اليوم، وأنا أتابع المأساة التي تعيشها الغوطة الشرقية خصوصاً وإدلب عموماً تماماً كما المأساة التي حدثت لحلب، قبل عام مضى، بسبب التقدم الذي حققته المليشيات الإيرانية مختلفة المسميات، مدعومة بأعنف قصف من الطيران الروسي وتسبب بنزوح الآلاف المؤلفة من مدنيين هلعين جائعين، وكثير منهم معوقون، إلى جهات أخرى من المدينة، الصورة نفسها بل بكامل وحشيتها تتكرر اليوم، رغم الصمود المشرف لأبطال الغوطة مدنيين وعسكريين، ما يبدو لي بالوضوح كلِّه أنَّ الحكام الروس وحدهم من بين حكام الأرض جميعاً، لا يلتفتون إلى تاريخهم، ولا يستفيدون من تجاربهم، إن هم التفتوا إليها، أو أنَّ تاريخهم، في الأصل، مطابق تماماً لسيكولوجيا حكامهم الذين يحملون في نفوسهم عظمة القياصرة القائمة على سفك دماء الشعوب، رغم أنهم من أطلق، في مرحلة ما، من ذلك التاريخ الحديث شعار: “حق الشعوب في تقرير مصيرها..” ولكنَّ روسيا اليوم تتحول إلى دولة استعمارية عارية من أية ستار سواء كان إيديولوجياً أم غيره، فهي وحدها، إضافة إلى الاستبداد والتطرف الديني، يحملون وزر ما جرى ويجري في سورية.. ولكنها سياسة الاستبداد التي لا تستطيع أن تحمل أية ذرة من الأخلاق أو القيم الإنسانية، خلال دفاعها عن مصالحها..! لكنَّ الأخلاق المفقودة في هذه الحالة تعرف كيف تنتقم لنفسها..
ومن هذه النقطة بالذات سأعود إلى تاريخ روسيا الحديث. مستنيراً في رؤية مستقبل سورية.. فها هي ذي روسيا (الاتحاد السوفييتي السابق)، قد أدخلت قواتها السوفيتية إلى بلدان أوربا الشرقية، و”حررتها” من نير النازية، وأرست دعائم النظام الاشتراكي، بالاستناد إلى الأحزاب الشيوعية، والاشتراكية الأخرى هناك، وقدمت لشعوب تلك البلدان ما قدمته من “مساعدات”، إلا أن لعنة الأجنبي الدخيل، ونفوذه، وحساسيته المفرطة في ذاكرة شعوب تلك البلاد ظلت تلاحقهم، مذكرة إياهم بانتقاص حريتهم الإنسانية وكرامتهم الوطنية.. وظل التحرر الكامل مطلباً رئيساً لتلك الشعوب.. فلا أحد ينسى، على سبيل المثال الثورة المجرية عام 1956 التي عرفت بـ: “الانتفاضة المجرية” وقد حدثت بعيد وفاة ستالين، ومجيء خروتشوف، وقد سحقها الروس بالدبابات ونكلوا بقادتها، إذ أُعْدِمَ زعيمها العمالي “إيمري ناج” بتهمة الخيانة العظمى بعد أن أعطي الأمان (كان قد لجأ إلى السفارة اليوغسلافية). وكل جريمته، وهو الشيوعي في دولة شيوعية، أنْ طالب بمباشرة العمال لحقوقهم! كما تنص الماركسية. ومِثْلُ هذا الأمر فعله الروس في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 حين وصل “ألكسندر دوبتشك” إلى أمانة الحزب العامة، ورئاسة البلاد، وأعلن عن برنامجه الإصلاحي الذي عرف، حينذاك، بـ: “ربيع براغ” إذ حاول الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي خلال تلك الفترة أن ينهج نهجاً إصلاحياً، هو أقرب إلى الديمقراطية، أطلق عليه تسمية: “الاشتراكية ذات الوجه الإنساني”. ورغم أنَّ دوبتشيك بدأ إصلاحاته، بعد زيارة قام بها إلى موسكو.. فأعلن قدراً من حرية التعبير والصحافة في البلاد، وطرح برنامجاً جديداً هو «الطريق التشيكوسلوفاكي إلى الاشتراكية»، وأعلن أنَّ الحزب ليس وصياً على المجتمع، ووعد بالحد من سلطة الأجهزة الأمنية، كما تضمن البرنامج حقوق السفر إلى الخارج. إلا أنَّ هذا البرنامج الإصلاحي لم ترض عنه موسكو، فشنت حملة دعائية ضده، لكنَّ دوبتشيك استمر في تطبيق سياسات الحزب الجديدة وبرامجه، عندئذ تحركت القوات السوفييتية في 20 أغسطس 1968 تساندها وحدات عسكرية من بلغاريا والمجر وبولندا وألمانيا الشرقية، أي قوات: “حلف وارسو”، وتمكنت بسرعة مذهلة من السيطرة على براغ، واعتقلت دوبتشيك وبعض مؤيديه، وألغت الإصلاحات في البلاد، وأجبر دوبتشيك على السفر إلى موسكو في أكتوبر 1968 للتوقيع على اتفاق مع القيادة السوفيتية، وبعد زمن قصير اضطر دوبتشيك إلى الاستقالة في مارس 1969 ليخلفه الزعيم السلوفاكي غوستاف هوساك، ولتعود البيروقراطية إلى سابق عهدها. ولكن ما إن جرى أول اهتزاز للاتحاد السوفييتي، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، حتى كانت تلك البلدان في أوائل المنتفضين على أنظمتهم، ليعاد الاعتبار إلى دوبتشك ورفاقه..!
لن آتي بشواهد أكثر فهي كثيرة، لكنني أذكِّر فقط بحدث أفغانستان عام 1979 إذ هو سبب أخير ومباشر في سقوط الاتحاد السوفييتي الذي تورَّط فيه. يذكر أنَّ وزير خارجية أمريكا “سايرس فانس” قد أيقظ رئيس بلاده “جيمي كارتر” في الثالثة صباحاً، متجاوزاً الأطر الدبلوماسية المعمول بها في أمريكا، كي لا يؤخر عنه النبأ السار، وربما ليحظى منه ببشارة دخول السوفييت إلى أفغانستان الذي كانوا يترقبون حدوثه، ويرجونه..!
أتيت بهذه الأمثلة، وعيني على إدلب والغوطة اليومِ، بل وعلى سورية كلها، لأشير إلى أمر واحد تجاهله الروس تاريخياً، ولم يزالوا يتجاهلونه، هذا الأمر هو أنَّ القوة العسكرية ليست وحدها، بل ليست هي دائماً ما يحدد مسار التاريخ، وبخاصة حين لا تكون هذه القوة على أيِّ وجه من وجوه الحق..! فما يطلبه الشعب السوري هو نفسه ما طلبته شعوب أوروبا الشرقية، بل هو نفسه ما طلبه الشعب الروسي الذي لم يستطع ثمانية عشر مليون شيوعي وشباب ديمقراطي، أن يقفوا في وجهه، والدولة كلها في أيديهم، وهنا يكمن جوهر المسألة السورية! فليست هي مسألة إرهاب ومسلحين، فهذه كلها هوامش نبتت على رصيف شعار الحرية الذي رفعه الشباب السوريون في أنحاء البلاد السورية سلمياً.. ولم يكن ذلك الشعار قد جاء من ترف، أو من حقد، بل من حاجة ماسة لانطلاقة سورية نحو نموها وارتقائها بعد أن أكلها الفساد والقمع والتخلُّف ونهب المال العام.. لكن عنجهية الاستبداد التي تنظر إلى ما تحكمه على أنه ملكية خاصة، لم تستجب لإرادة الشعب السوري، بل اختارت مجابهته بحلولها الأمنية، ففاقمت ما كان قائماً مضيفة إليه القتل، والتدمير، ومستعينة بوحوش العالم، لتعمق ما كان في نفوس أبناء الشعب السوري.. وإذا كان السلاح البغيض القادم من هنا وهناك قد وضع الشعب السوري في دائرة العجز الكلي، فإنه لن يكون كذلك في المستقبل، إذ لا بد لهذه الحرب المجنونة أن تنتهي على نحو ما.. ولكن، ومهما كان الوجه الذي ستسفر عنه النتائج، فلن يكون مصير الروس ولا الإيرانيين أو المعتدين الآخرين على سورية وشعبها بأفضل من حال السوفييت وامتداداته سابقاً! سواء اتعظ الروس أم لم يتعظوا.. فالأجنبي مرفوض بكل المعايير، فكيف إذا كان وجوده مترافقاً بالقتل والتدمير والتهجير؟! وإذا كان الروس يصرون على بقاء النظام مع بعض الترقيعات، كما هي محاولة سوتشي حماية لأنفسهم ومصالحهم، فإنهم والنظام، بكل تأكيد، زائلون ويستحيل أن يبقى من هو مسؤول عما جرى في سورية! ومن دفَّع الشعب السوري فواتير باهظة جداً.. إنه منطق التاريخ، منطق الحياة والإنسان.
المصدر: موقع (تطورات جنيف)