د- زكريا ملاحفجي
انقضى أكثر من نصف قرن على هزيمة حزيران، وما زلنا نعيش النكسات والنكبات التي سببها وزير الدفاع السوري آنذاك حافظ أسد، الذي كان سبب هزيمة حزيران وخيبتها وضياع البلد والهزائم، حيث تعزّزَ موقعه في الحكم بعد واقعة حزيران/يونيو التي كانت حربًا صغيرة لكن الهزيمة كبيرة.! وبدل معاقبة وزير الدفاع الفاشل أو المتآمر، تقدم أو قُدّم ليستلم سورية وينهبها هو وأسرته لغاية اليوم حزيران 2020م.
وقد خُطفت فيها مؤسسات الدولة، التي من المفروض أن تكون مؤسسات للشعب، ابتداءً من المؤسسات العسكرية والأمنية إلى باقي المؤسسات، وهذه المؤسسات كانت ممهدة للأوضاع السياسية البائسة التي نعيشها منذ أكثر من نصف قرن، في سلسلة من الوقائع التي أفضت إلى احتلال سورية ثم احتلالات وما تزال محتلة، وإلى تشرد معظم سكانها، وتتلخص هذه الأحداث في جملة واحدة: وزير دفاع الهزيمة صار الحاكم المرهوب والمالك للبلد له ولذريته من بعده وأصبحت الجمهورية الملكية السورية.
الحال في مصر، شريكتنا الكبرى في الهزيمة، فوزير دفاع مصر يومها في نكسة حزيران المشير عبد الحكيم عامر، الذي انتحَر، ولم يستولِ على السلطة في انقلاب أو يستلمها بوفاة رفيق دربه جمال عبد الناصر الذي توفي قبل شهرين من انقلاب وزير دفاع حزيران السوري حافظ أسد الذي أخذ سورية كلها غنيمة، وأصبحت سورية البلد الحضاري من اقطاعيات الأسرة الملكية الأسدية التي تملك البلد ومن فيها وما فيها، كحال إقطاعي العصور الوسطى.
لا يبدو أن وزير الدفاع (مهندس الهزيمة) قد شرح حتى لأقرانه في الحكم في حينه ماذا جرى وكيف جرى ما جرى، سوى وزير الصحة وقتها، عبد الرحمن الأكتع، الذي تساءل عن سبب إعلان سقوط القنيطرة قبل احتلال الإسرائيليين لها، فرد عليه وزير الدفاع بغضب أن هذه أسرارٌ عسكرية!!
(ابراهيم ماخوس) وزير الخارجية السوري الذي قال وقتها، إنه «لا يهم لو سقطت دمشق أو حتى حلب، فهذه ليست سوى أراض يمكن استرجاعها وأبنية يمكن بناؤها، لكن حزب البعث، أمل الأمة العربية، إذا سقط، فلا يمكن استرجاعه».!!
لكن كان التوضيح بشكل غير رسمي وممنوع ومضطهد، فقد قدم ضابط المخابرات السوري خليل مصطفى فكرة أوضح عن الحقيقة فمصطفى ألّفَ كتاباً بعنوان سقوط الجولان، يتهم فيه وزير الدفاع بالمسؤولية عن الهزيمة، والتعجل في إقرار الهزيمة عبر إعلان مبكر عن سقوط القنيطرة (ويحتمل أن الإعلان شجّعَ الإسرائيليين على الاحتلال). ويبدو أن الضابط قد اعتُقِل بسبب كتابه، وليس معلوماً أنه أُفرِجَ عنه في أي وقت.
بعد الهزيمة شدّد حافظ قبضته على الجيش، وأخذ يعزله عن تأثير رفاقه البعثيين الذين كانوا أقوى منه في الحزب، وبعد فترة وثب إلى السلطة في انقلاب أبيض، وتخلص من رفاقه.
وأصبحت الهزيمة والنكسات والاحتلالات مستمرة، الاستمرارية بين عهد حافظ الأسد وسلالته إلى اليوم وبين حرب حزيران التي لم تقع، وهزيمة حزيران التي وقعت كثيراً حتى حزيران .2020
الجيش المهزوم لم يُعَاد تشكيله لأنه تحول إلى سند للسلطة، والانتصار على الشعب الأعزل، وأي حركة تمرد تتمرد على هذا الاختطاف للدولة ومؤسساتها، هكذا أصبحت المعارك باستخدام الجيش المهزوم في حرب وطنية عامة من أجل خوض حرب أسرية فئوية خاصة والانتصار فيها: الحرب من أجل السلطة.
وتحول الجيش إلى إقطاع لوزير الدفاع بين حزيران 1967 وتشرين الثاني 1970، اقتضت هي نفسها خفض مرتبة الجيش والتوظيف في أجهزة أفضل تأهيلاً لمهمة كسب الحرب الخاصة، وهي الأجهزة الأمنية التي تراقب السكان وتُطوِّعهم، وتحولت الأجهزة الأمنية منذ وقت مبكر لتكون الركيزة السياسية للنظام الجديد، ومعها التشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية التي تشكلت في عهد حافظ وتم تضخمها كثيراً لتصبح سورية دولية أمنية قمعية، فمن شُعَب المخابرات إلى سرايا الدفاع والوحدات الخاصة والحرس الجمهوري، فالجيش العام تردى إلى مؤسسة مُترهِّلة قائمة على الإذلال وعلى الرشوة والفساد والتمييز الطائفي، وطبعاً على عبادة الفرد الذي أُعطي صفة الخلود والأبدية.
أكثر ما يعطي فكرة عن موقع الجيش العام في سنوات حكم الأب وبعض سنوات الابن هو شخص وزير الدفاع مصطفى طلاس. خلال أكثر من ثلاثين عاماً، ليس لأنه لا يُستغنى عنه، بل بالضبط لأنه يمكن الاستغناء عنه في أي وقت، وبقي الجيش يخوض حروبًا داخلية في سورية ولبنان لقمع أي تمرد أو احتجاج على القائد الخالد، وهو نفسه وزير الدفاع الذي يؤلف كتباً عن الزهور و«الثوم والعمر المديد» وعن فن الطبخ، وعن «فطير صهيون»، وقصائد غزل في (جينا لولو بريجيدا) الإيطالية التي كان يلاحقها، إلى مختارات من أقوال حافظ الأسد، والكثير غيرها من الصنف نفسه.!
أُبقِيَ مصطفى طلاس وزير الدفاع في سورية وهو صديق وزير الدفاع القديم الأسد وأحد رجالاته المخلصين وبقي الحال في الدولة التي تعيش شعور يتم تصويره للناس بالاستعداد لحرب دائمة متوهمة.
لكن هل يبدو أننا نسينا حرب 1973؟ كانت هناك تلك الحرب هذه المرة، لكن هزمنا عسكرياً، كان هروباً مستمراً من السياسة ومن المساءلة السياسية، وجرى تصوير حرب 1973 كنصر يمحو الهزيمة ويبرئ المهزومين، بل يجعل من حافظ الأسد تحديداً بطلاً منتصراً.
وهكذا يتهربون دائماً من الاستحقاقات السياسية والتنموية الداخلية لتُصب أعظم كتلة مالية من خزينة الدولة إلى المؤسسة العسكرية والأمنية التي ترابط منذ نصف قرن في استعداد حرب مزعومة وهمية، لكنها حقيقة على الشعب الأعزل المسكين الذي مُنع من الدخول أو حتى الحديث في السياسة.
فوزير دفاع الهزيمة الذي لم يُحاسَب عام 1967 صار فوق الحساب بعد 1973، ومالكَ الدولة بعد 1982 وهو الذي قتل عشرات الألوف، وبعده السلالة تحمل الأمانة وتقتل مئات الألوف إلى حزيران اليوم.!!
في ظل هذا العالم المتحضر الذي لم ينقذ السوريين من إجرام هذه المؤسسة، رغم أن الشعب تمرد بأغلبيته، بل وحتى بعض الدول تراوح بين التنديد وبين فتح العلاقة، طبعاً ولن نذكر الدول المحتلة التي سلّمها الأسد الابن البلد، وهو سر أبيه الذي سلّم الجولان يوماً. ولعل استرجاع السوريين لبلدهم وأرضهم ومؤسساتهم هو العمل الشرعي العظيم والكبير لتعود سورية من هذا الاختطاف.
المصدر: اشراق