علي العبد الله
مرّت ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من دون كبير اهتمام، بسبب ما يشهده العالم من مشكلات، وما عرفه المجتمع الدولي من تحولات، من صعود التيارات اليمينية بتوجهاتها العنصرية، مرورا بتنامي ظاهرة القادة الشعبويين وسياساتهم القومية الضيقة، إلى الإحباط الشديد الذي عمّ شعوب الدول الواقعة تحت حكم أنظمة تسلطية وفاسدة، بسبب تعرّضها للانتهاكات وغياب حماية حقيقية لحقوقها؛ وصولا إلى جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية.
لقد تعاطت معظم شعوب العالم غير الغربية مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بإيجابية، على الرغم من المؤشّرات والرسائل القاسية التي انطوت على إصداره من دول غربية، رأت أن من حقها، بوصفها دولا متفوقة، أن تصوغ العالم على شاكلتها، وأن تضع، من موقعها هذا، محدّدات ومعايير ومبادئ للمجتمع الدولي، وصياغته وفق تصوراتها الخاصة، وعدم الالتفات إلى القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية لبقية العالم؛ في سعي واضح إلى تغريب العالم بتحويل تفوقها العلمي والصناعي إلى تفوق حضاري شامل، ما جعل مواد كثيرة في “الإعلان” تتعارض مع عقائد شعوب عريقة وثقافاتها. وهذا أدّى إلى الحد من موضوعيته وحياديته. وزاد الطين بلة عدم تطابق سياسات الدول الغربية ومواقفها مع فحوى موادّه، وتخليها عن محدّداته ومعاييره كلما تعارضت مع مصالحها السياسية والاقتصادية أو هددتها، وقد زادت الفجوة في العقدين الأخيرين. ويمكن تتبع مواقف الدول الغربية من الحريات وحقوق الإنسان في الدول العربية قبل الربيع العربي وبعده، وتبين مدى تناقضها الصريح مع فحوى “الإعلان”.
طرح الاتحاد الأوروبي في ثمانينيات القرن الماضي تصوّرا عن شراكة مع دول جنوب المتوسط، وألمح إلى ربط المساعدات وتطوير العلاقات باحترام الحريات العامة والخاصة، خصوصا منها الحريات السياسية والدينية، لكن دول الاتحاد لم تلتفت، عند تعاطيها مع دول جنوب المتوسط، إلى هذا الشرط، بل تجاوزته وغضّت الطرف عن تجاوزات وانتهاكات كثيرة وخطيرة، فقد تعاونت فرنسا مع نظام الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، على الرغم من ممارساته القمعية وانتهاكاته الكبيرة والخطيرة للحريات وحقوق الإنسان، وتجاهلت تظلمات المعارضة التونسية التي عقدت عام 2008 مؤتمرا في باريس، تحت عنوان “حق العودة”، عودة المنفيين التونسيين، كما تجاهلت المعلومات المؤكّدة عن فساد النظام، وتعدّيه على المال العام وأبقت على الاستثمارات المالية الضخمة لعائلتي بن علي وزوجه ليلى طرابلسي؛ على الرغم من مخالفتها قوانين غسل الأموال والفساد في فرنسا.
وفي ليبيا التي تعرّضت لحصار خانق وعقوبات شديدة؛ على خلفية تفجير طائرة الركاب الأميركية بان أم فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية، امتدت أعواما، انقلب الموقف منها بعد حصول الولايات المتحدة على تعويضات كبيرة للضحايا الأميركيين، وتسليم عنصرين من جهاز الاستخبارات الليبية لتتم محاكمتهما في اسكتلندا. وبعد عدة لقاءات بين مسؤولين ليبيين وإسرائيليين عقدت في تونس سرّا، أعادت الولايات المتحدة الانفتاح على الرئيس الليبي، معمر القذافي، حيث زارت وزير الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، ليبيا لإعلان التطبيع معه، وكان بين عروضها على القذافي عقد معاهدة دفاع مشتركة أميركية ليبية، شبيهة بتعهد توني بلير له بالدفاع عن ليبيا في حال تعرّضها لغزو خارجي، متناسيةً الانتقادات التي وجهتها الولايات المتحدة لنظام الحكم فيها عقدا ونيف، ومتجاهلة نظام حكمه الفاسد، وانتهاكاته الكبيرة للحريات العامة والخاصة، وخرقه حقوق الإنسان، ودوره في زعزعة الاستقرار في المنطقة ودعمه حركات إرهابية.
وفي مصر، تجاهلت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة القمع المتزايد، قمع النظام نادي القضاة المصري والحركة المصرية لأجل التغيير (كفاية)، وتزويره الانتخابات البرلمانية لمنع جماعة الإخوان المسلمين من تخطّي حاجز المئة نائب في البرلمان، وتحضيره نجل الرئيس المصري، جمال مبارك، لوراثة والده في رئاسة الجمهورية.
وفي سورية، وبعد عزلة دولية امتدت حوالي أربع سنوات؛ على خلفية دور النظام في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، رفيق الحريري، وإجبار النظام على سحب قواته من لبنان، تنفيذا لبند في اتفاق الطائف، كسر الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، الحصار الدولي على النظام بزيارة دمشق، وإخراج النظام من عزلته تحت ذريعة ما ورد في تقرير بيكر هاملتون عن تخفيف حدة العنف الطائفي في العراق، وإشراك سورية وإيران في استعادة الاستقرار في العراق، بتجاهل تام لدور النظام في تزكية ذلك العنف. قبل تلك الزيارة، التقت منظمة هيومن رايتس ووتش بفريق ساركوزي الرئاسي، وسلمته قائمة بأسماء 14 شخصية سورية معتقلة مع رسالةٍ تطالب بالإفراج عنهم. حصلت المنظمة على وعد فرنسي، قوي ومباشر، أن الرئيس ساركوزي سيطلب ذلك من الأسد وسيسلمه الأسماء بنفسه. أفرجت دمشق عن الأستاذ الجامعي، عارف دليلة، فقط، وبرّرت ذلك بتدهور صحته، وتجاهلت باقي المعتقلين، ولم تقم فرنسا بأي تحرّك للضغط على الأسد للإفراج عن البقية.
وفي اليمن، ركزت الولايات المتحدة على مكافحة الإرهاب، وتجاهلت ممارسات النظام، بما في ذلك إدخال الرئيس، علي عبد الله صالح، ابنه أحمد في قيادة الجيش وسيطرته (الرئيس) مع مجموعة صغيرة من أتباعه على موارد البلد الفقير. أظهرت مراسلات السفارة الأميركية مع صالح، والتي نشرتها “ويكيليكس”، أن الأخير قدم معلومات استخباراتية مهمة للأميركيين في الحرب على “القاعدة”. أبعد من ذلك، طلب صالح، في عدة حالات، توجيه ضربات صاروخية أميركية سرّية على أهداف في اليمن، وأعلن عن قيام الجيش اليمني بها، لامتصاص أي ردة فعل شعبية محتملة.
وفي العراق، تغاضت الولايات المتحدة عن ممارسات رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، ودوره في تصعيد حدة الطائفية وانتشارها في كل العراق، على الرغم من رسالة مستشار الأمن القومي السابق، ستيفن هادلي، الصريحة والمباشرة بهذا المعنى، إلى الرئيس بوش. وذلك كله مقابل استقرار مزيف في العراق.
أوضح تصريح عما سبق بأكمله كان لوزير الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، في الجامعة الأميركية في القاهرة، يونيو/ حزيران 2005، عن دعم الولايات المتحدة والغرب أنظمة مستبدة ستين عاما مقابل الحصول على استقرار مزيف. ووعدها بتغيير هذه المقاربة ضمن مشروع الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، في نشر الديمقراطية في المنطقة.
مع انطلاق ثورات الربيع العربي، برزت حقائق جديدة عن السياسة الغربية الاستنسابية، فقد عرضت فرنسا على الرئيس التونسي، بن علي، إرسال الجندرمة الفرنسية لقمع التظاهرات وحماية النظام. وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية، ميشيل آليو ماري، قد قضت إجازة بضيافة بن علي في أثناء انطلاق ثورة الياسمين وسقوط أكثر من ثلاثين شهيدا.
وفي مصر، تغاضت دول الاتحاد الأوروبي عمّا قام به وزير الدفاع الفريق، عبد الفتاح السيسي، من الانقلاب العسكري إلى سجن الرئيس المنتخب شرعياً وقتله، حتى الولايات المتحدة التي تربطها معاهدة أمنية مع مصر تنصّ على تعليق المساعدات العسكرية الأميركية لمصر في حال حصول انقلاب فيها تجاهلت الوضع، ولم تكتف بعدم تفعيل هذا البند، بل ورفضت أيضا اعتبار ما حصل انقلابا. وقد حصل السيسي على حماية وتغطية من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي أطلق عليه وصف “دكتاتوري المفضل”. وأخيرا، في زيارة السيسي باريس، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، صراحة، أن صفقات بيع الأسلحة لمصر لن تتوقف بسبب أوضاع حقوق الإنسان فيها. وفي الأسبوع ذاته الذي أصدر فيه مدّع عام إيطالي مذكرات توقيف لأربعة عناصر أمن مصريين، على خلفية خطف الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، وتعذيبه وقتله، منح ماكرون وسام الشرف للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي.
وفي السعودية، مرّت انتهاكاتٌ كثيرة، خصوصا قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وتقطيع جثته في بلد آخر، في مخالفة للقوانين الدولية وفي ارتكاب جريمة واضحة، من دون أي عواقب بسبب النفوذ السعودي المالي والسياسي في العالم. لعب الرئيس الأميركي، ترامب، دورا شخصيا مباشرا في حماية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من تبعات قتل خاشقجي. وكانت كندا قد علقت على حادثة اعتقال الناشطة السعودية، لجين الهذلول، ففرضت عليها السعودية “عقوبات”، وسحبت آلاف الطلاب السعوديين من الجامعات الكندية، وجدت كندا نفسها وحيدة في مواجهة التنمر السعودي. وقد شجع السكوت على قتل خاشقجي دولاً أخرى، مثل إيران، على الشروع بخطف معارضين وتصفيتهم وإعدامهم في الخارج.
وفي الملف اليمني، تغاضت الدول الغربية عن التحالف السعودي الإماراتي، وتدميره حياة اليمنيين، بل دعمت التحالف بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية. حتى عندما تم الضغط على الدول الغربية لتعليق بيع السلاح للسعودية فإنها لم تلتزم بهذا التعليق. وفي الشأن السوري، تم التغاضي عن القصف الوحشي للمدن والبلدات والقرى وقتل المدنيين بالجملة، وبكل صنوف الأسلحة، والتحفظ على استخدام الأسلحة الكيميائية فقط، ثم غض النظر عن استخدامها، والاكتفاء بنزع السلاح الكيميائي للنظام. وفي واقعة أخرى معبرة، أعلنت ألمانيا حظر بيع الأسلحة لتركيا، بعد استخدامها دبابات ألمانية في الهجوم على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شرق سورية وشمالها؛ لكنها سرعان ما تراجعت عن موقفها، واستأنفت صفقات الأسلحة معها.
كان التدخل العسكري الغربي في ليبيا الموقف الإيجابي الوحيد قبل أن تنكشف دوافعه، فقد كان مدفوعاً بقلق أوروبي كبير من موجة نزوح من ليبيا إلى سواحل أوروبا الجنوبية. واتضح لاحقا أن الحماس الفرنسي للتدخل العسكري في ليبيا كان من بين أسبابه محاولة الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، إخفاء تلقيه أموالا من القذافي، وهي التهمة التي يحاكم عليها اليوم. وكان تغاضي الدول الغربية عن الصراع الخليجي الخليجي الأسوأ في تأثيره السلبي في المنطقة ودوره في تقويض الربيع العربي ودعم ثورات مضادة وانقلابات عسكرية في مصر وليبيا، وصولا إلى محاولة التطبيع مع النظام السوري. وهذا كله وغيره من دون أن يُنسى المأزق التاريخي الذي ترتب على دعم الدول الغربية الحركة الصهيونية في اغتصاب فلسطين، وتشريد شعبها وانتهاك حقوقه، وتجاهل كل القرارات الدولية التي قرّرت حقه في عودة لاجئيه إلى ديارهم، وحقه في دولة ذات سيادة.
تعلن الدول الغربية تبنّيها مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة، وتقدم دعما ماليا وتقنيا للمنظمات الحقوقية والمدنية، وتناقض ذلك بمواقفها الاستنسابية من تجاوزات الأنظمة التسلطية وانتهاكاتها هذه الحقوق والحريات، حيث تدين ممارسات دول وتغض الطرف عن ممارسات دول أخرى؛ وذلك حسب علاقتها ومصالحها مع هذه الدولة أو تلك؛ فتدمّر ما كانت بنته.
المصدر: العربي الجديد