لعل نظرة استقرائية على أوضاع محافظة إدلب، وتحري المشهد العام في المحافظة وما حولها، يشير إلى أهمية وواقعية التخوف لدى أهلنا في إدلب وريف حلب الذي يزداد اضطرادًا، مع كل تصريح روسي أو آخر من قبل النظام السوري، عن احتمالات الهجوم والعدوان على ما تبقى من مناطق خارج سيطرة النظام، وقد بات وشيكًا، ضمن أجواء متتابعة عبر خروقات يومية لهدنة 5 آذار/ مارس2020 الفائتة.
في ظل ذلك وضمن هذه الأجواء، يترقب الأهالي في إدلب وريفها ما تخبئه الأيام المقبلة، وسط تخوف جدي من عودة المعارك والعدوان الذي سبق وشهدته المنطقة في أشهر خلت من هذا العام والعام الذي سبقه، ويلف الغموض بشكل أكثر تحديدًا مصير المنطقة، الواقعة جنوب “M4″ خاصة وأن ملامح معركة مقبلة بدأت تتشكل، نتيجة زيادة الخروقات من قبل قوات النظام والطيران الروسي، خلال الأيام الماضية. في سياق منعكسات تفشي فيروس “كورونا”، وحالة الهلع التي باتت تنتاب السوريين في كل مكان من الجغرافيا السورية.
لا يبدو أن الأمور في إدلب ذاهبة نحو التهدئة، فما تشهده مناطق إدلب وما حولها مؤخرًا، تشير إلى أن هناك توجهات روسية وإيرانية وأسدية نحو التصعيد، وإن لم تكن حربًا مفتوحة كما حصل في السنة الفائتة، إلا أنه (على الأقل) استمرار لضغط روسي متواصل من أجل إنجاز توافقات أفضل في الحالة الليبية والملف الليبي، الذي يشهد حراكًا عسكريًا تركيًا، مزعجًا للاتحاد الروسي وسياسات ومصالح بوتين في الأراضي الليبية، هذه السياسة التي تدعم حفتر بكل وضوح، حتى لو تم الإعلان عن وقف لإطلاق النار هناك بالأمس.
تمارس روسيا المزيد من الضغط اليوم ليس على المعارضة السورية المسلحة في إدلب بل أيضًا على من يقف معها ويدعمها من قوات مسلحة تركية فاق عديدها في إدلب عتبة 25 ألفًا من العسكر المدججين بأحدث أنواع الأسلحة، القادرة على تغيير موازين القوى.
وليس مستغربًا على الإطلاق أن تبدأ روسيا ومعها النظام الأسدي المجرم عملًا عسكريًا أوسع فيما إذا لم يتوصل الاجتماع المرتقب الروسي التركي القادم إلى أي تغيرات أو توافقات أو تفاهمات على ما يجري في ليبيا أولاً، وكذلك بما يخص أوضاع شمال شرق سورية المختلف فيها وعليها بينهما.
الدولة التركية وهي تساهم يوميًا في زيادة عدد ونوعية جيشها في الشمال السوري، إنما ترسل رسائل مباشرة، في أنها من الممكن أن تلقن النظام السوري دروسًا أشد فيما لو أقدم على اجتياح جديد للمنطقة، وقد تكون أعنف من سابقاتها، أي قبل توقيع اتفاق وبروتوكول 5 آذار / مارس 2020الفائت.
ومع ذلك فيبدو أن اتفاق 5 آذار/مارس مازال يحمل إمكانية الحيات لفترة زمنية أطول نسبيًا، ومن الصعب تقويضه بشكل نهائي، باعتبار أن المصلحة الروسية مع الدولة التركية ما برحت تواكب الاستراتيجية وليس التكتيك، ولن تقامر روسيا بالعلاقة مع الترك، من أجل عيون بشار الأسد، ولا حتى تطلعات الإيرانيين ومشروعهم الفارسي الطائفي للمنطقة، وهم الذين يمارسون سياسة التنافس البراغماتي مع الروس في غير مكان من الجغرافيا السورية.
الأتراك بالرغم من كل ذلك مازالوا يصرون على زيادة ودعم قواتهم داخل محافظة إدلب، حيث
ارتفع عدد الشاحنات والآليات العسكرية التركية التي دخلت إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب خلال الفترة الممتدة من مطلع فبراير (شباط) 2020 وحتى الآن، إلى أكثر من 9160 شاحنة وآلية عسكرية تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات و«كبائن حراسة» متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، في حين بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب خلال تلك الفترة فقط أكثر من 12 ألفاً و500 جندي.
أما الروس فهم أيضًا أشد حرصًا وبالمقابل والتوازي مع الدعم الروسي للنظام الذي أعاد قيامته منذ التدخل الاحتلالي لسورية في 29 أيلول/ سبتمبر 2015، فإن روسيا تحصل كل يوم على أراضي جديدة في سورية، وقد وقعت مؤخرًا اتفاقًا جديدًا، ويتعلق الاتفاق، الذي أنجزه ممثلون من روسيا والنظام السوري في 21 تموز/يوليو وأصبح ساريًا في 30 تموز/يوليو، بمنطقة برية وبحرية قرب محافظة اللاذقية شمالي سورية، حيث توجد قاعدة حميميم الجوية التي تخضع لسيطرة روسيا. وتقول وثيقة التوقيع إن الأراضي ستُستخدم في إقامة “مركز علاج طبي وإعادة تأهيل” لطاقم القوات الجوية الروسية. وأضافت أن الأراضي، التي تبلغ مساحتها ثماني هكتارات في البر ومثلها في المياه الإقليمية، ستُمنح لروسيا بصفة مؤقتة وبدون تكلفة.
كما أعطيت إيران حصصًا من هذه التوسعات في التساوق مع ذلك، إذ بدأت إيران بتوسيع وترسيخ وجودها في العاصمة دمشق ومحيطها، متخذة من الجانب الديني ذريعة وغطاءً لهذا الوجود، الذي يستهدف تشويه وتمييع هوية سورية وديمغرافيتها بشكل عام ودمشق على وجه التخصيص. وفي هذا الصدد، أعلنت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية عن مشروع توسعة مقام يُعتقد أنه يخص “السيدة زينب”، وضعت طهران يدها عليه بشكل جزئي بعد توريث السلطة لبشار الأسد في العام 2000، وبعد بدء الثورة السورية أواسط آذار/ مارس 2011 تحول إلى منطقة نفوذ لمليشيات إيرانية طائفية بلا منازع. وبحسب الوكالة الإيرانية، فإن مشروع التوسعة الذي تقوم به ما تسمى “لجنة إعمار العتبات المقدسة”، يجري في الجزء الشمالي ومنتصف الجانبين الشرقي والغربي من المقام، مشيرة إلى أنه تم الانتهاء من حفر الصحن، وتسقيف المنطقة المجاورة للضريح.
وبالعودة إلى مستقبل وضع إدلب، فإن كل الاحتمالات واردة، لكن الاحتمال الأكثر رجحانًا، هو البدء بحرب همجية جديدة سيحاول عبرها النظام الأسدي ومن معه من روس وايرانيين ومليشيات طائفية تحقيق ما يصبون إليه، عبر قضم ما يستطيعون من الأراضي السورية التي مازالت خارج سيطرتهم، لكن مصائر أهلنا في إدلب تبقى الأهم في جو سياسي دولي باتت سمته الواضحة هي التخلي عن الشعب السوري، والالتفات فقط إلى أنجاز أمن مستتب ودائم لإسرائيل، وليس أدل على ذلك ما جرى مؤخرًا من اتفاق تطبيعي بائس بين دولة الأمارات العربية المتحدة، والكيان الصهيوني، وسط صمت عربي ودولي وإقليمي مريب وغريب.
المصدر: ملتقى العروبيين