مُناف الفتيّح
الوطن في أصله وقبل أن تتبلور هويته ويصطبغ بلونٍ سياسيّ ما هو مفهومٌ مجردٌ قد تترجمه العلاقات الإنسانية بتراضي الذوات الجمعية ضمن فضاءٍ مشتركٍ في دائرة الاجتماع السياسي. نحن جيلٌ يسمع بأسطورة الوطن وربما يعيشها كيوتوبيا في حلم يقظةٍ غير أنها لم تتجسد بعد، بل هي كائنٌ سياسيّ افتراضيّ لا ينفي تمسكنا به أنه غير ناجزٍ وأنه قيد الإنشاء. ذلك أننا في موقعٍ مُخاتلٍ بين الوطن / المثال، والوطن / الكيان التعاقدي ; فالأرض كحَيِّزٍ جغرافيّ مهما نضحت بالمشتركات الحضارية والثراء البشري ونهلت من خزان التاريخ وموروثه الثقافي لم ولن تكون وطناً إلا بصياغةٍ معقدة ٍتمؤسس المفاهيم النظرية وحينها فقط يتحصن الانتماء الشعوري بمناعة ضد الشروخ والهويات الانشطارية وتتبلور ذاتٌ وطنيةٌ تستعصي على كل أشكال الانفصاميات والخيانات الواعية واللاواعية التي يطفح بها المشهد السوري الراهن.
و إذ نبدأ بالنواة الأولى الخالصة من مُسبقات القوالب الفكرية الجاهزة فإنما نفعل ذلك سعياً لتشييد بناءٍ عقلي يمتثل لشبكة العلائق والبنى القابضة على مستجدات الواقع في الوقت الذي تمدّ –تلك العلائق- جذورها فيه بأصالةٍ طاردةٍ للأصوليات و ما نضحته من تحجّرٍ أفضى إلى انسدادٍ مزمنٍ في وجه تلاقي الإرادات و الرؤى على مشتركٍ جامعٍ يجلو وجه هذا اللغز، لغز الهوية .
سؤال الهوية إلى السطح
يمتلك سؤال الهوية اليوم مُبرّره التاريخي ليحظى باستشرافٍ جديد مشروطٍ بفكرٍ مُتجدد لا ينفصمُ عن مبررات ظهوره الأول ولا يستنكف عن الالتحام بشرطه التاريخي الراهن والاعتراف الصارم بكل المتحولات الجارية بتسارعٍ وجذريّةٍ ذاتا ملامح تسونامية كاسحة.
ما يشهده الواقع العربي – و بؤرته السورية بخاصة – من تهافتٍ مذهل ليس البعد السياسي فيه سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد الغارق في مستنقعات الاجتماع و الثقافة و الاقتصاد حيث الأبعاد العميقة للأزمة المُركّبة التي طمست وعي الذات العربية – والسورية بالتبعية – بغلالاتٍ كثيفة يصعب أن يخرج منها دخانٌ أبيضٌ يبشر بانفراجٍ وشيك، لذا داهمنا دخان الثورات بغتةً دونما حاملٍ فكريٍّ و اجتماعي متماسك ، و لا حصانةٍ تقينا عبث الأقوياء و استلحاقنا بأجنداتهم ، فتبدّد الكثير من الدخان عبثاً بدل أن يتبلور في مشروع يخيط جراح الجسد السوري المثخن بطبقات من الصدأ من السذاجة ردُّها إلى بضعة انقلاباتٍ عسكريةٍ و التغاضي عن جذور اختلالها العميقة .
لعل أكثر تجليات هذه النكبة طفواً على السطح هو سؤال الهوية الذي غالباً ما تفرزه مسامات وعينا المأزوم بتطرفٍ و سطحيةٍ و نزقٍ لا يزيد العِلّة إلا تفشياً فينا ، و لا أظن لنا كأمةٍ و شعوبٍ مثيلاً في مدى ارتداد شريحةٍ واسعة من أبنائها على انتمائهم و شططاً في إدانته و تحقيره بنزعةٍ انتحاريةٍ لا أشك أن جهاتٍ كثيرةً تعمل على تعميمها و إدامتها و ليس هذا بغريبٍ قدر غرابة ارتضاء الذات العربية لطقوس اللطم و جلد الذات دون أي مبادرةٍ جادّةٍ لوقف هذا الانهيار؛ و إذ تتكرر الإشارة هنا إلى البعد العربي كأحد حوامل الهوية السورية فليس هذا تلوّناً بأدلجةٍ مهيمنة بل اعترافاً بأرومةٍ راسخةٍ من العبث استبعادها بدافع انتقامٍ سياسي كونها اتّخذت ستاراً شعاراتياً للسلطة الحاكمة.
إن الاختلاف مع الأيديولوجيا القومية والتعاطي معها بمنطق النقد أمرٌ مشروعٌ، أما اتخاذها ذريعةً لهذا النكوص بقصد اغتيال بعدٍ أساسي للانتماء الحضاري والثقافي لا يمكن أن تنفك عنه الهوية السياسية فهذا عمل تخريبي سواءً حصل بوعيٍ أو بدونه فالعروبة جذرٌ أساسي لا صلة له بارتكابات تجار الشعارات ومن الحماقة التعاطي مع هكذا إشكاليةٍ بمنطقٍ صبياني وردة فعلٍ رعناء تجاه فردٍ مستبد أو حزبٍ انحرفت بوصلته. كذلك فإن نقل هذه الهوية من براثن أحاديةٍ قوميةٍ إلى أحاديةٍ دينيةٍ أصولية أو قوميةٍ سورية أو أمميةٍ شيوعية، تلك كلها أحاديّاتٌ بات على منظريها أن يعاينوا سردياتها الطوباوية بيقظة وعي متحررة من أسر القداسة.
لعل رائز التفكير السديد في اتجاه تحديد ملامح الهوية السورية اليوم بِراهِنِيّتِها كنقطةِ انطلاقٍ صالحةٍ لتعبيد الطريق إلى عقدٍ اجتماعيٍّ واسع القبول يتمثل في رفع الوصاية عن كاهلها، والبداية المحتومة لذلك هي التوقف عن مصادرة الانتماء الوطني لصالح انتماءاتٍ حزبية تضع الهوية في أسر رؤاها المستوحاة من أحادية مِخيالها الأيديولوجي ومحدودية مِكيالها السياسي. من هنا لا بد من حجر أساسٍ متين يصلح ركيزة هذا المعمار الجديد وأنا أجده في الاعتراف بتعدد أبعاد الهوية السورية كبدهيةٍ لا مناص منها لاستعادتها من خلف تلك القضبان إلى فضاء العقل المفتوح لكل سحابة فكرٍ ماطرة.
في هذا السياق و في حمأة انكشاف ظهرنا و الاختراقات الخطيرة المتوالية للمشرق العربي المُستباح و أخطرها المدّ الإيراني الطائفي ظهرت إرهاصات وعيٍ جديد بضرورة وقف موجة الرٍدّة و إعادة طرح سؤال الهوية المُلٍحّ بعيداً عن هذيان ممجوج يخلط بين الأيديولوجيا و الانتماء أو يضع العروبة في خصام مُلفّق مع الهوية الوطنية أو الدين ، غير أن تلك الإرهاصات تبقى بلا رهانٍ وثيق الصلة برجل الشارع المنقطع عن رهانات النخب و رؤاها و لا بد من انخراط النخب هذه المرة في عملٍ يلتحم بالجمهور و يلامس رغباته و مصالحه بشكلٍ جادّ و مسؤولٍ يلتصق بالقاع و يرمم ما تراكم فيه من مراكب أحلامنا الغارقة . لا مناص من إعادة طرح هذه الإشكالية وحسمها ضمن سيرورة الحدث ومتغيرات الواقع بمقاربةٍ تنتشل السؤال من القاع إلى السطح بعيداً عن الضحالة السائدة بين سطور الخطاب الديماغوجي الشعبوي المُتفَلّتة من أي ضابطٍ منهجي أو وعي بشرطٍ تاريخي.