مايكل يونغ
يشرح سولي أوزيل، في هذه المقابلة، الطبيعة متعددة الأوجه للطموحات التركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سولي أوزيل محاضر أوّل في جامعة قادر هاس في اسطنبول، تركيا. وقد حلّ محاضراً ضيفاً على العديد من الجامعات، منها جورجتاون وهارفرد وتافتس، وزاول التدريس في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، وفي كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وجامعة واشنطن. وافق أوزيل الذي تُنشَر كتاباته التحليلية على نطاق واسع، على إجراء مقابلة مع “ديوان” في منتصف تموز/يوليو لمناقشة الطموحات التركية في المنطقة، ومستقبل العلاقات التركية مع الدول النافذة عند أطراف المنطقة العربية مثل إيران وإسرائيل، وآفاق العلاقات التركية مع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
مايكل يونغ: يبدو أن الرئيس رجب طيب أردوغان يريد إعادة إحياء الدور الذي يجعل من تركيا قوة كبرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – حتى إنه وصفَ هذه القوة بأنه “يتعذّر وقفها”. هلا تشرحون لنا ما الهدف الذي يتوخّاه الرئيس في نهاية المطاف؟
سولي أوزيل: سعت حكومة أردوغان، لفترة طويلة وحتى قبل انتقال تركيا إلى اعتماد نظام رئاسي، إلى تحويل البلاد إلى قوة إقليمية مُهيمنة. وكان أحمد داود أوغلو، وهو المنظِّر الذي يقف خلف السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، يتحدث مراراً وتكراراً عن تركيا بوصفها قوة إقليمية ذات امتداد عالمي، ولاسيما بعدما أصبح وزيراً للخارجية في العام 2009 ثم رئيساً للوزراء في العام 2014. وفي حين أن التركيز كان سابقاً على القوة التركية الناعمة لممارسة النفوذ، أصبحت القوة الصلبة الأداة المفضّلة بعد الانتفاضات العربية وبصورة خاصة إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا في 15 تموز/يوليو 2016.
لم تكن تطلعات تركيا الاستراتيجية من بنات أفكار حكومات حزب العدالة والتنمية وحده. فقد دفعت مدارس فكرية مختلفة في البلاد منذ انتهاء الحرب الباردة باتجاه نظرة أكثر توسّعية إلى المصالح الاستراتيجية التركية. واليوم، يبدو أن الرؤية الاستراتيجية الأكثر توجّهاً نحو الإسلام التي يعتمدها حزب العدالة والتنمية، والرؤى الاستراتيجية الأكثر قومية والمناهِضة حكماً للغرب التي تتبناها النخب المدنية والعسكرية التي ينتمي بعضها إلى مدرسة الفكر الأوراسية، تقاطعت في دعمها للسياسات التي تحبّذ ممارسة القوة، وإنشاء القواعد العسكرية، وتعزيز الحقوق البحرية، وامتلاك حرية تحرّك واسعة ومستقلة لتحقيق المصالح التركية. تقوم سياسات أردوغان في شرق المتوسط وليبيا، والتي كان قد طوّرها ضباط قوميون علمانيون، على عقيدة تُعرَف بـ”الوطن الأزرق”.
بالنسبة إلى أردوغان، ثمة مكوّن إيديولوجي أيضاً يتعلق بالتنافس الجيوسياسي والإيديولوجي مع بلدان الخليج وحليفتها مصر على قيادة العالم المسلم السنّي. لهذه الغاية، تتواصل بلا هوادة الحملة الهادفة إلى تشييد مساجد في مختلف أنحاء العالم، وتأمين الحماية للإخوان المسلمين، ومناصرة قضية المسلمين في كل مكان – إلا في الحالات حيث تتسبّب فيها تلك الحملة بتعطيل المصالح الاقتصادية أو الجيوسياسية. وهذا ما ظهر جلياً في الصمت التركي المُطبق إزاء المعاملة الصينية للإيغور.
لكن تركيا، التي يمكن القول بأنها موزّعة على جبهات عدة، تعتمد على دعم أميركي ضمني على الأقل في ليبيا. أردوغان هو الشخصية الأكثر اتصالاً بالرئيس دونالد ترامب، وفقاً لما ورد في تقارير إخبارية عدة وفي مذكرات مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون. إذن، لا يمكن التقليل من شأن البُعد الأميركي في النشاط التركي.
يونغ: ماهي برأيكم الركائز التي تقوم عليها ممارسة القوة التركية على المستوى الإقليمي، وما الدور الذي يؤدّيه في هذا المجال قرار أردوغان الأخير بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد من جديد؟
أوزيل: قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد من جديد انطلق بصورة أساسية من اعتبارات داخلية، لكنه صبّ أيضاً في إطار سعي أردوغان إلى قيادة العالم السنّي. لقد جاءت النسخة العربية من الإعلان الصادر عن الرئاسة التركية على ذكر تحرير المسجد الأقصى. لبّت هذه الخطوة أحد أهم التطلعات السياسية للإسلام السياسي التركي، وصُوِّرت خصوصاً بأنها عمل سيادي، وقد كانت كذلك فعلاً. ربما توقّع أردوغان ردود فعل قوية من الغرب، لكنها كانت خافتة بصورة أساسية. ومن خلال هذه الخطوة، أعادت تركيا، على مايُفترَض، تأكيد سيادتها ووصايتها على التراث الإسلامي. وساهم رد الفعل الغربي الضعيف بدوره في تعزيز صورة بلادٍ يتعذر وقفها فيما تقود حضارة إسلامية في طور الصعود.
يونغ: ماهي الديناميكيات التي دفعت بأردوغان إلى أن يُقدّم نفسه في صورة قائدٍ سنّي قوي لمجتمعات العالم العربي، وماذا يكشف ذلك عن الدول الخليجية التي تتولى تقليدياً تمثيل السنّة والتي فرضت وجودها على نحوٍ مبالغ به في الأعوام الأخيرة؟
أوزيل: بنى أردوغان تحالفاً وثيقاً مع قطر منذ فترة طويلة. وسعت تركيا أيضاً إلى إقامة علاقات جيدة مع السعودية، وظلّت هذه العلاقات ودّية إلى حد كبير إلى حين وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. في الواقع، خلال المراحل الأولى للانتفاضة السورية، عملت أنقرة والرياض جنباً إلى جنب. وعقب الانقلاب الذي شهدته مصر في تموز/يوليو 2013 وأسفر عن عزل الرئيس محمد مرسي، تدهورت العلاقات بين البلدَين. لكن، بعد وفاة الملك عبد الله في كانون الثاني/يناير 2015، شرع أردوغان في بناء علاقة جديدة مع الملك سلمان للدفع باتجاه تنحية الرئيس السوري بشار الأسد. وقد مُني هذا المجهود بالفشل لجملةٍ من الأسباب أبرزها تدخّل روسيا بكامل قوتها في الحرب ومساهمتها في إنقاذ النظام.
منذ ذلك الوقت، تدهورت إلى حد كبير العلاقات التركية مع السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين تقفان إلى جانب مصر. وقد اصطفت تركيا إلى جانب قطر التي بنت فيها قاعدة عسكرية، حين فرض مجلس التعاون الخليجي حصاراً على الدوحة. كما نشرت فرقة عسكرية صغيرة لتقديم المساعدة إلى الإمارة. استمر أردوغان في توجيه انتقادات إلى نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. فيما أصدر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أمراً بقتل صحافي سعودي مرموق في اسطنبول. وتُعتبَر الإمارات ومصر عدوّتَي تركيا اللدودتَين في الحرب الأهلية الليبية.
يرتبط ذلك كله، من وجهة نظر أردوغان، بالتنافس على قيادة العالم الإسلامي السنّي. لا تريد دول الخليج إفساح المجال أمامه لأداء هذا الدور القيادي.
يونغ: كيف تستشرفون مستقبل العلاقات التركية مع القوتين الأخريين غير العربيتين عند أطراف الشرق الأوسط، أي إيران وإسرائيل؟
أوزيل: لاتتشاطر تركيا الهستيريا السعودية أو الإسرائيلية في مايتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، على الرغم من أن لديها مخاوف وتحفظات بشأن البرنامج، وأطماع طهران الإقليمية، ومايُعرَف بالهلال الشيعي. لطالما أبدت أنقرة معارضتها لنظام العقوبات على إيران، وحصلت على إعفاءات في هذا المجال، وساهمت في تقويض العقوبات. لكنها توقفت مؤخراً عن شراء النفط من إيران المجاورة. وقد تعاونت أنقرة وطهران مع روسيا في عملية أستانة حول الملف السوري، وعلى الرغم من التباين الشديد في أهدافهما وتطلعاتهما في العراق وسورية. تدّعي الدولتان مناصرة الفلسطينيين، بيد أن تركيا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
ثمة مؤشرات توحي بأن التعاون الاستخباري يتواصل ربما بين إسرائيل وتركيا على الرغم من النفور بينهما ومن العداوة الشخصية بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فالعلاقة الوثيقة التي تربط إسرائيل بمصر واليونان والإدارة اليونانية في قبرص، والتعاون الإسرائيلي مع هذه الأطراف في شؤون الطاقة في شرق المتوسط، ولدّا انطباعاً لدى الكثيرين بأنه يتعذّر تصويب العلاقات الإسرائيلية مع تركيا. لا يُتوقَّع حدوث تحسّن كبير في العلاقات في المدى المنظور، لكن الموجب الاستراتيجي الذي يربط بين إسرائيل وتركيا لايزال قائماً. في الواقع، عندما أصدر شركاء إسرائيل في مشروع خط الأنابيب “إيست ميد” والإمارات بياناً مشتركاً في 11 أيار/مايو وجّهوا فيه انتقادات لاذعة لتركيا وتحركاتها، اختارت إسرائيل ألا تكون جزءاً من البيان. ولم يُبدِ نتنياهو تجاوباً مع رسائل القلق التي وجّهها نظيره اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس بشأن تركيا خلال زيارته إلى إسرائيل في حزيران/يونيو. أخيراً، إذا باشرت إسرائيل ضم جزء من الضفة الغربية، سوف يكون لتركيا ردٌّ قوي كدولة وبصفتها الرئيسة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي، ولكن غالب الظن أنه سيكون رداً لفظياً فقط.
يونغ: ما المخاطر الكامنة في سعي أردوغان المستجد إلى تثبيت الوجود، وهل يستطيع الاقتصاد التركي دعم هذه المقاربة؟
أوزيل: لقد نجحت تركيا على نحوٍ محدود في سورية، حيث يُستبعَد أن تغادر المناطق التي تدخّلت فيها منذ آب/أغسطس 2016، وحيث أوجدت فعلياً نسخة جزئية عن منطقتها الأمنية المنشودة. وعلى الرغم من إجهاض تطلّع أنقرة إلى تغيير النظام السوري، أتاح لها موقعها الجغرافي ووجودها العسكري وأوراقها الاستراتيجية الرابحة أن تحجز لنفسها مكاناً في موقع الفريق الفاعل في مرحلة ما بعد النزاع.
في ليبيا، قلبت تركيا المعادلة عسكرياً ضد المشير خليفة حفتر الذي يحظى بالدعم من السعودية والإمارات ومصر وفرنسا وروسيا، وثبّتت نفسها لاعباً لايُستهان به في الساحة الليبية. وينبغي عليها الآن أن تُحوّل المكسب العسكري الذي حققته إلى عملية دبلوماسية، نظراً إلى أن الاقتصاد التركي في وضعه الراهن لن يتمكّن على الأرجح من دعم هذه المغامرات الطموحة في السياسة الخارجية إلى مالانهاية.
يونغ: هل يهدّد موقف تركيا الجديد حضورها في الناتو؟ وكيف ذلك؟
أوزيل: في منتدى الدوحة التاسع عشر في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار رداً على سؤال عن العلاقات التركية مع الناتو: “نحن في صلب الناتو. لن نذهب إلى أي مكان، نحن داخل الناتو”. تبقى تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي على الرغم من قيامها بشراء منظومة إس-400 الروسية، ومن علاقاتها الاستراتيجية الوطيدة مع موسكو، واستيائها العميق من حلفائها في الناتو بسبب عدم تضامنهم مع الحكومة التركية المنتخَبة خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة، وعلى الرغم من الكلام الذي يرد تكراراً على لسان عدد كبير من المعلّقين بأن انتماء تركيا ليس للناتو. تعوّل أنقرة على الحلف لضمان أمنها، وإن كانت تسعى إلى تحقيق درجة كبيرة من الاستقلال الذاتي في هذا المجال، وتشارك في مناورات الناتو حتى في مناطق لاتقع تقليدياً ضمن دائرة اهتمامها. وقد ظهرت حدود المودّة التركية حيال روسيا في أيار/مايو الماضي عندما قامت طائرتان أميركيتان من طراز “بي-1 لانسر” بإعادة التزوّد بالوقود في المجال الجوي التركي فوق البحر الأسود. فقد حملت هذه الحادثة دلالات بالغة الأهمية على ضوء المحاولات التي بذلتها تركيا، بالاشتراك مع روسيا، منذ نهاية الحرب الباردة من أجل منع الولايات المتحدة والناتو من الوصول إلى البحر الأسود.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط