بسام شلبي
مازالت محاكمة ضابطي المخابرات أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب ومرؤوسه إياد الغريب في ألمانيا تثير الكثير من الأسئلة المستعصية لدى الشعب السوري الذي يبدو منقسما حيالها أفقيا وعاموديا وفي كل الاتجاهات.. فليس الانقسام هذه المرة بين معاداة وموالاة.. بين سلطة ومعارضة.. بين معارضة خارجية وداخلية.. حتى أنا نفسي أشعر بانقسام داخلي ما بين فرح يطل برأسه لحظات لرؤية مجرمين في قفص الاتهام اخيرا. ولكن سرعان ما يهزمه حزن بأن هذه المحاكمة لا تتم في سورية.. وأنها أمسكت طرف ذيل الأفعى بينما جسدها ورأسها مازالوا يتحركون بحرية وأمان. لذلك لابد لنا أن نحدد بعض المعطيات وإعادة صياغة الاسئلة والإجابات كي نستطيع لملمة هذا الشتات.
أولًا: هل الانشقاق عن هذا النظام يعتبر في حد ذاته بمثابة صك غفران للمنشق عن الجرائم التي ارتكبها عندما كان جزأ منه؟ وهل نحن مقتنعون بما ينص عليه القانون الدولي؟ بأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.. وأن الجرائم ضد الإنسانية لا يبررها أو يعتبر سببا مخففا لها أن يكون مرتكبها مرؤوسًا يتلقى الأوامر من رئيسه.. ولا يبررها أو يعتبر سببا مخففا لها أية ضغوط سياسية او اجتماعية او اقتصادية يتعرض لها مرتكبها.. فالمسؤولية الفردية فيها واقعة بكل الأحوال.. ولا تسقط بالتقادم مثل الجرائم العادية. لكن علينا التذكير أيضًا. أنه في كثير من الحالات التي تم فيها كم كبير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خلال الصراعات السياسية أو الحروب الأهلية.. فقد تم تجاوز القانون الدولي بمفهوم العدالة الانتقالية التي بموجبها يتم العفو والغفران إذا قام الجاني بالاعتراف وإبداء الندم وطلب الصفح العلني من الضحايا.. في إطار حل سياسي أو وطني. ولكن في الحالة السورية الفريدة في التاريخ الحديث ألا يعتبر قرار الانشقاق عن النظام يحتوي ضمنا على كل عناصر العفو السابقة؟
بالأخص بالنسبة لضباط المخابرات او كبار المسؤولين. بما لهذا القرار من خطر مؤكد على حياة المنشق ورزقه وعائلته القريبة او الممتدة.. وكل السوريون يعلمون ذلك يقينًا..
فلا يمكن لأحد ان يتخذ هذا القرار دون ان يكون قد أجرى مراجعة او مراجعات. توصل بموجبها للاعتراف الذاتي بالمسؤولية والندم الذي يؤهله لاتخاذ قرار قد يدفع ثمنه غاليا
وإذا كان إطار الحل السياسي مازال لم يتشكل وليس ممكنا أن يتشكل قريبا. أفلا تعتبر أي حالة انشقاق جزءا من مراحل تشكيل هذا الإطار؟
ثانيا: إذا كانت هذه المحاكمة هي رسالة إلى كافة الضباط والعناصر والجنود اللذين يقومون بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. بأن زمن الإفلات من العقاب قد ولى وأن مصيرهم الجر إلى قفص الاتهام مهما طال الزمن. فإنها سوف تكون رسالة إيجابية وعامل ردع للجموح الإجرامي على الأقل.
ولكن للأسف. فإن عدم وجود سلطات تنفيذية أو دعم سياسي وحقوقي عالمي قوي لمثل هذه المحاكمات يجعلها كسيحة عمياء.. تضرب خبط عشواء. فالنتيجة أنها توصل الرسالة المعاكسة تمامًا إلى ضباط وجلادي وسجاني النظام بأنه لا حماية لهم سوى النظام نفسه مما يزيدهم التصاقا والتحامًا به نظرًا لخطورة الانشقاق أو حتى الاعتزال والخروج خارج سورية حيث قد تطالهم لو بالخطأ يد العدالة العمياء الكسيحة التي لا تطال إلا من يأتي إليها بينما هي لا تستطيع الذهاب إليهم.
ثالثًا: إذا كانت هذه المحاكمة محاكمة للنظام المولد والمخطط والحامي السياسي والقانوني لهذه الجرائم.. ووضعها في إطارها العام كونها جزءا من منظومة متكاملة للجرائم الممنهجة ضد الشعب السوري بشكل عام بهدف إخضاعه لسلطة قهرية غاشمة غير مختارة بإرادته.. فإنها سوف تكون رسالة إيجابية وعاملاً مساعدًا في تكوين الإطار السياسي للحل المستعصي.
أما إذا انحصرت في إطار الجرائم التي ارتكبها المجرمون الماثلون -والتي أكدنا سابقًا على مسؤوليتهم الشخصية- رغم كونهم جزءًا بسيطًا أو ترسًا صغيرًا من آلة جهنمية مازالت تدور بكل قوتها وجبروتها. فسوف تكون مسخًا هزليًا، يحاكم فيه الضحايا المجرمون الضحايا على أرض ليست أرضنا وجمهور ليس جمهورنا، بينما جروحنا مازالت عميقة تنزف فوق أرضنا ومن أجساد جمهورنا وجمهوريتنا المحكومة للأبد. بالأمل وليس غيره أحد.