كاثرين باور و كيفن ماثيسون
في 21 تموز/يوليو، استدعت وزارة خارجية كوريا الجنوبية السفير الإيراني في سيؤول لتقديم شكوى حول الخطاب الإيراني المشدد بشأن إمكانية الوصول إلى الأموال المجمدة في كوريا الجنوبية. وفي الأسبوع الذي سبق، اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سيؤول بارتباطها بواشنطن بعلاقة مشابهة لعلاقة “السيد بخادمه”، بينما كان محافظ “البنك المركزي الإيراني” قد هدد سابقاً باتخاذ إجراء قانوني للوصول إلى تلك الأموال، والتي تقول طهران إنها تنوي استخدامها لأغراض إنسانية.
وعلى الرغم من تخويل الحكومة الأمريكية استخدام الأموال لمثل هذه الأغراض في شباط/فبراير، إلا أن المصارف الكورية الجنوبية تبدو مترددة في المضي قدماً في الموضوع دون ضمانات أمريكية إضافية – وقد تعاظم هذا التردد بعد فرض غرامة مالية من قبل الهيئات التنظيمية الأمريكية على “البنك الصناعي الكوري” (IBK) قدرها 86 مليون دولار خلال نيسان/أبريل، لعجز البنك عن كشف عملية إيرانية واسعة النطاق لغسل الأموال. ومع معاودة الارتفاع في عدد الإصابات بوباء “كوفيد-19” في الجمهورية الإسلامية، يجب على واشنطن العمل مع سيؤول لضمان المضي قدماً بتجارة الأدوية والمعدات وغيرها من المواد الإنسانية – ولكن تحت آلية إشراف صارمة.
أموال مجمدة، تجارة مجمدة
وفقاً لرئيس غرفة التجارة المشتركة بين البلدين، تتراوح قيمة الإيرادات الإيرانية من مبيعات النفط إلى سيؤول والمودعة لدى المصارف الكورية الجنوبية بين 6,5 و 9 مليارات دولار. وبموجب الإعفاءات من العقوبات الأمريكية الصادرة بين عامَي 2013 و2015، ولفترة وجيزة بعد إعادة فرض العقوبات في أواخر 2018، تمكّن الشركاء التجاريون من مواصلة استيراد النفط الإيراني طالما احتفظوا بالإيرادات في الحسابات المقوّمة بالعملة المحلية (الوون الكوري في هذه الحالة)، واستخدموها فقط لتمويل التجارة الثنائية. وفي الوقت الذي أنهت فيه إدارة ترامب الإعفاءات النفطية في أيار/مايو 2019، كانت سيؤول قد أوقفت بالفعل علاقتها التجارية في مجال الطاقة مع طهران، وكانت حسابات “البنك المركزي الإيراني” المقوّمة بالوون لدى المؤسستين المستخدمتين لمثل هذه المعاملات – أي “البنك الصناعي الكوري” (IBK) و”بنك ووري” – غير نشطة إلى حد كبير.
وعلى الرغم من المشاورات الأمريكية – الكورية التي دامت شهوراً حول التجارة المسموح بها مع إيران، كانت الصادرات الإنسانية والتجارة الشاملة بين البلدين في حدها الأدنى. ويبدو أن شحنة من الأدوية بقيمة 500,000 دولار أُرسلت في أيار/مايو كانت صفقة وحيدة أُبرمت بموجب الترخيص العام الأمريكي الصادر في شباط/فبراير. وقال مسؤولون كوريون جنوبيون إنهم يريدون وضع آلية مشابهة لـ “اتفاقية التجارة الإنسانية السويسرية” التي وقّعتها برن وواشنطن في كانون الثاني/يناير بعد أكثر من عام من المفاوضات من أجل ضمان “الشفافية في التجارة الإنسانية مع إيران”. لكن حاجة طهران الملحة للوصول إلى احتياطاتها الأجنبية آخذة في الازدياد، وهي تضغط على سيؤول للسماح لها باستخدامها على الفور.
علاقات اقتصادية ومالية متوترة
قبل فرض العقوبات الدولية المشددة على إيران، كانت كوريا الجنوبية من أكبر الشركاء التجاريين للجمهورية الإسلامية خارج الشرق الأوسط ورابع أكبر مستهلك للنفط الإيراني. وبعد الاتفاق النووي لعام 2015، بلغ حجم التجارة الثنائية 12 مليار دولار في عام 2017، من بينها صادرات من كوريا الجنوبية بقيمة 4 مليارات دولار. ومع ذلك، انخفضت هذه الصادرات إلى أقل من 300 مليون دولار في العام الماضي ولم يبلغ مجموعها الإجمالي سوى 90 مليون دولار في النصف الأول من عام 2020، وفقاً لبيانات الجمارك الكورية الجنوبية.
ومع ذلك، لا تزال طهران مهتمة بالسلع الكورية العالية الجودة، ولا سيما المستحضرات الصيدلانية والإلكترونيات الاستهلاكية والأجهزة، بما فيها تلك ذات الاستخدامات الطبية. ومن جانبها، سعت الشركات الكورية إلى الحفاظ على وجودها في إيران وضمان قدرتها على الوصول إلى الأسواق في المستقبل على الرغم من استئناف العقوبات الأمريكية. على سبيل المثال، واصلت شركتا “سامسونغ” و”أل جي” بتزويد العملاء الإيرانيين بقطع الغيار والخدمات وعمليات الشراء عبر متجر التطبيقات حتى فترة غير بعيدة تعود إلى شباط/فبراير، عندما انسحبت بسبب القيود الأمريكية على المعاملات المصرفية الإيرانية.
وكما هو الحال في المناطق الأخرى، تخشى البنوك الكورية الجنوبية من مخالفة العقوبات الأمريكية. وفي قضية “البنك الصناعي الكوري” التي حدثت في نيسان/أبريل الأخير، فُرضت على المصرف غرامةٌ هائلة بعد فشله في الكشف والإبلاغ عن مخطط إيراني للتهرّب من العقوبات وغسل الأموال بمقدار مليار دولار. والجدير بالذكر أنه في عام 2011، استخدم رجل الأعمال الأمريكي كينيث زونغ وشخصيات أخرى حسابات الضمان الإيرانية المقوّمة بالوون الكوري لتمويل معاملات تجارية مزيفة، حيث قامت واجهاتٌ في كوريا الجنوبية وإيران والإمارات العربية المتحدة بتحويل الأموال إلى الدولار الأمريكي قبل تحويلها إلى المسؤولين الإيرانيين في مختلف أنحاء العالم. وقد أُدين زونغ بسبعة وأربعين تهمة تتعلق بانتهاك العقوبات الأمريكية، كما خلصت السلطات الفيدرالية الأمريكية وسلطات نيويورك إلى أن “البنك الصناعي الكوري” فشل في إنشاء أنظمة امتثال كافية على الرغم من تنبيهه إلى ضرورة القيام بذلك في عام 2014.
احتياجات إيران الإنسانية
في آذار/مارس، صرّحت وزارة الخارجية الكورية أنها تدرس إمكانية استئناف التجارة الإنسانية مع إيران بعد الرسالة التي وجّهها الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى نظيره الكوري مون جاي إن، يطلب فيها حزمات اختبار “كوفيد-19″، وأدوات دعم أخرى للقضاء على الوباء. كما ألقت طهران باللوم على العقوبات الأمريكية لمنعها من الحصول على السلع الإنسانية؛ وفي رسالة وجّهها إلى الأمين العام الأمم للمتحدة في 12 آذار/مارس، جادل وزير الخارجية محمد جواد ظريف بأن القيود التي تفرضها واشنطن “تحبط” الجهود الإيرانية للكشف عن مرضى “كوفيد-19” وعلاجهم.
وفي الوقت نفسه، رفضت إيران عروض المساعدة الطبية الأمريكية، في حين أن عشرات الحكومات من مختلف أنحاء العالم أرسلت بنجاح المساعدات إلى إيران طوال فترة انتشار الوباء. بالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير الأخيرة لى أن “البنك الدولي” وافق مبدئياً على قرضٍ بقيمة 50 مليون دولار لوزارة الصحة الإيرانية عبر منظمة الصحة العالمية في وقت سابق من هذا الشهر، على الرغم من أن التمويل قد يواجه معارضة أمريكية. كما تعارض واشنطن طلب إيران للحصول على قرض من “صندوق النقد الدولي” بقيمة 5 مليارات دولار، ولا يزال القرض معلّقاً بانتظار إجراء تقييم إضافي لقدرة البلاد على تحمّل الديون واحتياجات ميزان مدفوعاتها.
وبغض النظر عن الاتهامات الإيرانية والمصير النهائي لطلبات القروض، هناك أمرٌ واحد واضح، وهو أن البلاد لا تتمتع باكتفاء ذاتي من ناحية إنتاج الأدوية أو الأجهزة الطبية على الرغم من إمكانياتها المحلية الملحوظة. وتبلغ حصة الشركات الإيرانية 70 في المائة من سوق الأدوية في البلاد و30 في المائة من معداتها الطبية، ولكنّ إيران بحاجة إلى استيراد العديد من المواد الأولية المستخدمة في إنتاج هذه السلع، بالإضافة إلى الأدوية الأكثر تطوراً التي لا تستطيع تصنيعها محلياً. وبشكل منفصل، أَبلغت طهران عن مشاكل في سلسلة الإمداد ونقص في معدات الاختبار، وأجهزة التهوية، والمعدات الوقائية، شأنها شأن الحكومات الأخرى التي تواجه الوباء العالمي. وأصبح الوصول إلى العملة الصعبة اللازمة لتمويل هذه الواردات يندرج بشكل متزايد ضمن صلاحية “البنك المركزي الإيراني”، حيث يتوجب على المصدّرين الإيرانيين إعادة 70 في المائة من أرباحهم بالعملة الصعبة إلى البنك.
الدعم الأمريكي للتجارة الإنسانية
إدراكاً منها لتردّد الشركات والمؤسسات المالية في العمل مع إيران وما يترتب عن ذلك من مخاطر لا تُعدّ ولا تُحصى، اتخذت الحكومة الأمريكية خطوتين متزامنتين في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، هما: طرح آلية تضمن تعزيز الشفافية في التجارة الإنسانية، ووضع اللمسات الأخيرة على ما يُسمى بـ “الاستنتاج بموجب الفقرة 311” الذي صنّف إيران كسلطةً تشكل مصدر قلق رئيسي لغسل الأموال. وبالإشارة إلى التعتيم الممنهج للبلاد على الأنشطة المالية غير المشروعة، وضَع إطار العمل للشركات والمؤسسات المالية شروطاً مشددة للعناية الواجبة المحسّنة في سبيل ممارسة أعمال التجارة الإنسانية المسموحة. والتزمت واشنطن بدورها بتقديم تأكيد خطي وإيجابي لجميع هذه المعاملات التي امتثلت للعقوبات الأمريكية.
إلّا أن سويسرا هي الوحيدة التي استفادت في البداية من هذا الإطار. فقد أجرت “اتفاقية التجارة الإنسانية السويسرية”، التي استُكملت وفقاً للآلية، معاملة “تجريبية” في كانون الثاني/يناير تمثّلت ببيع أدوية للسرطان وزرع الأعضاء إلى إيران بقيمة 2,6 مليون دولار. لكن المعاملة التالية لم تحدث حتى 27 تموز/يوليو، حين أعلنت برن عن صفقة بيع غير تجريبية بقيمة غير معروفة. وردّاً على هذا النقص في الأنشطة، أوضح وزير الخارجية السويسرية في وقت سابق من هذا الشهر أن تأخير المعاملات يعود إلى تغيير أولويات الشركات بسبب الوباء العالمي. على سبيل المثال، شاركت شركة “نوفارتيس” في صفقة البيع المبرمة في كانون الثاني/يناير، ولكنها اليوم تركّز على التحضير لتصنيع لقاح محتمل ضد “كوفيد-19” يجري تطويره من قبل مجموعة من المستشفيات الأمريكية. وكما أشارت الشركة، تم التفاوض على القناة السويسرية قبل فترة طويلة من ظهور فيروس كورونا، لتكون وسيلة “لتعزيز قدرة المرضى الإيرانيين على الوصول إلى الخدمات الطبية من خلال زيادة القدرة على التنبؤ واستقرار الإمدادات المستقبلية من الأدوية لإيران” – وهي لم تكن مصممة للتعامل مع وباء عالمي.
وقد يساعد اهتمام كوريا الجنوبية في إنشاء قناة جديدة مُقيَّمة بالوون الكوري على التعويض عن هذه القيود وتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً للشعب الإيراني ونظامه الطبي. وكما يتبين من قضية زونغ، لدى المصارف التي تحتفظ بأموال إيرانية سببٌ لتوخي الحذر، والأمل معقود بأن تفكر طهران في الكيفية التي تعكّرت بموجبها العلاقات بسبب سوء استخدامها لبعض الحسابات الكورية الجنوبية. ومع ذلك، فإذا استمرت التعاملات التجارية الإنسانية بالمضي قدماً، فإن الشروط المنصوص عليها في الآلية الأمريكية ستنطبق على الشركات الكورية الجنوبية فقط – فهي لن تتطلب آلية إيرانية مقابلة، على عكس “آلية دعم التبادل التجاري” (INSTEX) المدعومة من الاتحاد الأوروبي. من هنا، فإنّ إنشاء قناة إنسانية تخضع لرقابة وزارة الخزانة الأمريكية هو أفضل فرصة لضمان عدم استغلال هذه التدفقات التجارية، وعلى الولايات المتحدة التحرك بسرعة ً للاستفادة من هذه الفرصة.
كاثرين باور هي زميلة “بلومنستين كاتس فاميلي” في معهد واشنطن ومسؤولة سابقة في وزارة الخزانة الأمريكية. كيفن ماثيسون هو مساعد باحث في “برنامج راينهارد لمكافحة الإرهاب والاستخبارات” التابع للمعهد.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى