مهند الحاج علي
في الثامن من أيار (مايو) المقبل، تحل الذكرى السنوية الثانية لانسحاب الولايات المتحدة من “خطة العمل الشاملة المشتركة” المعروفة في الأوساط العربية باسم “الاتفاق النووي الإيراني”. حينها، قبل سنتين، بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطابه عن الانسحاب من الاتفاق، بكذبة كبيرة. “سمح الاتفاق لإيران بمواصلة تخصيب اليورانيوم، ومع الوقت، الوصول إلى حافة الاختراق النووي (الحصول على قنبلة)”.
في خطابه، عرج ترامب على التهديد الصاروخي الإيراني، وعلى دعم جماعات تُصنفها واشنطن إرهابية في أنحاء المنطقة. هذا الاتفاق، وفقاً لترامب، ساعد إيران ليس فقط على السعي للحصول على قنبلة نووية، ولكن أيضاً في تعزيز هذا النشاط المخل بالأمن في المنطقة. وفي الخطاب نفسه، وجه تحية للشعب الإيراني، وقال إن الأميركيين يقفون معهم.
سنتان تقريباً مضتا على هذا الإعلان الأميركي الذي بدل وجه المنطقة، ولا بد هنا أن نطرح 3 أسئلة أساسية: هل باتت ايران اليوم أبعد عن السلاح النووي؟ وهل تقهقر وكلاؤها في المنطقة؟ وكيف يُساعد ترامب اليوم الشعب الإيراني؟
في السؤال الأول، من الواضح أن إيران تُعيد في زمن ترامب، بناء ما خسرته من تراجع في البرنامج النووي الإيراني نتيجة الاتفاق. أولاً، ضاعفت ايران مخزونها من اليورانيوم أربع مرات منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق، ووصلت الى 1200 كيلوغرام، من 300. كما تجاوزت نسبة التخصيب تلك الموضوعة في الاتفاق. رغم كل ذلك، ما زالت ايران بعيدة عن امتلاك السلاح النووي. بعدما كانت ملتزمة بسقوف الاتفاق، تقف طهران اليوم على عتبة مخالفة اتفاق حظر السلاح النووي، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ليس الأمر جديداً. كان ترامب يكذب قبل سنتين. حتى في الوضع الاقتصادي، ولولا فيروس الكورونا، كانت ايران، ونتيجة ارتفاع نسبة التصدير من منتجاتها الصناعية، على وشك الخروج من دائرة الانكماش الاقتصادي، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية.
في السؤال الثاني، عن تقهقر وكلاء إيران في المنطقة، لا بد من الإشارة أننا أمام انسحاب محتمل للقوات الأميركية من العراق نتيجة الاعتداءات المتكررة عليها. وهناك معادلة واضحة هنا، كلما ارتفعت وتيرة هذه المناوشات بين الطرفين (القوات الأميركية ووكلاء ايران)، رغم كونها غير متكافئة، ازداد قضم الميليشيات للدولة العراقية. الميليشيات تعتاش على الحرب وعلى المواجهة. سياسة ترامب حيال إيران، وضعت دول الخليج في دائرة الاستهداف المباشر، وزعزعت أمن المنطقة بأسرها دون سياسة واضحة للاحتواء.
والحقيقة أن ترامب قدم لوكلاء إيران هدية أكبر من القتال والحرب والمواجهة. قدم لهم “صفقة القرن”، وهي خطة منمقة لا تصلح لعملية السلام، لكنها ذات أثر نووي في صوغ خطابات المؤامرة لسنوات وربما لعقود مقبلة. فيها كل عناصر التشويق والسخافة لحياكة خطاب المؤامرة. هل تذكرون كتاب “الشرق الأوسط الجديد” لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، ودوره في صنع خطاب الممانعة لسنوات؟ “صفقة القرن” وضعت الكتاب على رف النسيان، وستصنع موجات متعاقبة من خطاب الممانعة ونفاقها السياسي.
ثالثاً، زاد ترامب من إذية المواطنين الإيرانيين، ولم يكن صديقاً لهم. الحقيقة أن الشعب الإيراني، تماماً مثل الفنزويلي والسوري والعراقي والسوداني، يُعاني من تبعات العقوبات الأميركية ليس فقط على الاقتصاد والوضع المالي الإيراني، بل أيضاً على الصحة. ذاك أن البلد يواجه اليوم وباء يطيح بمواطن إيراني كل عشر دقائق، وفقاً للاحصاءات. ألا يستدعي ذلك اعفاءً من بعض العقوبات، من أجل شراء معدات صحية. تقف السياسة الأميركية عند اعلان استعداد للمساعدة المباشرة، وذلك تسييس واضح لوضع انساني.
الأنظمة تنتعش في ظل العقوبات الأميركية، والشعوب تعاني وتئن في ظل تردي الوضع الاقتصادي. هل سقط النظام السوري نتيجة العقوبات، أم ازداد السوريون (وأغلبهم معارضون له) فقراً في مناطق سيطرته؟ هل اختفى “حزب الله” واضمحل نفوذه، أم تسارع السقوط المالي للبنان بأسره؟ أين الرئيس الفنزويلي اليوم؟ أليس في القصر الرئاسي، وشعبه جائع؟
ألا يستدعي هذا الواقع، سياسة أو مقاربة مختلفة؟
الحقيقة أن السياسة الأميركية في هذا المضمار حمالة أوجه. ليس مستبعداً مثلاً أن يُطبّع الرئيس ترامب علاقته بالنظام السوري، على سبيل المثال، بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. والواضح أن مثل هذه الخطوة ليست ببعيدة، في ظل مشاورات أمنية بين الجانبين الأميركي والسوري (الأسدي) في خصوص مسائل عدة بينها الافراج عن المواطن الأميركي أوستن تايس.
ليست الأخلاق أو حقوق الانسان عاملاً على الإطلاق هنا، بل المصالح أساسية. على سبيل المثال أيضاً، ما زال السودان تحت العقوبات الأميركية رغم سقوط نظام عمر البشير قبل سنة. وهذه العقوبات تضر الشعب السوداني وليس النظام الذي تعايش معها واستفاد منها منذ الثمانينات. وكان آخر أضرار هذه العقوبات، أن الخارجية السودانية لم تتمكن من استئجار طائرة مدنية من أجل اجلاء المواطنين السودانيين من الصين بعد تفشي فيروس الكورونا (كوفيد 19). لماذا تواصل واشنطن معاقبة السودانيين بعدما أسقطوا نظام البشير وبذلوا دماءهم في سبيل ذلك؟ الإجابة الأميركية هي أن رفع العقوبات مسألة بيروقراطية معقدة.
لكن هناك من يشير الى أن البشير، لو بقي في الحكم، كان رفع العقوبات في سياق موجة التطبيع مع الولايات المتحدة وأوروبا.
على عتبة سنتين من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، خسرت المنطقة من أمنها، وازدادت آلام شعوبها، والدرس هو واحد: العقوبات الأميركية تطيل عمر الديكتاتوريات في المنطقة، ولا تقصره، والتطبيل لها احتفاء بما سيليها من آلام الشعوب ومعاناتهم.
المصدر: المدن