عبد الوهاب بدرخان
أياً تكن المبررات، يتساوى المطبّعون وغير المطبّعين العرب مع إسرائيل في أنهم لا يفعلون ولا يستطيعون شيئاً للفلسطينيين وقضيتهم. التطبيع لم يثرْ انقساماً آخر بين العرب، لكنه يمنح الاسرائيليين “انتصاراً” آخر لا يستحقّونه على الشعب الفلسطيني.
احتفل دونالد ترامب بانضمام دولة عربية رابعة هي المغرب الى مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وفي جعبته دولة خامسة، فيما اعتبر الملك محمد السادس أن الإنجاز الحقيقي هو اعتراف الرئيس الأميركي بـ “سيادة كاملة للمغرب” على الصحراء. حقّق كلٌّ من الجانبين هدفه، بعد سلسلة طويلة من النقاش والاتفاقات التمهيدية قادها العاهل المغربي شخصياً وشارك فيها عدد من المسؤولين الاميركيين، الذين فهموا في نهاية المطاف أنهم إزاء وضع له خصوصية ينبغي التعامل معها.
لم يشرْ ترامب الى فلسطين وقضيتها في تغريداته ولا في الاتصال الهاتفي مع الملك، بل شدّد أولاً على ما يهمّ إسرائيل وثانياً على ما يهمّ المغرب. وبحسب بيان الديوان الملكي فإن محمد السادس أشاد ممتنّاً بالخطوة الأميركية في شأن “مغربية الصحراء”، وأكد “ثوابت” الموقف المغربي من القضية الفلسطينية، أما بالنسبة الى العلاقة مع إسرائيل فهي حاصلة واقعياً ويمكن تطويرها بشكل تدريجي من مكتب اتصال يعاد فتحه الى سفارة في الوقت المناسب.
جاءت المعادلة متوازنة بالنسبة الى الرباط: فالاعتراف الأميركي لم يقتصر على “مغربية الصحراء”، بما تمثّله تاريخياً وسيادياً وواقعياً، بل يُترجم عملياً بقنصلية واستثمارات أميركية في الصحراء، وبأسلحة متطوّرة، ودعم لاقتراح الحكم الذاتي كـ “أساس وحيد لحلٍّ عادل ودائم” لقضية الصحراء. أما المقابل المغربي فهو “استئناف” العلاقات مع إسرائيل استناداً الى تفاهم أتاح عام 1994 فتح مكتبَي الاتصال بين البلدين في سياق مناخ جديد ساد في 1993 بعد توقيع اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأُغلق المكتبان بعد انتفاضة العام 2000 وما تخللها من قمع إسرائيلي دموي. الجديد هو الرابط الجوي المباشر لنحو سبعين ألف يهودي يأتون سنوياً لمناسبات دينية أو عائلية في مسقطهم في المغرب، فضلاً عن تعاون اقتصادي وثقافي. ومع أن الرباط حرصت على تأكيد أن خطوتها نحو إسرائيل ليست “حدثاً” أو ليست “تطبيعاً” بالمعنى المتداول، إلا أن هذا لم يمنع ترامب وبنيامين نتانياهو من وضعها في إطار “انجازاتهما” التطبيعية.
هذه المعادلة أضفت واقعيةً على الرأي العام المغربي المؤيّد بلا جدال “مغربية الصحراء”، والمتعاطف تلقائياً مع القضية الفلسطينية. ثمة مصلحة وطنية تتحقّق في قضية كلّفت المغرب الكثير وحرمت مناطقه من موارد لتسخيرها في اثبات الحق المغربي والاستثمار في تنمية الصحراء وجعلها مكاناً متمدّناً يحتضن أهلها ويسهّل عيشهم للمرّة الأولى منذ انتهاء حقبة الاستعمار الاسباني. وثمة مصلحة عربية حرص الملك محمد السادس على تأكيدها حينما اتصل بالرئيس محمود عباس ليبلغه أن الموقف المغربي “ثابت لا يتغيّر” سواء بالنسبة الى “حل الدولتين” وحقوق الشعب الفلسطيني أو بالنسبة الى “الهوية الإسلامية” للقدس التي يتمنّاها مدينة مفتوحة لكلّ الأديان السماوية.
كان ملاحظاً أن أي اتصال مغربي – اسرائيلي لم يتمّ لتسجيل اللحظة “التاريخية”، لذلك قالت مصادر واشنطن إن اتصالاً ثلاثياً سيُجرى لاحقاً بترتيب من البيت الأبيض. لم يكن متَصوّراً أن يتصل رئيس الوزراء الاسلامي سعدالدين العثماني بنظيره نتانياهو، ولم يكن ملحّاً اتصال وزير الخارجية ناصر بوريطة بنظيره غابي اشكينازي. تعاملت الرباط مع الحدث على أنه أميركي – مغربي أولاً، وهذا شأن الملك الذي أعطى أولويةً لمخاطبة المغاربة من خلال “طمأنة” الجانب الفلسطيني. لم يكن الأمر بروتوكولياً بحتاً بل محاولة لتأكيد الاختلاف المغربي في مسألة يبقى “التطبيع” عنوانها العام، ويُراد لها أن تخدم “السلام” كهدف عام أيضاً، لكن إسرائيل تستخدمها لـ “شرعنة” احتلالها وتسجيل “انتصارات” على شعب فلسطيني تحتلّ أرضه وتستعمره.
كان المغرب بدأ “تطبيعه” قبل عقود عدّة، أيام الراحل حسن الثاني، من خلال إدامة العلاقة “الدستورية” مع يهود المغرب الذين اختار نحو سبعمئة ألف منهم الاستيطان في إسرائيل لكنهم أبقوا روابطهم مع البلد. كما كان المغرب ملتقى اتصالات تمهيدية لخطوات السلام المصرية أيام الراحل أنور السادات، وحين حصل “جفاء” أو تباعد “رسمي” بين المغرب وإسرائيل فلأنه أدرك أنها لم تكن جادة أبداً في العمل من أجل سلام حقيقي وتسوية تاريخية. وبالتالي فليس هناك ما يفترض أن يبرهنه المغرب، لا في التطبيع ولا في السعي الى السلام. السؤال الآن هل أن محمد السادس سيباشر، بصفته رئيس “لجنة القدس”، وبالاستناد الى خصوصية العلاقة مع اليهود والمسلمين وإلى تراث متصل من الديبلوماسية الرزينة، دوراً جديداً في إنصاف الفلسطينيين وتحقيق الهدف الإنساني الحضاري بجعل القدس مدينة مفتوحة لكل الأديان؟
يبقى أن ما حصل عليه المغرب اميركياً بالنسبة الى النزاع الصحراوي لا يشكّل حلّاً نهائياً، فالرباط ستستمرّ في العمل مع المجتمع الدولي متسلّحة بـ “الاعتراف الأميركي”. كانت بوادر هذا الاعتراف ظهرت في القرار 2548 الذي أصدره مجلس الأمن بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ودعمته واشنطن ولم تؤيّده روسيا لحسابات جزائرية. دعا القرار للتوصّل الى “حل سياسي واقعي وعملي ودائم” لمسألة الصحراء الغربية “على أساس من التوافق”، وقالت الولايات المتحدة آنذاك إن خطة الحكم الذاتي المغربية “جادة وذات مصداقية وواقعية وتمثّل مقاربة محتملة واحدة لتلبية تطلّعات الشعب في الصحراء الغربية”. لا شك أن “اعتراف” ترامب تخطّى القانون الدولي، وهذا ما قالته الجزائر وروسيا، والمغرب لا يتهرّب من التفاوض ولا من القانون الدولي. هناك من قارن الحدث مع اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن الاختلافات كبيرة وواضحة: بين أوضاع الفلسطينيين والصحراويين، بين سلوك مغربي يحيي علاقة تاريخية مع الصحراويين وسلوك إسرائيلي يهدم أي مستقبل للعلاقة مع الفلسطينيين، بين مواقف دول العالم المؤيدة لدولة فلسطينية وغير المقتنعة بوجود مقوّمات لدولة صحراوية، وأخيراً بين مبادرات مغربية متلاحقة لحل تنموي وسلمي وانعدام مبادرات جزائرية أو “بوليساريوية” جادة لحل النزاع.
المصدر: النهار العربي