عبد الرحمن حللي
مهلًا، ليس الحديث عن الثورة السورية ضد الاستبداد، والتي بدأت مع الربيع العربي، فهذه لا تكفيها صحائف، بل هي في حاجةٍ إلى مجلداتٍ تروي السواد الذي لم يفارقها. الحديث إذًا عن ثورة أخرى ضد الاستعمار الفرنسي، ترجع أحداثها إلى نحو قرن، وما أشبه الأمس باليوم والتاريخ بالحاضر. ثوار ومجاهدون على الأرض، أحزاب تتنازع فيما بينها وتتفاوض باسم الثوار، نُخب وجبهات سياسية تتحالف مع بعضها حينًا وتنشقّ عن بعضها حينًا آخر، عواصم كبرى يتنقل بينها أصحاب الرأي والقرار، تُهم يتبادلونها، أموال يتنازعون على من يستأثر بقرار صرفها، إلى غير ذلك من ظواهر يراها السوريون ويعيشونها بشكل أوسع في حاضرهم، كان لها نظائر أقلّ في تاريخ ثورتهم الأولى التي لم تكن مساحتها سورية فقط، بل كانت أمورها متشابكةً بين لبنان وفلسطين، وصولًا إلى القاهرة، صدر هذا الكتاب في طبعته الثانية عام 1928، بعنوان “الصحائف السوداء في تاريخ الثورة السورية المجيد”، مشتملًا، كما ذكر في صفحة الغلاف، على: النشرات الخمس الأولى التي أصدرها حزب الشعب السوري عن عوامل الخلاف الناشب بين الهيئات السورية بمصر، موصوفة بأنها “وثائق تاريخية خطيرة تكشف الستار عن العبث برغائب الشعب والإستهزاء بأمانية المقدسة – ذكريات محضة للأبناء والأحفاد”، وحقائق ووثائق “تزيح النقاب عما اقترفه أدعياء الاستقلال الكاذب من الجرائم والموبقات تحت ستار الوطنية الفارغة”. وهي معلومات تعكس رؤية حزب الشعب السوري الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر (1879 – 1940) عام 1924.
لا يهدف المقال إلى استعادة الأحداث، فهي موضوع خلافي يحتاج إلى بحث تاريخي، سيما وأن الكتاب يعكس وجهة نظر حزب سياسي كان فاعلًا في الثورة السورية حينها، لكن ما يود تسليط الضوء عليه هو ما يشتمل عليه الكتاب من ملاحظات وأسلوب في الخطاب في وصف الأحداث، وكيفية التعاطي بين الجهات المختلفة حينها، بحيث لو جرّدنا تلك العبارات (سأحرص على نقلها حرفيًا) من تاريخها، لما شعرنا أنا نقرأ كتابًا مضى عليه نحو قرن، وكأن الزمان قد توقف، أو أن التاريخ يعيد نفسه، وأن الدرس لم يستوعب بعد.
نقرأ في الكتاب حديثًا عن رسائل كيد القيادات ووشايتها ضد بعضها، واتهامات بالعمالة لفرنسا أو بريطانيا، واتهامات أخرى بالحضور حيث يوجد المال أو التفاوض، وتغير المواقف تبعًا لذلك، فثمّة قيادات تسطو على المعونات باسم مهام سياسية “.. وقد وضع كل واحد منهم ثلاثمائة وخمسين جنيهًا في جيبه من أموال المنكوبين لأجل هذه السَفْرة المباركة..”، “.. وقد حاولوا أن يستروا خبر الآلاف الخمسة من الجنيهات التي قبضوها من ابن سعود، والآلاف الخمسة التي جاءتهم من العراق .. والآلاف المؤلفة التي جاءتهم من أهالي فلسطين ومن بعض الأجانب ومن الهند، عدا عما تسرّب إليهم من إعانات الولايات المتحدة وجميع الأقطار الأمريكية”. وتتكرّر في الكتاب عباراتٌ تدلّ على انقسام بين النخب السياسية والثوار على الأرض، “وقد ثارت ضجّة المجاهدين في فلسطين في غضون ذلك، بسبب تصرّف الاستقلاليين في الأموال على طريقتهم المعهودة أولًا، ولكتابتهم في جرائدهم المأجورة عن هؤلاء المجاهدين أنهم رعاع ثانيًا”. وتتابع فقرات أخرى تقريع المتسلقين على الثورة “ولا بد أن يتساءل القارئ: من هم هؤلاء الذين استثمروا هذه الثورة، وما هي سيرتهم الماضية منذ الانقلاب العثماني إلى اليوم؟ وما هي المساعي الوطنية التي بذلوها في سبيل إنجاح القضية؟ ومن الذي لبى دعوتها، أو الذي دخل في تأسيسها منهم؟ ومن الذي ضحّى في سبيل إعدادها حتى أصيب بما أصيب؟ وهل هذه أول ثورةٍ أضرمت في البلاد أم سبقها غيرها؟ فهل كان للمنشقّين يد في تلك الثورات؟”. وتضيف عبارة أخرى تصف بعض النخب السياسية “وعهد علينا جميعًا أن نقاوم كل إنسانٍ نرى في طموحه الشخصي ومصالحه الذاتية ضررًا بالمبادئ الحرّة التي جاهدنا ونجاهد من أجلها، لا على موائد المُدام وفي مقاهي القاهرة وفنادق فلسطين ومضايف الحجاز، بل في ساحات المجد والشرف خصوصًا متى تسترت هذه المطامح بستار الوطنية الجذاب. بيد أن المطامح لا تقتصر على طلب الإمارات وحدها، بل هناك مطامح خسيسة لابتزاز الأموال والإستئثار بالإعانات وهضم الحقوق وطلب الزعامات الفارغة على غير استحقاق، وهذه المطامح، ومتى دخلت في الأعمال أفضت إلى التحاسد والتنابذ وزرع الشقاق والمفاسد”. وتقارن فقرة أخرى حال السياسيين مع حال الثوار “المجاهدون يبيتون على الطوى والمستأثرون يتخمون بالرفاهية، الثوار يعرضون صدورهم للنار والدخلاء يولون أدبارهم للفرار، أحرار البلاد يسفكون دماءهم والمتحزبون يملأون جيوبهم، النيران تلتهم المدائن والقرى والمستفرصون يؤلفون الحكومات ويعينون الرواتب !!: هذا كان حالنا مع هذه الفئة التي يتعذر على الجيل الحاضر، وهو شديد القرب من آثارها، تقدير الويلات التي جرَّتها على البلاد والعباد”.
ويشير الكتاب إلى انشقاقات وتحولات سياسية، بعضها لأسباب مادية، كانشقاق الإستقلاليين عن لجنة القدس، بسبب إصرار المجاهدين على إخراج المال من حوزتهم. كما نجد في الكتاب إشارة إلى استغلال الطائفية، فتؤكد فقرة أن “الغاية الأساسية التي خرج معاليه [الشهبندر] إلى الثورة من أجلها هي جمع الكلمة وتوحيد الصفوف والضرب على أيدي كل من يشتغل بالطائفية مهما كان شأنه”، فيما تؤكّد أخرى على أهمية تمثيل الثورة في هيئة موحدة، “ولما كانت اللجنة هي الهيئة المنتظمة الوحيدة التي تتمثل فيها جميع الأحزاب الإستقلالية تمثيلًا صحيحًا، فمحاولة الإضرار بها أو إحباط أعمالها جريمة قد اجترحها دعاة الإستقلال الكاذب، وهي شاهد عدل على ضعف وطنيتهم، وتنفيذهم الخطط الأجنبية الإستعمارية”. ونجد، في مكان آخر، تساؤلًا عن تضييع الفُرَص في حال القوة، وطلبها في حال الضعف، “وما هي الأسباب الداعية إلى مقاومة الصلح في وقتٍ كانت الثورة فيه مرفوعة الرأس في كل مكان وسورية خالية من الجنود الفرنسية. وإلى طلب الصلح في وقتٍ كانت الثورة مهيضة الجناح في كل جهة، وسورية حافلة بالجنود الفرنسية في كل مكان على شروطٍ لا يمكن أن يقرّها وطني عادي”.
تحكي هذه المقتطفات حال السوريين في تاريخين وثورتين، الأحداث والمواقف والمشكلات والجهات الفاعلة متشابهة إلى حد كبير، لكن التاريخ لم يمض كما توقع عبد الرحمن الشهبندر الذي كتب “وستنسى سورية كل شيء، إلا الذين استثمروا دماء أبنائها البررة، واتخذوا من لهب الحرائق في المدن والقرى نارًا يتدفأون عليها ووقودًا يطبخون منه الطعام”، فمن كان يعنيهم، وسمّى منهم تحديدًا شكري القوتلي، أصبح لهم الذكر والسيادة والسلطة، وأصبحوا نموذجًا يتمنّاه السوريون. يؤكّد ما يشتمل عليه هذا الكتاب أن التاريخ السوري الحديث لا يزال مجهولًا إلى حد كبير، وهو بحاجةٍ إلى ثورة علمية، تنبش أرشيفه وتمحص أحداثه، لتعرف الأجيال ما غُيِّب عنها من معلومات، فالتاريخ صناعةٌ لم تعد حكرًا على المنتصرين بالضرورة، وإنْ كانوا الأقدر على تحريفه.
المصدر: العربي الجديد