عبد الباسط حمودة
يتوهم البعض أن وجود أغلبية عربية في سورية هو الإشكالية أمام هوية الوطن المستقبلية، أو الدولة المستقبلية، والمطلوب من تلكم الأغلبية أن تثبت أنها مجرد عرق، أو إيديولوجيا، أو تابع لثقافة دينية، وبالتالي لا حاجة لأن تُقّرن الدولة بهوية أكثريتها كي ترتاح وتُقَر عيون هذا البعض الواهم؛ وكأن الدولة الحديثة تضن بصفة أكثريتها الذين هم مادتها، أو أن الوطنية تسقط بصفة وهوية أغلبيتها، فهل لسورية المستقبل أي دور، مهم أو غيره، بدون دورها وحاضنتها العربية؟
كلهم يؤكدون أن لا دور تاريخي مؤثر وفاعل لسورية إلا بالتعاون والتلازم مع محيطها العربي، فكيف يكون ذلك بإسقاط أكثرية أبنائها من الحساب وطنياً؟ وكيف يختبئ أولئك خلف العَلموية بزعمهم ذلك؟ ألم يكن الإنتاج الفكري والعلمي والثقافي العام هو نتاج الأكثرية الفاعلة فيها؟ ولماذا القفز فوق أسباب الانحطاط والتجهيل الذي أفضى لهذا التخلف الثقافي والحضاري؟ ألم يكن الاستبداد وارتباطاته الامبريالية بمواجهة المد النهضوي الوحدوي العربي أحد أهم الركائز لهذه الروح المستكينة لمقولات أقلوية ما قبل وطنية وقومية معاً؟
إن العروبة لم تكن إلا صفة عمومية وثقافية لشعبنا وللوطنية السورية، وإن كثير من الدعوات التي تُخرج بعض أبناء اللهجات العربيات من تاريخها فضلاً عن حاضرها، إلا دعواتٌ مشبوهة لا سند تاريخي لها، ومن يعود لـ ’’ ابن حوقل‘‘ و ’’محمد رضا كحالة‘‘ يجد ما يُثبت دعوانا، وأن إرضاء أصحاب الأجندات والهوائيات (الأنتينات) الخارجية أمرٌ غير ممكن التحقق إطلاقاً مع الروح الثورية الراهنة .
فكم تبدو “المعارضة” السياسية السورية، بعد هذه العشرية من الثورة العظيمة، وما يقاربها من سنوات على انبثاق أولى مؤسّساتها الرسميّة، عاجزةً عن إجراء إصلاح حقيقي لبنيتها بقرارٍ ذاتي مستقل، كما تبدو حريصة على الاستجابة للمصالح والأنتينات الدوليّة أكثر من حرصها على الاستماع والاستجابة لمصالح الأحرار والغلابة من جموع الوطنيين السوريين، وبالتّالي فإن مؤسسات المعارضة هذه أصبحت بحدِ ذاتِها أحدَ أهم العوامل السلبيّة التي تؤثّر على استقلاليّة القرار الوطني السوري؛ ألم يكن ذلك لعدم ديمقراطيتها وتمثيلها للشعب الحر والثائر بطلائعه السياسية الحقيقية غير المزيفة كما جرى؟ فكيف يمكن لمثل هؤلاء رسم مستقبل وطن ديمقراطي حديث بالوقت الذي يفتقدون فيه لمثل هذه الصفات؟ أليس لأن جلهم كان ومازال ممن يدغدغه المال المشبوه الممول خليجياً فضلاً عن الدول الأوربية وباقي الطُغم الموجهة أميركياً؟
إن ذلك أدى في الواقع ليس إلى أزمة في بُنيتها المثلومة أصلاً، وتراجع حضورها الخادع على مستوى التمثيل فحسب، بل حتى إلى تعزيزِ الانقسام والشرخ الداخلي ومن ثم التنافس غير الوطني وغير المبرر على المهام الوظيفية الكاذبة أصلاً، ومقاومة أي تغيير يأتي مع أية مبادرة تهدف إلى إعادة التوازن لموقع المعارضة الجادة سياسياً ووظيفياً، في آن، لأهم ثورة واجهت أعتى الطغم المجرمة الطائفية الحاقدة على شعبها ومستقبل وطنه.
في الواقع، لقد أدت العثرات المستمرة، ذاتيةً وموضوعية، مجتمعةً وفُرادى، إلى إخفاق المعارضة السورية السياسية من كسب اعتراف قانوني من قبل مجتمع دولي غير راغب أصلاً بتصليب بنية المعارضة لتكون وطنية حقيقة ذات تمثيل ديمقراطي، لأن ذلك يعرقل ويعيق مصالحهم، باستمرار القتل وتوظيف الانتهاكات والجرائم لصالح الراعي الأول لإدارة الأزمة، وهي نفس الجهة التي لا تتقن غير إدارة الأزمات دولياً. وخير مثالٍ على ذلك’’ الائتلاف الوطني‘ ‘ولملماته المتنوعة غير المطابقة إلا لمصالح رعاة نفس الطغمة الطائفية الفئوية المتحكمة بمقاليد الأمور والجرائم في دمشق المنكوبة بها وباقي الاحتلالات المرافقة.
فهل كان نظام الجريمة الفئوي ممثــلاً للأكثرية العربية وللهوية الوطنية السورية بشكل ديمقراطي فضلاً عن احترام الدستور المزعوم وضرورات الدولة الوطنية الحديثة؟ ومن جانب آخر؛ هل كان’’ الائتلاف الوطني‘‘انعكاسًا حقيقيًا لأهداف الثورة والثوار الأوائل وجُماع الشعب السوري، أم أن العكس هو الصحيح، والذي كان تحايلاً على الشعب الثائر وادعاء تمثُل وحمّل أهدافه، كل ذلك برعاية المايسترو ’’روبرت فورد‘‘ السفير الأميركي بدمشق وباقي إدارات المشروع التصفوي لقضية شعبنا وطموح أمتنا؟ ولا يخفى علينا كل التحضيرات والمؤتمرات التآمرية وصولاً لهذا الشكل الهجين المُشوه؟
إن خسارة الهوية العربية والدولة معاً في سورية، ستكون باستمرار مجافاة التاريخ والقفز فوق حقائقه، مما سيؤدي لدفع ضرائب مضاعفة لا ترضي إلا أصحاب المصالح والنفوذ وتضر بشعبنا السوري أكثر وتؤخر الوصول المشترك وطنياً وشعبياً لعقد اجتماعي ومؤسسة سياسية تمثل الشعب السوري وتكون مغايرة لما كان سائداً طيلة الفترة السابقة.
كما وإن الاستمرار في التعاطي دون مسؤولية مع الواقع سيؤدي بالضرورة لخسارة السقوف الذي تطالب به ضرورات الثورة والعملية السياسية ككل، خاصة في ظل غياب تام لاستقلالية القرار السوري كله مع غياب المساعي لإعادة تعريف دور المعارضة السياسية وطنياً وديمقراطياً، فـلا معنى للديمقراطية بغياب الدور الأكثري للشعب ومشكلة الأقليات في الأصل هي في غياب الدور السياسي الأكثري الوطني والفاعل.
هكذا يمكن ضخ الدماء من جديد في عروق أبناء شعبنا السوري وإعطاء مضمون للشكل الوطني الديمقراطي المزمع بناءه على حقوق الإنسان واحترام حق تقرير مصير الأقليات ضمن احترام الدستور الناظم المنبثق من هيئة وطنية منتخبة ديمقراطياً تؤسس لعقد اجتماعي جديد تحت سقف سورية المعروفة بحدودها دون أي انتقاص منها ولجميع أبنائها ممن يحمل الهوية الوطنية ومن في حكمه قبل 2011. وهكذا ستنتعش أيضاً الهوية الوطنية العربية السورية حين ينتفي التغول من الأكثرية على الأقليات ضمن الضوابط الوطنية والاحترام المتبادل للجميع فيما بينهم على أرضية الحياة الإنسانية المشتركة.
المصدر: اشراق