ورد فراتي
فتح مقتل الشيخ مطشر الهفل، أحد وجهاء قبيلة “العكيدات” في منطقة الجزيرة والفرات مطلع شهر آب/اغسطس الجاري، الباب مجدداً للحديث عن دور العشائر على الساحة السورية، حيث تعتبر “العكيدات” أحد أهم العشائر وأكبرها.
ومنذ سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، مدعومة من قوات التحالف الدولي على أجزاء واسعة من محافظة ديرالزور أواخر العام 2017، والمنطقة تشهد تغيراً ملحوظاً في دور العكيدات، العشيرة التي انتقلت من كونها مجرد انتماء صوري خلال العقود الماضية، إلى مؤسسة مجتمعية تتمتع ببنية أولية تضم قيادة تتشكل من وجهائها ومشيختها التقليدية.
وقد شكلت مساعي الشيخ “جميل رشيد الهفل” (الستيني) للمنافسة على مشيخة العشيرة، العامل الأبرز في تنظيم دورها الحركي مؤخراً، حيث عمل من مضافته في قرية مويلح التابعة لناحية الصور على تشكيل بنية تمثيلية يتزعمها هو، مستثمراً ومستجيباً لحركة الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة بدايات عام 2019، والتي تعاملت معها قوات “قسد” بحملة اعتقالات، استضاف على إثرها اجتماعاً لوجهاء العشيرة في مضافته في نيسان/أبريل من العام نفسه، طالبوا فيه بالإفراج السريع عن المعتقلين، مهددين بسحب أبناء العشائر المنضمين إلى قوات “قسد” في حال عدم الاستجابة.
توالت بعدها الاجتماعات التي نظمها “جميل الهفل” لحشد العشيرة عند كل حدث أو تطور تشهده منطقة الجزيرة، حتى وصلت هذه المساعي ذروتها في تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سحب قوات بلاده من سوريا، واجتماعات “قسد” آنذاك مع القوات الروسية كبديل محتمل للوصاية على المنطقة في حال انسحاب الولايات المتحدة، حيث عقد جميل الهفل اجتماعاً في مضافته لعدد من وجهاء العكيدات، لمناقشة التطورات التي تحدث في المنطقة، واتخاذ موقف موحد تجاهها.
كان هذا الاجتماع نقطة فارقة في الحراك العشائري في المنطقة، فقد كانت المرة الأولى التي تبرز فيها مسميات كهذه، مؤذنة بتشكل ملامح بنى تنظيمية داخل العشيرة، تمكنها من حراك سياسي أكثر فعالية.
والحقيقة أن حراك جميل الهفل كان تحدياً للمشيخة الرسمية للعشيرة التي آلت إلى الشيخ الشاب مصعب خليل عبود جدعان الهفل الذي يقطن في قطر بعد وفاة والده عام 2016، من دون أن يصرح جميل الهفل بموقفه من تنصيب مصعب شيخاً للعشيرة، والذي يبدو أنه لم يكن موافقاً عليه، حيث كان يرى نفسه أحقّ منه بزعامة العشيرة.
كما كان مصعب قد بدأ يتوجس خيفة من الدور المتنامي لجميل الهفل، لذلك وبعد استضافة الأخير وجهاء العشائر للمطالبة بالمعتقلين؛ عيّن مصعب الهفل أخاه ابراهيم، الذي يقيم في بلدة ذيبان، شيخاً بالإنابة عنه، ونفى في تسجيل مصور أن يكون لشيخ العشيرة ممثل آخر غيره.
تزايدت منذ بدايات العام 2019 انتهاكات قوات “قسد” بحق المجتمعات المحلية في ريف ديرالزور على الضفة اليسرى لنهر الفرات، بحجج عدة أبرزها ضرب خلايا تنظيم “داعش”، وتزايدت معها احتجاجات أبناء المنطقة، وهو ما دفع قوات التحالف للاهتمام بالقيادات المجتمعية التي برزت في هذه الاحتجاجات، متمثلة بشيوخ العشائر ووجهائها، لتعقد عدداً من الاجتماعات التنسيقية معهم استجابة لمطالبهم.
أبرز هذه الاجتماعات ذلك الذي استضافه حقل العمر النفطي أواسط العام 2019، إثر بيان أصدره وجهاء العكيدات رداً على مجزرة ارتكبتها “قسد” والتحالف في قرية الشحيل، حيث اجتمع وفد أميركي ضم المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري ومسؤولين دبلوماسيين وعسكريين أميركيين مع مسؤولَي الإدارة المدنية المشتركة في ديرالزور، ومع ممثلين عن عشائر البكارة وجميل الهفل عن عشيرة العكيدات.
هذا الاهتمام المتزايد بدور جميل الهفل لم يكن يشكل قلقاً بالنسبة للمشيخة الرسمية لعشيرة العكيدات فقط، بل ولقوات “قسد” التي دفعت عدداً من وجهاء عشيرة العكيدات في الحسكة لإصدار بيان في كانون الأول/ديسمبر عام 2019، يعلنون فيه تأييدهم لقوات “قسد”، رداً على تحركات جميل الهفل، إلا أن هذا البيان لم يغير شيئاً من واقع الحال.
شيئاً فشيئاً كان دور “جميل الهفل” في المنطقة كشيخ للعشيرة يطغى على دور مصعب الهفل وأخيه إبراهيم، ليس شعبياً فقط، بل ومن ناحية اهتمام قوات التحالف بالوجهاء العشائريين، حتى جاءت حادثة اغتيال الشيخ مطشر الهفل في 2 آب، والذي يُعتبر من وجهاء مضافة ذيبان وبيت المشيخة الرسمي، حيث أصيب في الحادثة نفسها نائب شيخ العشيرة إبراهيم الهفل، لتشتعل المنطقة باحتجاجات واسعة وصلت حد التهديد بحرب مفتوحة ضد “قسد”، التي اتهمها أبناء العشيرة بالوقوف وراء الحادثة.
ردّت الأخيرة بحصار بلدات ذيبان والشحيل والحوايج وقرى أخرى، مع فرض حظر تجوّل فيها، وليأتي بيان عشيرة العكيدات رداً على هذه الحادثة وما تلاها، مطالباً قوات التحالف بفحوى البيانات السابقة التي كان يتلوها جميل الهفل، المتمثلة بتسليم إدارة المنطقة لأصحابها، على أن يأخذ المكون العربي دوره الكامل، بعيدًا عن أي وصاية أو نفوذ.
لم يحضر جميل الهفل الاجتماع الذي صدر عنه بيان العشيرة في بلدة ذيبان، لكنه قام بإصدار توضيح أكد فيه تأييده ما جاء في البيان، وعزا عدم قدرته على التواجد في الاجتماع إلى سوء الأوضاع الأمنية.
لا يبدو أن الأيام القادمة ستحمل أي جديد في ما يخص حالة التنافس على مشيخة العكيدات بين المضافتين، لكنها وبكل تأكيد ستشهد تنامي دور المشيخة الرسمية خاصة مع حالة التجاوب الشعبية مع بيانها الأخير، بينما يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان هذا الحراك مقدمة لعودة العشيرة إلى الفاعلية الاجتماعية والسياسية في سوريا.
المصدر: المدن