في توقيت حساس له دلالاته ورسائله المحددة، اغتيل ظهر الجمعة، أبرز العقول النووية والدفاعية الإيرانية، العالم محسن فخري زادة، على أعتاب الذكرى الأولى لاغتيال واشنطن أبرز جنرالات إيران قاسم سليماني قائد “فيلق القدس”، في ضربة جوية بالقرب من مطار بغداد الدولي يوم 3 يناير/كانون الثاني 2020. ويشير الاغتيالان إلى أن حرباً مستعرة، لا تقل أهمية عن المواجهة العسكرية المباشرة، تدور رحاها بين إيران و”أعدائها” تلامس جميع الملفات المثيرة للجدل، أي البرنامجين الصاروخي والنووي، إلى جانب الدور الإقليمي.
وعن تفاصيل عملية اغتيال فخري زادة، التي لم تتبنها أي جهة بعد، تشير وسائل الإعلام الإيرانية إلى أنه كان في طريق عودته من شمالي إيران إلى طهران، قبل أن يتعرض لعملية الاغتيال في منطقة “آبسرد” التابعة لمدينة “دماوند” في محافظة طهران، على بعد 45 كيلومتراً عن العاصمة الإيرانية طهران.
كان فخري زادة في طريق عودته من شمالي إيران إلى طهران، قبل أن يتعرض لعملية الاغتيال في منطقة “آبسرد” في محافظة طهران
وقال وزير الدفاع الإيراني، أمير حاتمي، للتلفزيون الإيراني، إن سيارة فخري زادة تعرضت لإطلاق النار أولاً، ثم انفجرت سيارة “بيكاب” التي كانت تحمل المتفجرات، ما أدى إلى إصابة فخري زادة وإثنين من مرافقيه بجروح، ونقلوا إلى المستشفى، لكن الجهود الطبية لم تفلح في إنقاذه، وفارق العالم الإيراني الحياة بسب شدة الإصابة.
وأضاف حاتمي أن اشتباكات وقعت بين مرافقي فخري زادة والمهاجمين، قبل تفجير سيارة “بيكاب” التي قال إنها كانت على بعد 15 إلى 20 متراً من سيارة العالم المستهدف. وأظهرت صور أن السيارة المفخخة قد انفجرت بالكامل، وعلى ما يبدو أنها كانت مركونة إلى جانب الطريق الذي مرت منه سيارة فخري زادة.
وتعقيباً على الحادث، توالت تصريحات إيرانية رسمية من مختلف المستويات السياسية والعسكرية، نددت بالاغتيال، وركزت على توجيه الاتهام للاحتلال الإسرائيلي بالضلوع في الحادث، وسط الوعيد والتهديد بـ”الثأر والانتقام الحتميين”، “في الوقت المناسب”.
من هو محسن فخري زادة؟
ثمّة شح في المعلومات عن حياة فخري زادة، لكن حسب رصد “العربي الجديد”، أنه كان يبلغ من العمر 59 عاماً، وهو أبرز العلماء الإيرانيين في الأبحاث النووية والدفاعية والصاروخية، مدرّس للفيزياء النووية في جامعة “الإمام الحسين” التابعة للحرس الثوري الإيراني، شرق طهران، فضلاً عن أنه كان نائباً لوزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي، ورئيس منظمة الأبحاث والإبداع التابعة للوزارة، بحسب تصريحات الوزير نفسه، غير أن مكانة فخري زادة العلمية كانت أكبر من الصفة الرسمية التي حملها فخري زادة كنائب لوزير الدفاع، إذ كانت تقارير استخباراتية غربية تعتبر أنه كان “مؤسس البرنامج النووي” و”مدير البرنامج النووي العسكري” الإيراني.
كان فخري زادة “مصدر خدمات كثيرة، تمكّن من الرقي بالقدرات الدفاعية إلى المستوى المقبول من الردع”، هكذا وصفه رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، الجنرال محمد باقري، معتبراً أن اغتياله وجه “ضربة كبيرة للمنظومة الدفاعية” الإيرانية، ليكشف باقري بهذه التصريحات عن الموقع والدور الكبيرين لفخري زادة في تطوير قدرات إيران.
بالإضافة إلى أنه كان العالم الإيراني الوحيد الذي ورد ذكر اسمه على لسان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في تصريحات بوزارة الحرب الإسرائيلية عن البرنامج النووي الإيراني، يوم 20 إبريل/نيسان 2018.
وتأكيداً على مكانة فخري زادة العملية المرموقة، أدرجته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية مع خمسة علماء إيرانيين كبار ضمن أقوى 50 شخصية عالمية، لعام 2013.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أدرج فخري زادة على قائمة العقوبات الأممية يوم 24 مارس/آذار 2007، باعتباره “كبير علماء” وزارة الدفاع الإيرانية ورئيس مركز بحوث الفيزياء (PHRC).
أهداف الاغتيال
جاءت عملية اغتيال أبرز العلماء الإيرانيين في توقيت حساس للغاية، وفي سياقات عدة، تحمل العملية أهداف ورسائل متعددة لأكثر من جهة. بالنسبة لتوقيت العملية، فإنه يأتي بعيد الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطي الأميركي جو بايدن، الذي أثار مخاوف لدى الإسرائيليين وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة حول احتمال أن ينتهج الرئيس الأميركي الجديد المسار الدبلوماسي مع طهران، وعليه، على الأغلب وجدت إسرائيل في الظروف الراهنة أفضل فرصة لتصفية العقل النووي الدفاعي الإيراني الأبرز، لتحقيق جملة أهداف في آن واحد، الأول، هو التأثير على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وإبطاء عجلة تقدمهما، إن لم يكن توقف هذه العجلة بعض الوقت بالنظر إلى موقع الرجل الكبير في هذه المجالات.
وفي السياق أيضاً، يمكن النظر إلى تكثيف إسرائيل عملياتها العسكرية في سورية، استغلالاً للفترة المتبقية لولاية الرئيس الأميركي الخاسر دونالد ترامب، لتسجيل نقاط كبيرة، فيما يرتبط بالحد من التواجد والنفوذ الإيرانيين في سورية على الجبهة الشمالية.
والهدف الثاني، هو السعي للإبقاء على التوترات بين إيران والغرب بشكل عام والولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص في عهد بايدن، بل وزيادتها بما يحول دون خفضها وتراجع “الضغوط القصوى” الأميركية التي بدأها ترامب كاستراتيجية شاملة في مواجهة إيران، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي يوم الثامن من أيار/مايو 2018.
والهدف الثالث، هو إرسال إسرائيل رسالة إلى إيران، مفادها أنها لن تتوانى في السعي لتعطيل البرنامج النووي الإيراني بعد الخطوات النووية الإيرانية على مدى العامين الأخيرين، رداً على تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، والتي بموجبها زادت من نسبة تخصيب اليورانيوم، وقامت بتركيب أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وزادت من إنتاجها اليورانيوم واحتياطاتها له 12 ضعفاً عن الحد المسموح به في الاتفاق، وفق أحدث تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، نشر في وقت سابق من الشهر الجاري.
وعليه، يريد الاحتلال الإسرائيلي القول لطهران باغتيال أبرز العلماء الإيرانيين، إنه جاد في تعطيل البرنامج النووي الإيراني، وأن استئناف الاغتيالات يأتي لتحقيق هذا الهدف.
وفي السياق أيضاً، يمكن قراءة “العملية التخريبية” التي استهدفت منشأة “نطنز” النووية، وهي الأهم في البلاد في تخصيب اليورانيوم، يوم الثاني من يوليو/تموز الماضي، حيث دمّرت صالة لتجميع أجهزة الطرد المركزي.
أما عن الرد الإيراني المحتمل، فقد أكد القادة الإيرانيون بعيد الاغتيال، أنه “آت” وسيكون “حازماً ومزلزلاً”، لكن “في الوقت المناسب” كما قال رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، في بيان النعي. وعليه، فإن طهران قد تتريث في الرد بعض الوقت، أقله حتى تنتهي ولاية عدوها اللدود دونالد ترامب، وسط توقعات لمراقبين أن الاحتلال الإسرائيلي ودول خليجية تسعى إلى استغلال الفترة المتبقية لولايته، لإشعال مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، ولذلك، قد يقرر صناع القرار الإيراني تأجيل الرد إلى ما بعد ترامب، تجنباً لأية مواجهة عسكرية في الوقت الراهن.
أبرز الاغتيالات النووية الإيرانية:
لم يكن فخري زادة العالم الإيراني الوحيد الذي يتعرض للاغتيال، ولا يبدو أنه سيكون الأخير، لكنه الأبرز بين العلماء النوويين الإيرانيين، وخامس الذين اغتيلوا، بعد بدء موجة عمليات اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين عام 2010 أثناء المفاوضات النووية التي كانت تخوضها إيران مع المجموعة الدولية، المؤدية إلى الاتفاق النووي المبرم مع طهران يوم 14 يوليو/تموز 2015. ووجهت إيران أصابع الاتهام للاحتلال الإسرائيلي، وأعلنت عن اعتقال جواسيس وعملاء وإعدام عناصر قالت إنهم كانوا مرتبطين بهذه الاغتيالات.
بدأت الاغتيالات مع العالم الإيراني مسعود علي محمدي، أستاذ الفيزياء بجامعة طهران، الذي اغتيل يوم 22 يناير/كانون الثاني 2010، أثناء خروجه من بيته عبر تفجير قنبلة عن بعد، شمالي طهران.
ثم مجيد شهرياري، أستاذ الفيزياء بجامعة “الشهيد بهشتي” في طهران، والذي اغتيل يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2010، بعدما ألصق راكب دراجة نارية قنبلة على سيارته في العاصمة طهران.
وتلاه داريوش رضائي نجاد، وهو عالم نووي اغتيل يوم 23 يوليو/تموز 2011، بخمس طلقات نارية أمام منزله في طهران. وكان رضائي نجاد طالب دكتوراه في الهندسة الكهربائية في جامعة “خواجة نصير الدين الطوسي” الصناعية.
وآخرهم مصطفى أحمدي روشن، أحد مدراء منشأة “نطنز”، أكبر المنشآت النووية الإيرانية، وأهمها في تخصيب اليورانيوم. وقد اغتيل يوم 11 يناير/كانون الثاني 2012، برفقة أحد موظفي هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، وذلك بعد خروجه من بيته، حيث قام راكب دراجة نارية بإلصاق قنبلة مغناطيسية بسيارته.
المصدر: العربي الجديد