أحمد مظهر سعدو
انطلقنا نجوب الأرض نهباً لطريق طويل، لابد موصلنا إلى حيث نبتغي. يممنا وجوهنا شطر البلدة القديمة الجميلة، مكان سقوط الرأس، وعنفوانه، ومبتغى الطيبة والمودة والأمل.. أقلعت المركبة الحديثة بكوكبة من الطفولة البريئة، التي لا تعرف إلا الفرح والسعادة بلا محسنات بديعية، ودون مجاملات مدينية.. وكوكبة أخرى من الوجوه الطيبة اللطيفة التي تحب من يحبها، وتلتقط إشارات الحب دون عناء، بروح دافقة معطاءة.
أقلعت المركبة متثاقلة، متناغمة مع متاهات الرحلة ومبتغاها. وكل التصور، وكل الأهداف أن نعود منها وقد حمل الجميع آهات جميلة، وذكريات حلوة تحفر في الذاكرة توضعاً لها، لا ينسى على مر الأيام.. فالحياة ذكرى جميلة أو غير جميلة. لكن ما يثبت في الذاكرة، ويحرص الإنسان على بقائه: الجميل والحسن منها.. أما القبيح فلا ضرورة لحفظه، بل النسيان أبقى له وأفضل. لم تكن حياتي في يوم من الأيام بلا هدف أو بلا غاية، ولم تكن مقاصدي غير نبيلة أو سلبية تجاه الناس لا سمح الله. وأنا من يسامح خلق الله أجمعين في كل مساءاتي الحزينة أو السعيدة. فلا أحمل غلاً لأحد ولا أريد أن أحاسب أحداً. وحقي الشخصي وعلى طول المدى مُسقط، ومعفي. ويبقى الحق العام.. حق الله الذي لا قدرة لي على مسه فليس حقي. في هذه الرحلة، والرحلة بعيدة.. وفي هذه المتسعات، والاتساع محارتي، وعبر تلك المسافات الممتدة وكل تلك المسافات لي، بدون أن أمتلكها.. وقفت، بل جلست أجيل الطرف وأحلق للبعيد.. أطير مع النسمات حيناً، وأركب جناحي حيناً آخر، أستنشق الهواء العليل، وأحلم بوطن لا تطاله يد الغدر، ولا يد القمع والإرهاب العولمي المتوحش، أحلق في فضاءات هي فضاءاتي، وأحلام هي أحلامي، وأحلام يقظتي ومنامي.. ليس أولها عاصمة الرشيد حرة طليقة.. وليس آخرها بيت المقدس مطهرة من رجس اليهود الصهاينة.. وليس أقل من أن يكون بين هذا وذاك وطن عربي قريب قريب ينعم بجو من الود والحرية وحق الإنسان في الكلام، والهيام، ليس في المنام.. بل في اليقظة والضوء.
علي سفوحه هناك حيث الكل في الواحد تسامرنا.. ضحكنا.. سعدنا.. فرحنا لفرح بعضنا.. قرأنا ما في دواخلنا من طيبة ومودة وحب وأشحنا النظر عن كل ما يعكر صفونا.. ولكني كنت في بعض الأحايين القليلة أختلي بنفسي وبعيداً عن أنظار المحبين.. ألامس أحزاني البعيدة.. أتذكر ملاعب الصبا.. أتذكر صاحبة المكان ومن كانت تملؤه حيوية وحباً يفيض يفيض حتى لا مكان.. فلا أجد نفسي إلا وقد اغرورقت عيناي بدمع حزين ترافق مع أنين مبلوع في جوانيتي حرصاً على عدم تعكير صفو السعادة في عيون الآخرين.
كم مرة رحت أراقب الأطفال يلعبون ويمرحون.. يمزقون الأوراق، يتراشقون بتراب الأرض الحلال.. أرض الحقيقة والخيال.. يُسرون لملامسة الوحل المنبعثة منه رائحة الطين بلا منكهات، إلا رائحة الخطو الثقيل.. ورائحة العشق للحياة وللوطن.. كنت أنظر لعيون الأطفال وهي تتراقص فرحاً.. وانطلاقة الأرجل في الهواء بلا حسيب أو رقيب، بلا حدود أو جدران.. وهناك تحت شجر الزيتون وفيء الرمان والكرز الحزين.. وعلى أعتاب شموخ الجوز، وتواضع السماق في جبل السماق. شاهدت العيون فرحة متفائلة، شاهدت رفيقة دربي، رفيقة عمري، وقد انبعث منها شهاب ضوء لم أره من قبل. وليس ذلك لاحتضانها قمرين بين جناحيها فقط، بل زاد فرحها نشوة أخرى.. تضاف للأولى، أن الثلاث الغوالي هن بين ظهرانيها.. بين اللين والمنار والمساء القريب.. وما واكب الثلاثي المرح والطيب، من عيون بريئة، وأخرى جريئة. لم تكن الرحلة كأي رحلة.. إنها لقاء الأحبة مع الأحبة، لقاء الأهل مع الأرض، والمسقط، لقاء الشوق في زمان اندحاره وامحائه، وغيابه. أعطيت ما أستطيع.. حنوت كل الحنو.. ابتسمت وحتى عندما كان الألم يعتصرني من الداخل.. ألغيت كل ما يعوق الفرحة على وجوه الطيبين والطيبات.. نهلت من معين الحوار مع من لديه ما يفيد، أو لا يفيد. كان الحوار ودوداً هادئاً، عميقاً دون انفعال، مستغرقاً دون مواربة، يلامس المعطى الانسيابي لدى الآخر، دون جرح أو امتهان. كنت أعتقد وما زلت أن الكل أفضل مني، والجميع يمكن أن أفيد من ثقافته وامتلاكاته الفكرية. لم أستنكر أي رأي يخالف رأيي، فكل رأي يحتمل الوجهين. إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. في طريق العودة والعودة أكيدة، وفي درب العائد والعائد حريص، كانت الذكرى قد تركت الأثر والآثار، وطبعت الزيارة والزائرين، وبقيت نُتف من مساءات، وصباحات جميلة، لابد ستعود يوماً مهما تناطحت الأيام وعلا غبار الزمن الرؤوس، وطاف في أحداق الجمال أمل لابد آت.. وليس ببعيد.
المصدر: الراية القطرية
تاريخ النشر4/9/2004