سمير رمان
في الحادي عشر من أيار/ مايو عام 1945، اقترح رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، عقد لقاء على أراضي ألمانيا المهزومة بين “الثلاثة الكبار”، تم خلاله تشكيل مجلس من وزراء الخارجية، أنيطت به مهمة التوصل إلى اتفاقٍ بشأن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنّ الاتحاد السوفييتي، ومنذ عام 1941، عندما انتقلت القوات السوفييتية من الدفاع إلى الهجوم على جبهة موسكو، كان قد بدأ عملية الاستعداد لرسم حدودٍ جديدة، وتحديد مجالات نفوذ الدول المنتصرة.
في أوج الحرب، كتب نائب وزير الخارجية، والبلشفي المخضرم، سيرغي لوزوفسكي، إلى ستالين: “رغم أنّ الحرب ما زالت مستعرةً، وليس من المعلوم متى تنتهي، فإنّ مسارها قد أصبح واضحًا، إذ سيتم سحق ألمانيا النازية وحليفتيها إيطاليا واليابان. ولهذا، يجب التحضير منذ الآن لعقد مؤتمر للسلام، ستكون مهمته أكثر تعقيدًا من مهمات مؤتمر باريس للسلام الذي انعقد بعد الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918”.
تابع لوزوفسكي: “سيكون الموقف معقّدًا للغاية، إذ ستخرج أربع دولٍ كبيرة (ألمانيا، وفرنسا، واليابان، وإيطاليا) من المعادلة، وسيكون على الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، تقرير ما يلزم في هذا الشأن. بالطبع، ستكون الكلمة الحاسمة للطرف الذي سيخرج من الحرب أقوى اقتصاديًا وعسكريًا. وسيتشكّل حلف عريض من الدول التي ستسعى للمحافظة على النظام الرأسمالي، والتي ستحاول، بأيّ ثمن، لجم الاتحاد السوفييتي ضمن حدوده القديمة ما قبل عام 1939. ستنشب خلافات كبيرة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك علينا أن نتوقع عند بحث المسائل الجوهرية جبهةً رأسماليةً موحدة في مواجهتنا”.
وحضّ نائب وزير الخارجية على الاستعداد المبكّر لوضع ملامح الموقف السوفييتي في هذا المؤتمر: “يجب الآن مباشرة العمل على عددٍ من المسائل، كي لا يكون علينا في المؤتمر القيام بتعديلاتٍ وإضافاتٍ على المقترحات التي ستكون بريطانيا قد أعدَّتها مسبقًا… وسبق لتشرشل وروزفلت أن أعلنا شكل أوروبا، والعالم كلّه. أكثر من ذلك، أنشأ البريطانيون مكتبًا خاصًّا لدراسة موضوع تقاسم الموارد بعد الحرب، ووضع تصوراتٍ حول وضع أوروبا ما بعد الحرب”.
وتطرّق لوزوفسكي إلى قضايا حدود الدول ما بعد الحرب بالقول: “يجب التفكير منذ الآن في مسألة حدودنا بالكامل. ولن نترك السفن اليابانية قادرةً على عزلنا عن المحيط الهادئ، وعنموانئنا، وإغلاق مضيق لابيروزف، ومضائق الكوريل، وغيرها. كما لا يمكن السكوت عن الوضع الحالي في بحري البلطيق والأسود. يجب التفكير مليًّا في طرقنا البرية والبحرية من زاوية الأمن وحرية الملاحة”.
رأى ستالين أنّ مقترحات لوزوفسكي عملية بالفعل، وأنّها جاءت في الوقت المناسب. في 28 كانون الثاني/ يناير 1942، اتخذ المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي قرارًا بتشكيل لجنةٍ لتقديم مشاريع الحرب في شأن دول أوروبا، وآسيا، وغيرها من مناطق العالم، في مرحلة ما بعد الحرب. وفي أيلول/ سبتمبر من عام 1943، انضم إلى فريق اللجنة إيفان مايسكي، وهو نائب جديد في وزارة الخارجية، ويتمتّع بمعرفة عميقة بالواقعين البريطاني والأميركي، ومؤلف كتاب (منذ البداية، كان إضعاف الاتحاد السوفييتي ضمن المخططات الغربية). وفي 11 كانون الثاني/ يناير 1944، قدّم تقريرًا ضخمًا إلى وزير الخارجية مولوتوف، تضمن تصورات اللجنة. وأشار مايسكي في تقريره إلى ما كان يدور في كواليس الغرب عن تقسيم ألمانيا إلى دويلات صغيرة مستقلة، وكذلك حول أساليب ومواعيد التعويضات من الدول المهزومة، بالإضافة إلى ضرورة عقد اتفاق بعد الحرب مع الدول المجاورة والقريبة من الاتحاد السوفييتي لإقامة قواعد عسكرية سوفييتية لآماد طويلة. وأولى هذا الدبلوماسي المخضرم اهتمامًا خاصًّا للحدود المستقبلية، وأشار إلى ضرورة تغيير الحدود السوفييتية في بعض المناطق الإستراتيجية، وفي الشرق الأقصى، مشدّدًا على ضرورة السيطرة على سلسلة جزر الكوريل، التي تفصل الاتحاد السوفييتي عن المحيط الهادئ. وكذلك السيطرة على ساخالين الجنوبية الخاضعة لليابان حاليًا، من دون الدخول في حربٍ مع اليابان، والتوصل إلى سلامٍ دائم معها، وترك مسألة هزيمة اليابان على عاتق الأميركان والبريطانيين. وعرض مايسكي في تقريره وجهة نظره في شأن فرنسا، فقال: “أرى أنّه من مصلحة الاتحاد السوفييتي استعادة فرنسا لدورها كدولةٍ أوروبية كبيرة في درجةٍ ما، ولكن لن يكون مفيدًا أن تعود دولةً قوية كالسابق من الناحية العسكرية”.
بالنسبة للعلاقة مع الصين، اقترح مايسكي: “على الاتحاد السوفييتي العمل على تعميق نفوذه في الصين، وتعزيز علاقات صداقة معها، إلا أنّ مدى مساهمة الاتحاد السوفييتي في تحويل الصين إلى دولة عظمى حقيقية (اقتصاديًا وعسكريًا)، يجب أن تحدده عمليات تطور الصين الداخلية في الدرجة الأولى. فإذا كان توجّه هذا التطور الداخلي في الصين واضحًا، وتدعمه عناصر حكومية تكِّنّ الصداقة للاتحاد السوفييتي، سيكون على الاتحاد السوفييتي تقديم مساعداتٍ مكثّفة وسريعة”.
أما بالنسبة لتركيا، فيرى مايسكي: “يجب أن تؤدي سياسة الاتحاد السوفييتي مع تركيا بعد انتهاء الحرب إلى منع تقوية تركيا، والحيلولة تمامًا دون إمكانية تدخلها في شؤون البلقان… ويجب استخدام كافّة الوسائل المتاحة لإضعاف وضع تركيا كحارسٍ للممرات المائية، كمضيق البوسفور، والدردنيل”.
بالنسبة لبولندا، اعتقد مايسكي أنّه “من المفيد للاتحاد السوفييتي قيام دولة بولندا المستقلة، والقادرة على الحياة، وليس من مصلحة موسكو قيام بولندا كبيرة وقوية للغاية”. ونصح “بوجود بولندا على أقلّ مساحةٍ ممكنة، ورسم الحدود على مبدأ الحدود القومية والعرقية”.
التوسع الأميركي نوعٌ جديد من الهيمنة
يعتقد مايسكي أن تحقيق هذه الأهداف سيعتمد إلى حدٍّ كبير على موقف واشنطن: “كلّ شيءٍ يشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستكون في فترة ما بعد الحرب معقلًا ديناميكيًا للغاية للرأسمالية العالمية، وستسعى أميركا بقوةٍ إلى التوسّع بقوة في مختلف أجزاء العالم (في قارات
أميركا، وآسيا، وأوروبا، وأفريقيا). بيد أنّه سيكون توسعًا من نوعٍ جديد، لا يعتمد ضمّ المناطق، بل الهيمنة المالية والاقتصادية… وبعد كلّ شيء، ستخرج الولايات المتحدة الأميركية من الصراع الحالي بتجارةٍ عالمية، وأساطيل جوية وبحرية ضخمة، وبقدراتٍ تقنية غير محدودة، وسينصبّ اهتمامها على توسيع التجارة الخارجية، وإيجاد أسواقٍ جديدة. وليس من قبيل الصدفة أنّ واشنطن بدأت، منذ الآن، تعمل على إرساء جذورها في أفريقيا، والجزيرة العربية، وإيران، كما تعوّل كثيرًا على الصين بشكلٍ خاصّ.
سيتعيّن على دول القارات الخمس أن تنظر جديًا إلى توجهات الإمبريالية الأميركية، باعتبارها العامل الأكثر أهميةٍ في الوضع الدولي في عالم ما بعد الحرب”.
وبالنسبة لبريطانيا، يقول مايسكي إنّها فقدت خلال الحرب دورها السابق إلى حدٍّ كبير، وستخرج من الحرب فقيرةً وضعيفةً جدًا، مقارنة بحالها قبل الحرب، إذ اضطرت لنقل كلّ استثماراتها إلى الولايات المتحدة، وأُجبرت على الاقتراض من الولايات المتحدة، وكان ثمن استئجارها لسفن الألغام الأميركية هو التخلي عن قواعدها، وبعض الأراضي الخاضعة لها. وتنوي الدوائر المؤثرة في الولايات المتحدة الأميركية مطالبة بريطانيا بفتح الباب لغزو أسواق الإمبراطورية البريطانية… ومع ذلك، فإنّ شطب بريطانيا من الحسابات أمرٌ سابقٌ لأوانه. يقول الخبير في السياسة البريطانية: “فبريطانيا تسبق الولايات المتحدة الأميركية بأشواطٍ، من حيث أنّها ما زالت تشكّل عاملًا هو الأهمّ في صراع القوى العالمية، بوجود تجربة تاريخية هائلة، وكوادر مدربة تدريبًا رفيع المستوى وضروريًا لإدارة السياسات الدولية”.
ووفقًا لرؤية مايسكي، قد تستخدم لولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا قدراتهما ضدّ الاتحاد السوفييتي في حالةٍ وحيدة، ولكنها حاسمة: “إذا أدت فترة ما بعد الحرب الأولى إلى إطلاق ثوراتٍ بروليتارية في أوروبا، فإنّ العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وأوروبا من جهة، وبين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من جهةٍ أُخرى، ستتخذ طابع التوتر والحدّة. وسيحتل التناقض الرأسمالي – الإشتراكي واجهة العلاقات الدولية، وسيكون الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية قطبين متعاكسين”.
تمّت دراسة مقترحات مايسكي بعناية شديدة، وكانت الفوائد كثيرة. ولكن التجربة أثبتت أنّ تطبيق الأفكار كلّها في الوقت نفسه أمرٌ مستحيل.
تبيّن أنّ تشكيل حزامٍ من دولٍ غير معادية/ أو حليفة للاتحاد السوفييتي، يتطلب وقتًا طويلًا:
ــ تشكلت في بولندا في 21 تموز/ يوليو عام 1944 “لجنة التحرير الوطنية”، إلا أنّ “قيام دولة بولندا بعد الحرب على أصغر مساحةٍ ممكنة”، كما اقترح مايسكي، لم يكن واقعيًا. فقد طالبت الحكومة البولندية من منفاها في بريطانيا باستعادة حدود البلاد الشرقية التي كانت قائمة قبل عام 1939، والتي تضمّ غرب أوكرانيا، والجزء الغربي من بيلاروسيا، بالإضافة إلى فيلنوس على بحر البلطيق. علاوةً على ذلك، لم تكتف حكومة المنفى البولونية بذلك، بل أصرّت أيضًا على ضمّ مناطق ألمانية كتعويض عن الأضرار. أمّا الحكومة البولونية الموالية لموسكو، فقد سبق لها أن وافقت على الحدود الشرقية المقابلة للوضع عام 1941، لقاء حصولها على أراضٍ من الجهة الغربية على حساب الألمان. وفي حال العكس، يكون من غير الممكن كسب تأييد سكان بولندا للقيادة الجديدة.
ــ أدركت الولايات المتحدة وبريطانيا نوايا السوفييت الرامية إلى توسيع مناطق نفوذهم لأمدٍ
طويل الأجل، فعملتا على إعاقة تنفيذ الخطط السوفييتية، ما دفع ستالين ليكتب لمفوض الخارجية، مولوتوف، الذي كان يشارك في مفاوضات بوتسدام صيف عام 1945: “يجب ألا نكون بولنديين أكثر من البولنديين أنفسهم”.
ــ أصبحت مسألة خلق عقباتٍ في وجه محاولات الولايات المتحدة ضمّ الصين إلى مجال نفوذها تحظى باهتمام القيادة السوفييتية، ولا تقلّ أهمية عن مسألة الحدود مع بولندا. وكما حذّر مايسكي: “يمكن أن تمثّل التكنولوجيا الأميركية، إذا ترافقت مع القوى البشرية الصينية، تهديدًا خطيرًا على الاتحاد السوفييتي”. لم تتحقق رؤية مايسكي في تجنب الحرب مع اليابان، وتمكنت القوات السوفييتية من هزيمة جيش كوانتونج الياباني على الأراضي الصينية، وسيطرت على منشوريا. وفي الوقت نفسه، بدأت عملية سرّية لتوريد الأسلحة إلى الشيوعيين الصينيين، الذين شنّوا حربًا ضدّ الحكومة الصينية المعترف بها. ساهمت المساعدات السوفييتية المتنوعة في انتصار ماو تسي تونغ عام 1949 على حكومة بكين. وبفضل دخولها الحرب ضدّ اليابان، تمكنت القيادة السوفييتية من احتلال الجزء الجنوبي من ساخالين، وأرخبيل جزر الكوريل، ولكنّها لم تحصل على اعترافٍ بالحدود الجديدة، لتبقى مسألة الحدود بين البلدين إحدى المسائل العالقة حتى اليوم.
ــ كتب ستالين إلى ممثل الاتحاد السوفييتي في المجلس الوزاري الخماسي، مولوتوف: “إنّهاذروة الغطرسة! البريطانيون والأميركان يدَّعون أنّهم حلفاؤنا. يبدو أنّهم لا يريدون أن يسمعونا بشكلٍ صحيح في شأن الرقابة في اليابان. موقفهم يشير إلى أنّهم يفتقرون إلى أبسط مشاعر الاحترام لحليفهم… لدينا معلومات مفادها أنّ الأميركيين، وبمشاركةٍ بريطانية، قد وضعوا يدهم على احتياطي الذهب الياباني، الذي يقدّر بـ 1 – 2 مليار دولار. من الضروري التلميح لهم في هذا الشأن، وتوضيح أنّ هذا التصرف يفسّر معارضتهم لتشكيل مجلس مراقبة في اليابان”.
ــ أعاق البريطانيون والأميركان النظر في مقترحات الاتحاد السوفييتي في شأن تركيا، الرامية لإضعاف موقف تركيا.
ــ وكما توقع مايسكي، استخدم البريطانيون خبراتهم الكبيرة في الشؤون الدولية في نصب مصائد إجرائيّة خلال المفاوضات، كان يقع فيها، بين الحين والآخر، مفوض الشؤون الخارجية للشعب السوفييتي، مولوتوف، الذي اكتشف، متأخرًا، أن القرارات بشأن القضايا الأساسية يجب أن تؤخذ بأغلبية الأصوات. وبقي مولوتوف في الأقلية باذلًا كثيرًا من الجهود في محاولةٍ لمراجعة قواعد التصويت.
ــ خلال مناقشة معاهدة السلام مع إيطاليا، وبشكلٍ مفاجئٍ تمامًا، انضمت الحكومة الصينية (بسبب الدعم السوفييتي لماو تسي تونغ) إلى فرنسا، لتدعما كافّة المقترحات الأنجلو – أميركية.
تحققت توقعات الخبراء في شأن التناقضات بين الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة الأميركية، التي استعرت أثناء المفاوضات، وحتى قبل الثورات البروليتارية في أوروبا الشرقية. كما نجم عن تقاسم مناطق النفوذ تدهور حادٍّ في العلاقات بين البلدين، وتسريع ظهور قطبين متناقضين في العالم جعلا العالم يعيش عقودًا من التوتر والقلق.
المصدر: ضفة ثالثة