النحلة أو الذبابة التي تقف على زجاج النافذة في النهار و تحاول جاهدة أن تخرج لم تشفع لها ملايين السنين بأن تطور وعياً ما لاكتشاف أن ليس كل جسم ضوئي هو عبارة عن غلاف جوي يمكن اختراقه. وأحد جوانب تمايز الإنسان عن هذه الحشرة هو تعدد الخيارات التي يمكن أن يقوم بها كي لا يرتطم بهذه الأجسام الصلبة. أسوأ الخيارات التي قد يقوم بها هي الكسر فالكسر هو عملية استسهال. إن جوهر الجريمة هو الاستسهال فالسرقة أسهل من العمل للحصول على الثروة والاغتصاب أسهل من الغواية في الحصول على الجسد.. الخ وهذا الاستسهال هو الذي دفع قابيل – أول مجرم في التاريخ- حسب الرواية الدينية في أن يهشِم رأس أخيه “هابيل” لأنه لم يستطع أن يحقق ذاته ويقدم القرابين الأمثل التي أراد أن يختبر الله بها صبرهما. مع أن الاستثارة التي قدمت ل “هابيل” و “قابيل” كانت واحدة وهي “الشهوة الأمثل” وما بين هابيل الأكثر حكمةً وذكاءً وأرفعُ سيطرة كانت الغلبة ل “قابيل” الذي استخدمَ ذكاءه لتخطيط الجريمة مع سبقِ الإصرار والتصور وانعدام السيطرة الذي أوقعه في ما سأسميه ” السقطة ” الأبدية في الجريمة لتحقيق الغايات دون عناء. و الآية القرآنية * لئن بسطت إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَّ إليكَ لأقتلكَ إني أخاف الله ربُ العالمين* هي أوضح تعبير عن عقلانية هابيل – رأسُ الحكمة مخافة الله – التي تواجَه بحالة من انعدام السيطرة و يكون فيها المجرم في حالة من التنويم المغناطيسي تأخذه لتحقيق الغاية المنشودة و هو يقوم بعملية إغلاق تام للحواس عن أي حوار. كالهرة التي تراقب فريستها و تغلق حواسها غير مكترثة لكل الضجيج الذي حولها. مع الأسف فإن تاريخ البشرية قاطبةً هو الانتصار الدائم لأبناء قابيل، إنه كما يسميه “ألبير كامو” زمن سبق الإصرار والتصور.. زمن الجريمة الكاملة. إن الضحيةَ نسبيةٌ بحسب تعبير محمود درويش” لأن الجريمة نسبيةٌ أيضاً و يمكنها أن تخضع لأدوات القياس المنطقي فمن يُجزُ عنقه ليس كمن يُردى بالرصاص أو يحرق أو يترك وليمة للوحوش الجائعة أو يضيعَ وجهه تحت الأنقاض و الذي يقتل لأجل الحب ليس كمن يقتل لأجل الشرف أو كمن يقتل لأجل الوطن. و إن الجريمة -كما يسميها عالم الإجرام “غارالفو” – طبيعيةٌ عالقةً ما بينَ عدالة ِ السماء و انعدامِ شفقةِ الأرض . إنها التحوير الكامل للشرف و حب الوطن و عشقِ المرأة . إنها ثوب البراءة الذي يدفعنا كالقطعانِ نحو التهلكة. نعم .. إنها الجريمة .. صاحبةُ الأمرِ بالمعروف و النهيِ عن المنكر .
كتبُ التاريخ عندما تتحدث عن انهيار حضارات و قيام حضارات أخرى ثم اضمحلالها و دواليك .. تبدو و كأنها غافلة عن البشر الذين كانوا في داخلها حيث يتجلى الإنسان في الدركِ الأسفل من القيم و لا يبقى منه سوى شواهد مرسومة على الجدران لكي يأتي سائحٌ عابر و يقول هذا هو. إننا ننظر إلى الجانب المشرق من تاريخنا متناسينَ أنهار الدم ، صرخات الأطفال المحروقين ، النساء المغتصبات و الرجال المشنوقين أمام ضحكاتِ فانين آخرين يسكرون بجماجمِ أعدائهم و هذا ما يسميه “فرويد” الإنسان المحكوم بين تجاذبين غريزة الحياة (التقدم و الارتقاء) و غريزة الموت (التدمير الذاتي) و لأن طاقة الحياة هي الأقوى فالإنسان يُنمي نوع أكبر من فقدان الذاكرة مع الموت و لولا ذلك لاضمحلت البشرية تحت ضرباتِ أنانية هذا الكائن المتناقض .باتت الجريمة شاملة كالعلم و تتلقى من التعريفات ما يجعل منها واقع منطقي و هي لا تحتمل فكرة أنها خطأ أو صواب بقدرِ ما تحتوي على سؤال “لماذا” تمت بهذا الشكل و ليس بشكلٍ آخر . و من تناقضات الجريمة أن القانون يتطور بتطورها و في تعريف علم الاجتماع تصبح الجريمة ظاهرة اجتماعية و بالتالي فحكمُ القيمة على أفعالَ المجرمين محكوم بطبيعة المجتمع قبل القوانين و هذا ما يجعل من جريمة الشرف على سبيل المثال حكم مجتمعي أكثر منه حكم وضعي و هو نفسه الذي يدفعنا لارتكاب جرائم الحرب استناداً على أفكار مثالية ينفذها أشخاص منقوصي السيادة يغلقون حواسهم عن وجهة نظر الآخر و نسيان أن هذا الآخر هو كائن له سيرة ذاتية و ذكريات و قدرة على الارتقاء و النمو فيصبح ميراث “الانقضاض” الحيواني في ذواتنا هو المسيطر و تصبح مقولة “دارون” – الفرق بين الإنسان و الحيوان هو فرق في الدرجة و ليس فرقاً في النوع- مثبتة من حيث أن هذه الدرجة هي درجة نمو “الوعي بالقتل” و عن سبق الاصرار الترصد و لا أبالغ إن قلت أننا نصبح بحاجة في مرحلة ما لحيونةِ الإنسان اتجاه موضوع الجريمة و إنقاص هذه الدرجة القاتلة لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسعى لتدمير و تعذيب بني جنسه كما يقول عالم النفس الاجتماعي “إيريك فروم” . من منا سمعَ عن حمارٍ ترصدَ لحمارٍ آخر و أراد أن يقتله .
في أحد مقولات “نيتشه” الذكية يقول ” لولا الغرائز لهلكت البشرية تحت وطأة الوعي بالذات” إذا عدنا هنا إلى قصةِ الحمار سنرى أن الحمار لا يكوِن وعياً بذاته اتجاه الحمير الأخرى لذا هو ليس بحاجة للقتل تحت أي سبب من الأسباب . في أحد أفلام عالم الحيوان تنقض أنثى الفهد على قردة حُبلى و أثناء عملية الافتراس يمتزج مشهد رائع من صيحةِ الموت و الخلق في آنٍ واحد إذ يخرج الجنين من رحمِ أمه فجأةً و لو أن صرة الدمع لدى أنثى الفهد مرتبطة بسيالةِ الإشفاق العصبية لكنا رأينا دموعها إثر هذه الصدمة التي جعلتها تتناسى فريستها المقتولة و تسعى وراء الجنين لكي تحميه من الضباع التي تقتنص الفرص . في مشاهد إنسانية مغايرة رأينا قتلة مزدانون بالأوسمة و يبتهجون بإطالة أمد تحديقِ ضحيتهم في نصل السكين البارد و يتلذذون باستجداءٍ يخرجُ من حناجرَ مخنوقةٍ في الخوف و لم يترددوا في جَرمِ أعناقِ ضحاياهم و بقرِ بطونِ النساء و ذبحِ الأجنة و هم يختالون و يرقصون و يأخذون لأنفسهم صور الانتصارِ على العدالة التي بدت و كأنها متعة كما يقول “رامبو” . (لدينا عودة للتحدث عن الأسباب التي تدفع الإنسان للتلذذ في تعذيبِ بني جنسه) بمقارنة بسيطة بين الحادثتين السابقتين سنجد أن الغريزة التي اكتنفتها لحظة وعي بسيطة و لكنها أغنى لدى الحيوان استطاعت أن تقمع رغبة أنثى الفهد بأكل فريستها علماً أنها قامت بالقتل لأجل الطعام و لحيوانٍ ليس من أبناءِ فصيلتها . بينما الوعي بالذات القاتلة هو الذي دفع هذا العقل الإنساني إلى آخر حدودِ السيطرة و اللامبالاة لتحديد شكل جريمته و الإبداع بأدائها و قمع جانبه الغريزي الذي يجب أن يقول له ” لقد كنت تلاعب أطفالك في هذا الصباح و تعاشرُ زوجتك و تحنو عليها و تحنو عليك و ترجو لأقاربكَ الشفاء بكل صدق فما الذي دفع بك لأن تحركَ وعيَّ السكين على أعناقٍ تعلم أن لديهم ذات صلات القرابة التي تحياها أنتَ بشكلٍ يومي” . من أدهش و أقسى ما توصلت إليه أحد الدراسات الانثروبولوجية التي نشرها “دارت” عن (رجل القرد الجنوبي) هو ما أسماه “التحول الافتراسي من القرد إلى الإنسان” أي إنسان “استرالو بيثيكاس” الذي عاش على الأرض منذ مليوني سنة و هو يرى أن هذا الإنسان حقق تقدماً على باقي القرود من خلال تطويره لأدوات القتل و أن هذا الإنسان استطاع أن ينتصب في قامته لأنه احتاج أن يحمل الهراوات العظيمة و هو يركض وراء فريسته – مراقبة بسيطة لكافة أجهزة القمع حول العالم و هم ممسكين بالهراوات و يلوحون بها بطريقة بدائية ستذكرنا بأجدادنا القرود – و بحسب “دارت” فإن ضرب الحيوان بالهراوة أو الحجارة من خلال مسافة معينة يتطلب نوع من العمل المتسق و المتناسق ما بين العينين و اليدين و كان هذا من أهم عوامل تطور الدماغ البشري .
لقد بدأت دراسة الجريمة بشكل فعلي منذ القرن السادس عشر إلى أن تأسس علم كامل في القرن التاسع عشر يسمى “علم الإجرام” و تم ذلك على أيدي علماء الإحصاء الجنائي و قد سُموا فرسان المدرسة الوضعية و على رأسهم الإيطاليان ” إنريكو فيري” و ” لامبروز” و أصبح تحليل الجريمة يتجه فيما بعد نحو المدرسة التجريبية و التجريدية و السياسية و تفرعت عنهم فيما بعد مدارس تحلل الجريمة على أساس جغرافي و بيولوجي و تقليدي و نفسي .. الخ . قَتل سبعين مليون إنسان مع صعود النازية و معسكرات الاعتقال و من ثم قنبلتي هيروشيما و ناكازاكي كانوا بمثابة الإصبع الذي زحزح الإبرة التي تحمل أهرامات هذه النظريات . هذه الصدمة التي حفرت عميقاً في قلوب أولئك العلماء جعلتهم يعيدون النظر في المبررات التي وضِعت لفهم دوافع البشر اتجاه الجريمة فما قيمة أي فلسفة أو نظرية تُكتَب إن كانت الحضارة التي أتت مع القرن العشرين تستطيع أن تدمر مدينة بكل ما فيها خلال دقيقة واحدة و الأكثر من ذلك أنها تتذرع بأفكار مثالية و منطقية. لقتد تحطمت المرآة كلياً و أصبح المنهج الأنجع الذي يمكن أن يفسِر هذه العدوانية كما يقترح “ألبير كامو” هو التحليل العبثي لأنه و عبر التاريخ البشري كله و بحسب تعبير “محمود درويش” كان علينا دائماً – و سنظل – أن نسقطَ من علوٍ شاهقٍ كي نكتشف أننا لسنا ملائكة. ساعاتٌ طِوال أمضاها قابيل في صمت الطبيعة يراقب جثة أخيه مثلَ مشدوهٍ يتساءل أين ذهبت حركة هذا الجسد. إنها دهشةُ الضحية الأولى دهشةُ الدمِ الأول التي كسرها غرابان أُوحيَ لأحدهما أن يقتلَ الثاني وأن يواريه التراب.. عندما أنهى الطائر مراسمَ الدفن أطلقَ صرخته العاتية واختفى. وكان لقابيلَ أن يفعل ذات الشيء وما أن اختفى جسدُ هابيل تحت التراب حتى أطلق قابيل صرخته التائهة في العراء.. صرخةٌ قيل بأنها ندمٌ على الجريمةِ الأولى استطاع أبناء قابيلَ فيما بعد أن يطورها إلى جريمةٍ كاملة … دون ندم.
طلال المصطفى الملخص يعَدّ هذا التقرير أول استطلاع -على حد معلومات الباحث- لوجهات نظر عيّنةٍ من السوريين، بشأن المصالحة السورية...
Read more