعد). ومن المدينة المقدّسة في إيران، قم، تولّى حجيج المدينة مهمّة نقله إلى عشرات المحافظات الإيرانية (وكذلك إلى الدول العربية).
تحتل إيران مركزاً متقدماً عالمياً من حيث عدد الإصابات والوفيات الناجمة عن الفيروس كورونا (كوفيد – 19). ونظراً لخطورة الوضع الناشئ في إيران، أعلنت دول عديدة العالم، ابتداء من دول الجوار البري، منع القادمين من إيران من الدخول إلى أراضيها. كما حددت روسيا التواصل مع إيران، وامتنعت عن إصدار كافة أنواع الفيزا. من جانبها، تزعم إيران أنّها تقوم بكلّ ما في وسعها لمكافحة انتشار الفيروس. ولكنّ الإيرانيين أنفسهم لا يصدقون
حكومتهم. فالفيروس الذي ضرب مدينة قمّ الإيرانية، بادئ الأمر، هزّ أركان القناعات الدينية عند كثير من الإيرانيين. وهذا الأمر يثير قلق السلطات الإيرانية، الرسمية، والدينية، التي تخشى أن تكون آثار الوباء أشدّ خطورةً من الوباء نفسه.
منذ البداية، بدت الإحصائيات الصادرة عن الحكومة بخصوص كورونا غريبة، فقد ظهر أنّ الإصابات الأولى في إيران كانت مميتة بنسبةٍ تفوق عدة مراتٍ تلك التي في بقية الدول المنكوبة. ومع تواضع الأرقام المعلنة في البداية، بدأت الأرقام تتصاعد بشكلٍ لافت، وسط تشكيك من الأطراف الدولية، وعدم تصديق الإيرانيين أنفسهم الأرقام الرسمية في بلادهم، فهم يعدون أنّ السلطات قدّمت صحة المواطنين قرباناً على مذبح السياسة.
في الأشهر الماضية، شهدت الساحة الإيرانية حالةً من التوتر الشديد. وفي 21 من شباط الماضي، أُجريت الانتخابات البرلمانية، وشكّل مرشحو التيار المتشدد المحافظ غالبية المرشحين المقبولين، وكان كثير منهم غير معروفين لدى غالبية الشعب. ربما تكون السلطات توجّست خيفةً من إمكانية اندلاع أعمالٍ احتجاجية، فقامت بإخفاء حقيقة مدى انتشار الفيروس عن المواطنين، كي لا يزداد إحجام المواطنين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
وبحلول التاسع عشر من شباط، أيقنت السلطات في طهران أن الإقبال المطلوب على صناديق الاقتراع لن يكون في الحدّ المقبول في كل الأحوال، لهذا قررت الإعلان عن الوفيات،
واستخدام الفيروس كمبررٍ لتراجع نسبة الاقتراع.
وبالفعل، تبيّن أن نسبة الاقتراع كانت الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية (42%). وإذا حذفنا نسبة الموظفين الحكوميين المقترعين، وبقية المواطنين الذي يجبرهم وضعهم الوظيفي على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فإنّ نسبة التصويت ستكون في حدود 25% فقط.
قبل أسابيع، ظهر إيراج هاريرجي، معاون وزير الصحة الإيرانية، في مؤتمر صحفي متلفز التهدئة من روع المواطنين، قائلاً إنّ الوضع تحت السيطرة. وما كاد هاريرجي ينطق بتلك العبارات حتى بدأ يتعرّق بغزارة، وبدا في حالةٍ سيئة، ليعْلَن لاحقاً أنّ التشخيص أظهر إصابته بالفيروس! مرضت أيضاً نائب الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة، معصومة ابتكار، بالإضافة إلى عدد من أعضاء البرلمان. وخضع أكثر من مئة برلمانيّ لاختبار الفيروس، وكانت نتائج أربعة منهم إيجابية.
كيف أمكن حدوث هذا؟ تبدو السلطات في إيران هادئة في تعاملها مع الوباء. ولكن البعض يتساءل: إذا كانت العدوى وصلت إلى قيادات البلاد العليا، فكيف يمكن استبعاد أسوأ السيناريوهات؟ واليوم، مع اعتراف السلطات في طهران بانتشار الفيروس في غالبية المحافظات، فعلى الأرجح أن تكون مستويات انتشار الفيروس قد بلغت حداً قد يخرج عن السيطرة في أيّ لحظة.
الفيروس والمقدسات
تشكل مدينة قمّ التي ظهر فيها الوباء أولاً دولة ضمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفيها يعيش أكثر رجال الدين احتراماً في البلاد، وتحتوي العديد من المدارس الدينية، وكثير من دور العبادة (المساجد)، والأضرحة التي يحترمها الشيعة.
والقانون لا ينطبق على مدينة قمّ: فعلى الرغم من جميع تعليمات وزارة الصحة لم تغلق المساجد أبوابها، وردّ الملالي على تعليمات وزارة الصحة بأنّ على المؤمنين الحضور إليها، فالمعجزات تحدث في تلك الأماكن وحدها! وهذا ما يصدّقه كثير من المتدينين.
لم تتأخر المعجزات، فالحجاج الذي زاروا مقدسات قمّ نقلوا الفيروس إلى عشرات المحافظات الإيرانية (انتقل بعضها إلى دول عربية مجاورة). فالحجيج اعتادوا التمسح بالمقامات، وتقبيل شبابيك الأضرحة، للتقرب من ساكنيها. ونظراً لضغط الحشود الكبير، فإنّه لا يمكن لأيّ عملية تعقيم أن تتصدى للفيروسات. لم تؤدّ محاولات وضع حواجز شفافة حول الأضرحة سوى إلى انتقال الفيروس إلى أسطحها. كما لم يتم إغلاق المراقد المقدسّة في قمّ، واقتصر الأمر على الإعلان: “نأمل أن يتفهّم الناس أنّ عليهم توخي الحذر”. أُدخل نظام الحجر في قمّ فقط في الأول من آذار. ولو كانت أيّ مدينة أُخرى قد تعرضت لما مرّت به قمّ لكانت أُغلقت تماماً،
ومنع الدخول إليها والخروج منها.
هل يستحق الأمر إلقاء ذنب انتشار الفيروس على تشدّد الإيرانيين الديني وحده؟ صحيح أنّ الإسلام في إيران من أهمّ المعتقدات، وكثير من المواطنين لا يصدقون الحكومة الإسلامية، لكنّهم يصدقون بالكامل ما يقوله الملالي. ومع ذلك، يجبر التعامل مع فيروس كورونا متشددي المؤمنين على النظر بطريقةٍ جديدة إلى أصحاب العباءات والعمائم، الذين كانوا يعدونهم، حتى ما قبل تفشي كورونا، مثالاً وقدوة.
الملالي اقترحوا تلاوة آياتٍ معينة من القرآن ليلاً، أو استخدام بعض الوصفات العشبية للعلاج، فأصبحت قمّ “المقدسة” بؤرة ومركز عدوى بفيروس كورونا!
ويُرجع كثير من رجال الدين أسباب المآسي، أو الكوارث الطبيعية، إلى غضب الله، وكثرة ذنوب البشر. يصعب هنا فهم المقاومة الشرسة التي يبديها رجال الدين في مواجهة المسلمات العلمية، حتى عندما يدور الحديث عن حياة البشر.
هنالك أمرٌ آخر: ينتمي الملالي القاطنون في قمّ إلى تلك الفئة العمرية التي يصبح فيها الفيروس شديد الخطورة. كما أنّ غالبية الذي يقصدون قمّ للحجّ هم من المسنين، وبالتالي كانت أغلب الوفيات لمصابين في عمر يتجاوز 70 عاماً. هذا جعل رفض اتباع الإجراءات الضرورية للوقاية، وعدم الرغبة بإغلاق الأماكن المقدسة، بمثابة انتحارٍ جماعي من قبل الملالي، ورغبة منهم في إلحاق الضرر بغيرهم من الناس بشكلٍ مقصود.
تؤدي الشكوك إلى الانقسام، فالفقهاء المعروفون (مثالٌ يقتدي بهم المريدون) يفقدون بالجملة جمهورهم المخلص. حتى أنّ الشكوك بدأت تراود الإيرانيين المتشددين حول صحة تعاليم رجال الدين النافذين. في 28 شباط، ألغيت صلاة الجمعة التقليدية، وهذا تراجع كبير عن البروتوكول المتبع في البلاد.
كورونا في إيطاليا
يختلف تعامل الساسة الإيطاليين مع فيروس الكورونا عن زملائهم في إيران. ففي طهران، حاول الساسة استخدام الفيروس (إخفاء أعداد المصابين قبيل الاقتراع) لدفع المواطنين إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع في البداية، ولتبرير تراجع نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية (بعد ظهور نسب الاقتراع). أمّا في إيطاليا، فقد استغلّ زعماء المعارضة الإيطالية الوباء لتعزيز فرص وصولهم إلى السلطة. في حين تحاول الحكومة استخدامه لإظهار حرصها الشديد على صحة المواطن، وبالتالي البقاء في سدة الحكم.
ينصّ الدستور الإيطالي على أنّ الدولة واحدة، ولكنّ المناطق تتمتع بسلطاتٍ واسعة، بما في ذلك في قطاع الصحة، بعيداً عن المركز. لذلك، أصبح انفجار فيروس كورونا سبباً إضافياً لتوتير العلاقات المتوترة أصلاً بين المركز والمناطق الإيطالية، ومما يزيد الطين بلّةً أنّ مقاطعتي (لامبارديا)، و(فينيتو)، اللتان ضربهما الفيروس، هما من المناطق التي يتحكم فيها حزب “ليغا” اليميني المتطرف.
انضوى حزب “الليغا” لفترةٍ من الزمن في إطار الائتلاف الحاكم. وبفضل ذلك، أصبح زعيمه “ماتيو سالفيني” أحد أشهر الساسة اليمينيين في أوروبا. ولكن قبل نصف سنةٍ، وبسبب الأزمة
الحكومية، فقد هذا الائتلاف مقاعده الوزارية، ويسعى الآن مستغلاً الوباء للعودة إلى السلطة. يستنكر سالفيني وحلفاؤه إلقاء رئيس الحكومة الإيطالية “كونتيه” اللوم في انتشار الفيروس على قصور الإجراءات التي اتخذها الأطباء في (كوندو)، مطالبين بإلغاء التحقيق الذي بدأ في حقّهم. من جانبه، وصف ريكاردو موليناري، زعيم الليغا البرلماني تصريحات رئيس الوزراء عن ضرورة تعزيز رقابة الحكومة المركزية في المجال الصحيّ بـ”الفاشية”.
وسعياً وراء الحصول على نقاطٍ سياسية، تظهر السلطات المحلية غيرةً غير مسبوقة في سعيها لمواجهة الوباء، الأمر الذي يثير عدم رضا المركز. بالطبع، يمكن فهم الإجراءات المتخذة من قبل السلطات المحلية في المناطق المصابة بالفيروس كـ(لامبارديا)، و(فينيتو)، و(إيميللي – رواني)، غير أنّ بقية المقاطعات التي لم تسجل سوى إصابة، أو اثنتين (وهي موجودة في الحجر) تقوم بالإجراءات نفسها.
يعد حزب “ليغا” انتشار وباء كورونا في المناطق التي تمسك فيها بالسلطة بمثابة فرصةٍ لرفع رصيده الانتخابي الذي تجمدّ عند 32 – 33%، وهي نسبةٌ غير كافية لتشكيل حكومةٍ من لونٍ واحد. طالبت المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الأحزاب كافة، ولكن من دون رئيس الوزراء الحالي “كونتيه”، للتصدي لخطر فيروس كورونا. إلا أنّ الحكومة، ومع تسارع انتشار الفيروس بوتائر عالية، قامت بخطوةٍ غير مسبوقة على مستوى البلاد بكاملها. ففي
محاولةٍ للحدّ من آثار كورونا على الاقتصاد، وعلى فرصها في البقاء في السلطة، أعلنت الحكومة القائمة تجميد المدفوعات الضريبية، وتجميد دفعات الرهن العقاري لسكان المناطق التي ينتشر فيها الفيروس. وفي الوقت نفسه، أعلنت الحكومة المركزية وقف جميع أشكال الأنشطة الجماهيرية، وطالبت المواطنين التزام منازلهم، وعدم مغادرتها إلا في حالات الضرورة القصوى. في ظلّ انهيار السياحة التي ترفد الناتج القومي الإيطالي بنسبة 5%، تبقى هذه كخطوات أولية، وستظهر نتائج وتأثير فيروس كورونا على الاقتصاد والسياسة الإيطالية في الأشهر المقبلة، وسيتطلب مواجهتها مزيداً من الإجراءات.
من وجهة نظرٍ سياسية، يحمل فيروس كورونا إمكانيات ومخاطر كثيرة، فهو يمثٍّل فرصةً رائعة لتعزيز دور المدافعين عن صحة المواطنين، ولكنّه يمكن أن يفسد مكانة السلطات الحكومية إن لم تعالج المسألة بالشكل المطلوب. ومن ناحية الموروث الديني، فإنّه يغيّر وسيغيّر كثيراً من التقاليد والمفاهيم الدينية المستمدة من رموز السلطة الدينية. وعلى التوازي، ستتغيّر النظرة المعتادة من المريدين إلى رموزهم الروحية.
المصدر: الضفة الثالثة