ترجمة: ربى خدام الجامع
نشر المجلس الروسي للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الدراسات الإيرانية- اليوروآسيوية ورقة بحثية تتناول نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سوريا، وتسلط الضوء على العلاقة المركبة للطرفين والتي لم ترقَ إلى درجة الشراكة الاستراتيجية الحقيقية بحسب وصف معدي البحث.
ويقدم موقع تلفزيون سوريا ترجمة البحث على أجزاء دون التدخل في تحريره لنقل وجهة نظر “خبراء” البلدين في الملف السوري كما هي.
الجزء الثالث:
بعد مرور ثماني سنوات على المرحلة العسكرية الفعلية، يتجه النزاع السوري نحو المرحلة السياسية. ففي الوقت الذي انحسرت فيه شدة العمليات العسكرية وأصبح نطاقها محدوداً، مايزال خطر التصعيد العسكري في إدلب وشرق الفرات قائماً. وبصرف النظر عن هذا الخطر، هنالك العديد من العوامل التي تجعل عملية نشر الاستقرار والقيام بعملية مصالحة وطنية في سوريا غاية في الصعوبة، ويأتي على رأسها العقوبات الأميركية والأوروبية، وغياب التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار، وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي في هذه الدولة، والتوتر بين إيران والولايات المتحدة وكذلك بين تركيا والولايات المتحدة، وعدم القيام بإصلاحات سياسية وعسكرية/أمنية بوسعها أن تساعد على قيام مصالحة وطنية، وظهور كوفيد-19 وغير ذلك من الأمور والعوامل الأخرى. كما أن المواقف التي سيضمنها الفاعلون الإقليميون والدوليون والمحليون عند تسوية النزاع السوري في نهاية المطاف لابد وأن تؤثر وبشكل كبير على هندسة وتشكيل بنية أمنية جديدة في المنطقة.
الجزء الأول: روسيا وإيران في سوريا وما بعدها: التحديات المقبلة
الجزء الثاني: وجهة نظر إيرانية بالقضية السورية: الحل في أستانا
ولهذا تبحث هذه الدراسة في التحديات والأخطار التي ماتزال قائمة في سوريا وكيف يؤثر كل ذلك على روسيا وسياستها، كما تناقش هذه الدراسة أفق التسوية السياسية السورية وعملية إعادة الإعمار فيها، وما هو مأمول من موسكو لتعزيز دورها في البنية الأمنية الجديدة للمنطقة، وشراكتها مع إيران وتركيا.
أهم التحديات والأخطار
بالرغم من دخول النزاع في سوريا مرحلته النهائية وتحوله نحو المجال السياسي، إلا أنه ماتزال هناك عقبات تقف في طريق استكمال المرحلة العسكرية. فاليوم تظهر قضيتان رئيسيتان بالنسبة للمجال العسكري، أولهما أن محافظة إدلب تخضع بشكل كبير لسيطرة جماعة تحرير الشام، ولجماعات متطرفة أصولية مثل حراس الدين، إلى جانب الجيش التركي. ثانياً: تخضع المناطق الواقعة شرق الفرات لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الكرد وتتلقى الدعم من قبل الجيش الأميركي، إلى جانب منطقة التنف على الحدود مع الأردن والتي تحتلها القوات الأميركية. ويمكن أن نلخص هذه القضية بوجود القوات الأجنبية في سوريا، وعليه يصبح وجود القوات التركية والأميركية غير قانوني في سوريا. وعلاوة على ذلك، هنالك القضية التي تتصل بالغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية أو موالية لإيران في الداخل السوري، وسببها تزايد الوجود العسكري الإيراني في سوريا.
أما من الناحية السياسية، فهناك ثلاثة تحديات كبرى، أولها عدم قدرة اللجنة الدستورية السورية على البدء بعمل بناء يدفع نحو عملية سياسية في سوريا، ويعود ذلك لعدم إبداء كل من دمشق ومعارضتها لأن نوع من أنواع المرونة. أما التحدي الثاني فيتمثل بغياب أي تقدم في عملية المصالحة بجنوب سوريا وتجميد المحادثات بين الكرد ودمشق. ويتلخص التحدي الثالث بغياب عملية إعادة إعمار شاملة من شأنها المساهمة في نشر الاستقرار في البلاد على المستوى الاقتصادي والسياسي. لذا، ودون التوصل إلى حل وسط مناسب مع كل تلك الأمور والقضايا بين كل الأطراف المعنية، يصبح التحرك بشكل أكبر نحو تسوية النزاع ونشر الاستقرار في سوريا ضرباً من المستحيل.
ولهذا تواجه روسيا في سوريا التحديات الخطيرة والكبيرة التالية:
الوصول إلى اتفاق خاص بالمرحلة النهائية مع تركيا في إدلب وشمال سوريا التي تحتلها القوات التركية بحكم الأمر الواقع، إلى جانب الاتفاق الخاص بالمناطق الواقعة شرق الفرات والتي يسيطر عليها الكرد، والسعي للمحافظة على ذلك الاتفاق.
البدء بعملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد لسابق عهده في سوريا بالتعاون مع الدول العربية في المنطقة التي تدخلت بهذا الملف (وكذلك بالتعاون مع الدول الأوروبية في أحسن الأحوال).
المحافظة على الوضع الراهن على الأقل، أو العمل لإيجاد أرضية مشتركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول سوريا في أحسن الأحوال وذلك لدفعها لرفع أو تخفيف العقوبات ولإطلاق عملية إعادة الإعمار.
تفعيل العملية السياسية والمصالحة داخل سوريا ويشمل ذلك الكرد السوريين.
ضمان تنسيق العمل بين دمشق وطهران دون تخريب مبادرات موسكو ومشاريعها مثل عمل اللجنة الدستورية.
تحويل النجاح العسكري إلى عوائد اقتصادية ومكاسب سياسية.
إلى أن يتم تحقيق هذه الأهداف، ستواصل موسكو استثمارها في سوريا دون أن تحصل على أية فوائد اقتصادية حقيقية ودون أن تلوح فرصة لعرض وإظهار قصة النجاح التي حققتها أمام العالم كله. وبعيداً عن كل ذلك، تعمل المشكلات العسكرية التي لم يتم التوصل إلى حل بشأنها في كل من إدلب وشرق الفرات على زيادة التصعيد بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة والكرد، وإيران ودمشق، كونها تتعارض مع مصالح موسكو.
إن التحدي الاستراتيجي بالنسبة لروسيا اليوم يتمثل بإيجاد طريقة لتحويل نجاحها العسكري في سوريا إلى نجاح سياسي واقتصادي في هذه الدولة وفي المنطقة عموماً. إذ يبدو هذا الهدف بعيداً عن الواقع دون عقد اتفاقية شاملة مع العناصر الفاعلة الكبرى التي تدخلت هي أيضاً في هذا الملف.
الجمود في إدلب
لقد تبين بأن اتفاقية إدلب التي أبرمتها روسيا مع تركيا في أيلول 2018 لا يمكن تطبيقها بشكل عملي وذلك مع فشل تركيا في فصل “الإرهابيين” عن المعارضة المعتدلة. وبالنتيجة، ومع نهاية عام 2019، سيطرت هيئة تحرير الشام على ما يزيد على 90% من مساحة إدلب (ولكن في عام 2020 ضعفت سيطرتها عليها بسبب الاقتتال الداخلي وخروج جماعة حراس الدين من بين صفوفها). بل حتى البروتوكول الملحق الذي تم التوقيع عليه في الخامس من آذار عام 2020، قد فشل حتى اليوم بتنفيذ ما تنص عليه البنود الأساسية للاتفاق، فلم يتم إنشاء منطقة آمنة بعمق 20 كلم على طول طريق إم4 الدولي حتى الآن، وذلك لأن الطريق غير آمن، ولم يفتح أمام عبور المدنين، إلى جانب وجود الجماعات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة العازلة جنوب طريق إم4 والذي من المفترض أن يسيطر عليه الجيش السوري (قوات النظام) الذي تدعمه روسيا، بالإضافة إلى تعرض البنية العسكرية السورية والروسية إلى هجمات مستمرة من قبل المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ويشمل ذلك الهجمات المتكررة على الدوريات العسكرية المشتركة بين روسيا وتركيا، لذا فإن هذه المسألة قدمت المبرر لموسكو ودمشق للقيام بعمليات عسكرية محدودة تستهدف “الجماعات الإرهابية” في جنوب إدلب على مدار مدة تجاوزت السنة. وفي الوقت ذاته لا تسعى روسيا للقيام بعمل عسكري واسع النطاق في إدلب، لأن ذلك من شأنه أن يزيد التوتر مع تركيا.
وبفضل اتفاقية إدلب التي أبرمها بوتين وأردوغان في 5 من آذار 2020 في موسكو، وضعت روسيا وتركيا قواعد الاشتباك في إدلب، والتي سمحت لهما حتى الآن بتجنب أي تصعيد كبير مثل الذي حصل في خريف عام 2019، وشتاء عام 2020. إذ لحسن الحظ، اكتشف الطرفان طريقة لتجنب تلك المخاطر، بالرغم من أنها غير مستبعدة بشكل نهائي.
وبالنسبة لتركيا، فإنها أيضاً تعارض فكرة القيام بعمل عسكري واسع النطاق في إدلب، لأن ذلك سيدمر العلاقات مع روسيا وسيتسبب بظهور موجة جديدة من اللاجئين السوريين الذين سيعبرون الحدود التركية. وفي الوقت ذاته، فإن تركيا غير مستعدة لحل مشكلة هيئة تحرير الشام وغيرها من العناصر المتطرفة في إدلب، وهذا يعني بصورة أساسية عدم تنفيذ اتفاق الخامس من آذار مع روسيا. إذ منذ بدء عام 2020، قامت تركيا بحشد 15-20 ألف جندي في محافظة إدلب وأكثر من 5 آلاف وحدة عتاد عسكري، وهذا يكفي لحل مشكلة “الإرهابيين” هناك. إلا أن أنقرة ماتزال غير راغبة بالقيام بذلك، كونها ترغب بحفظ نفوذ أكبر من موسكو واستخدام إدلب كورقة للمساومة في الصفقات التي تتصل بشمال شرق سوريا وليبيا. والأهم من ذلك أن أنقرة وبحكم الأمر الواقع قامت بضم شمالي إدلب، إذ ابتداء من شهر أيار/حزيران من عام 2020 أصبحت الليرة التركية العملة الرئيسية في تلك المنطقة، كما أخذت تركيا تستثمر في عملية إعادة إعمار المنطقة، وكذلك في المساعدات الإنسانية وفي تطوير البنية التحتية هناك طوال أشهر، لذا من الصعب أن نصدق بأنها يمكن أن تتخلى عن هذه المنطقة بسهولة.
بالإضافة إلى قيام محاولات مؤخراً لإعادة تصنيف هيئة تحرير الشام وذلك عبر صرف الانتباه عنها والتركيز على جماعة أكثر تطرفاً وهي حراس الدين التي فكت ارتباطها بهيئة تحرير الشام في عام 2018، على أمل أن تقوم العناصر الأكثر تطرفاً في هيئة تحرير الشام بالانضمام أخيراً إلى حراس الدين، مما يجعل الأولى أكثر اعتدالاً بحيث يمكن أن تندمج أخيراً بين صفوف المعارضة السورية الموالية لتركيا والتي تعتبر جزءاً من العملية السياسية. وبالرغم من أن روسيا عارضت بكل صراحة إعادة تصنيف “الإرهابيين”، إلا أن هذه العملية تمثل فرصة سانحة أمام موسكو حتى تواصل مساومتها لأنقرة فيما يتصل بشمال شرق سوريا والقضية الكردية.
يمكن القول إن الوضع في إدلب قد وصل إلى مرحلة الجمود عملياً وبصورة أساسية، إذ ترغب روسيا وكذلك النظام السوري باستعادة إدلب وخاصة طريق إم4 الدولي، مع تجنب قيام عملية عسكرية واسعة النطاق، وذلك لأن فتح طريق إم4 سيعيد ربط حلب باللاذقية وشرق سوريا، وهذا بحد ذاته ضروري ولازم لعودة الأنشطة الاقتصادية والتجارية في هذه الدولة لسابق عهدها.
وبحسب ما ذكره مسؤول روسي رفيع تحدث إلينا شريطة عدم الكشف عن هويته، فإن خطة موسكو كانت تقوم على استعادة السيطرة على طريقي إم4 وإم5 الدوليين، لإغلاق ما تبقى من مناطق في إدلب وتحويلها إلى مشكلة تركية.
وفي الوقت ذاته، دفعت الهجمات العسكرية المتكررة الذي تنطلق من المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام في إدلب على مناطق تسيطر عليها دمشق وعلى أهداف عسكرية روسية، كلها دفعت موسكو للرد باستخدام القوة. إذ بالرغم من أن روسيا لا تسعى لخلق أي توتر مع أنقرة كونها شريكاً مهماً في عملية أستانا (والتي لابد وأن تفقد الكثير من شرعيتها في حال خروج تركيا منها)، ولأنها تسيطر على جزء كبير ومهم من المعارضة السورية والفصائل المسلحة، كما أنها ماتزال تجري محادثات مع الولايات المتحدة بخصوص المناطق التي يسيطر عليها الكرد، فضلاً عن أن العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا التي تتطور يوماً بعد يوم (إذ تم تنفيذ مشاريع مهمة مثل خط الغاز التركي المعروف باسم ستريم، إلى جانب بناء مصنع أكويو للطاقة النووية، وتسليم منظومة إس-400).
ثم إن النزاعين في سوريا وليبيا أصبحا متلازمين منذ السنة الماضية، ولهذا أصبحت السياسة التركية اليوم في إدلب السورية أو في شمال شرق سوريا مرهونة بتطورات الأمور في ليبيا، حيث تلعب روسيا دوراً مهماً هي أيضاً، ولهذا السبب لم تتحول إدلب إلى مجرد قضية منفصلة عن النزاع السوري، بل تحولت إلى قضية تتصل بشرق الفرات وليبيا، وهذا يتطلب قدراً كبيراً من ضبط النفس لابد لموسكو وأنقرة أن تلتزما به لضمان عدم تصعيد الوضع، بما يسمح لكلا الطرفين بلعب دور أكبر في هذا السياق.
وبالنسبة لتركيا، فإنها تريد أن تحافظ على نفوذها في إدلب حتى تتمكن من استخدامها كورقة للمساومة في عقد اتفاق مع موسكو ودمشق حول القضايا التي تتصل بكرد سوريا أو حول ليبيا. وفي النهاية يبدو الوضع وكأن كلا الطرفين يختبر حدود الآخر، بما يجعل الأمور تقف بشكل متوازن على شفير التصعيد. فرفض أنقرة لاتخاذ خطوات عملية في إدلب نجم عنه وضع متقلقل في منطقتي تل رفعت ومنبج بشمال حلب، وظهور مناطق يسيطر عليها الكرد وتوسع نفوذهم نحو شرق الفرات والتقارب بينهم وبين الولايات المتحدة.
إذ بحسب ما ذكره دبلوماسيون روس رفيعو المستوى، مايزال خيار عقد اتفاقية مبادلة بين موسكو وأنقرة حول إدلب ومنبج وشمال شرق سوريا مطروحاً على الطاولة.
وهكذا أصبح كل ما يقال اليوم هو إنه من غير المرجح قيام مواجهة كبيرة بين روسيا وتركيا من أجل إدلب. وفي الوقت ذاته، يتطلب التنفيذ العملي لاتفاق 5 من آذار حول إدلب الالتزام بنهج حذر وحازم من قبل روسيا.
الوضع المتقلقل في شرق الفرات
من التحديات الكبرى التي تواجه روسيا في سوريا الوجود الأميركي في المناطق التي يسيطر عليها الكرد بالقرب من شرق الفرات. إذ بالرغم من إعلان الولايات المتحدة في كانون الأول من عام 2018 عن سحبها لكامل قواتها من سوريا، إلا أن هذه الخطوات لم تتخذ على الإطلاق، بل إن الولايات المتحدة استبقت عدداً محدوداً من قواتها في المنطقة الشرقية بسوريا حتى يقوم هؤلاء بحراسة حقول النفط التي تخضع لسيطرة قسد. وبذلك ضربت واشنطن ثلاثة عصافير بحجر واحد، حيث يعمل الجيش الأميركي هناك كقوة ردع ضد أي هجوم عسكري تركي ضد قسد، وضد توسع قوات النظام أي ضد سيطرة روسيا على المنطقة الشرقية في البلاد، وضد الوجود الإيراني المتزايد.
فالواقع المتمثل بوجود الكثير من القوى الخارجية والمحلية على الأرض في المنطقة الشرقية في سوريا، وهي إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، والجيش السوري، والكرد، والقبائل العربية، يجعل من هذه المنطقة الأكثر تعقيداً في الملف السوري. إذ حتى الآن لم تتمكن كل هذه القوى الفاعلة الكبرى من تغيير الوضع الراهن في تلك المنطقة لصالح أي منها، وهذا ما يجعل فكرة القيام بأي عملية ضمن هذه البيئة أمراً غاية في الصعوبة أمام الجميع.
لا أحد يدري إلى أي مدى ستلتزم الولايات المتحدة بشكل جدي بدورها كقوة ردع بالنسبة لكل الأطراف الأخرى في سوريا. إذ حتى الآن تتلخص المخاوف الكبرى لواشنطن في سوريا بضمان تأمين الكرد، ومنع تركيا والنظام السوري من القيام بعمليات عسكرية ضد الكرد، وإبقاء إيران تحت السيطرة، وتحويل سوريا إلى عبء بالنسبة لروسيا. وهذا يثقل على كل الأطراف بشكل طبيعي، لاسيما بالنسبة للأتراك، الذين يعتبرون قوات وحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على قسد بمثابة تنظيم إرهابي يشكل خطراً على أمن تركيا. إذ إن الدعم الأميركي الذي يقدم للكرد ورفض الولايات المتحدة تنفيذ كل ما طلبته تركيا منها بخصوصهم، وضع أنقرة في موقف شائك، فهي لا تريد أن تقوم بعملية عسكرية واسعة النطاق ضد قسد لأسباب وجيهة، كما أن أنقرة تبحث عن حل يحفظ ماء وجهها ويسمح لها بمعالجة القضية الكردية بشكل فعال دون أن ينفر ذلك الولايات المتحدة منها أكثر. ويرى البعض بأنه ماتزال خلافات حادة قائمة بين تركيا والولايات المتحدة، وهذه الخلافات تعيق قيام تسوية فعالة بينهما في شمال شرق سوريا، وهذا يضر بالسياسة الروسية هناك بشكل طبيعي.
وثمة قضية مهمة أخرى في مناطق شرق الفرات تصدرت الواجهة قبل سنة وهي خطر عودة تنظيم الدولة، فلقد استغل فلول تنظيم الدولة الخلافات والتوتر القائم بين العناصر الفاعلة فقاموا بشن هجمات عقدت بيئة العمليات بشكل أكبر.
واليوم يبدو أن كلاً من روسيا وتركيا والولايات المتحدة ليس لديهم جميعاً خطة ثابتة حول ما سيفعلونه في سوريا، ناهيك عن عدم توصلهم إلى اتفاق بشأنها. ولهذا يتسبب الوضع المتقلقل في إدلب والدور التخريبي الذي تلعبه الولايات المتحدة في مناطق قسد بتعقيد التحركات التركية-الروسية في سوريا. إذ بالرغم من أن المحادثات بين الجيشين الروسي والتركي حول إدلب وشرق الفرات ماتزال جارية، إلا أنها لا يمكنها إلا أن تبقي الوضع الراهن على حاله. كما أن الصفقات الروسية والتركية مع الولايات المتحدة حول المنطقة الشرقية في سوريا لم تأت بنتيجة جوهرية. وذلك لأن سوريا ليست أولوية بالنسبة للولايات المتحدة في الوقت الراهن على أية حال، ومن غير المحتمل أن تصبح أولوية بالنسبة لإدارة بايدن، مما يضعف الأمل بتحقيق أي تقدم في هذا الملف.
ومن الواضح بأن كل الأطراف المعنية بحاجة للتوصل إلى اتفاق بشأن المناطق التي يسيطر عليها الكرد، بيد أن الجميع يحاول أن يخمن شكل ونوع تلك الاتفاقية، وستبقى هذه المهمة إحدى أكثر المهام التي تنطوي على تحديات كبيرة بالنسبة لكل العناصر الفاعلة التي تدخلت بهذا الملف طوال الأشهر القادمة.
اللجنة الدستورية
مضى على تشكيل اللجنة الدستورية السورية أكثر من سنة غير أنها لم تحقق أي تقدم حقيقي على المسار السياسي، ويستثنى من ذلك الاجتماعات العديدة التي عقدت في جنيف. إن عدم قدرة هذه اللجنة على القيام بمهامها يعتبر عقبة كبرى أمام دفع العملية السياسية نحو الأمام والمضي بها قدماً بما أن صياغة دستور جديد للبلاد يعتبر من القضايا الأساسية التي لابد من حلها. كما أن دمشق ظلت ترفض القبول باللجنة الدستورية وبالمعارضة طوال فترة طويلة، إلا أن الوضع تغير خلال السنة الماضية، عندما أصبحت دمشق تعاني تحت وطأة ضغوطات اجتماعية واقتصادية ومالية وإنسانية كثيرة ترتبت على تسع سنوات من الحرب، ناهيك عن العقوبات الغربية القاسية، وقد تفاقمت كل تلك الأمور بسبب الأزمات الأخيرة التي ظهرت في لبنان فضلاً عن انتشار جائحة كوفيد-19. كل ذلك من المحتمل أن يجعل دمشق ألين وأميل للقبول بالتسويات. كما أن الوضع الإقليمي يتغير هو أيضاً، وقد أدى ذلك لقيام مصالحة جزئية بين الإمارات وسوريا، ويعود أحد أسباب تلك المصالحة لتنامي النفوذ التركي في سوريا وبين صفوف المعارضة السورية. إذ بوسع الإمارات والسعودية التأثير على جزء من المعارضة السورية في تلك اللجنة بهدف الحد من النفوذ التركي الذي دفعهم للتقارب مع دمشق بشكل تلقائي. ويرى البعض بأن الأسد قد يبدي اهتماماً أكبر بالعملية السياسية، ولابد للضغوطات التي تمارسها موسكو أن تلعب دوراً في جعل السلطات السورية أكثر رغبة بالتفاوض.
وفي الوقت ذاته، تفتقر اللجنة الدستورية إلى مشاركة كل الأطراف، بما أن تركيا تعارض بشدة مشاركة الكرد فيها. إذ بالرغم من أن تشكيل اللجنة الدستورية يعتبر بداية طيبة على أية حال، إلا أنه من الصعب أن نتخيل أنها ستتمكن من التوصل إلى حل سياسي شامل ودائم لتلك البلاد بمفردها، إذ دون معالجة القضية الكردية إما عبر إشراك الكرد باللجنة أو عبر عقد اتفاق بينهم وبين دمشق، لابد وأن تكون كل محاولات إطلاق عملية سياسية دائمة ومستمرة في سوريا محكومة بالفشل.
وإنه لتحد كبير بالنسبة لروسيا أن تجعل العملية السياسية شاملة وناجحة في نهاية الأمر، فقد حاولت موسكو خلال تحركاتها الأخيرة أن تردم الهوة بين الجناح السياسي لقسد، والذي يمثله مجلس سوريا الديمقراطي، وبعض جماعات المعارضة السورية المقربة من موسكو، والتي يمكن أن تسمح بإحياء المحادثات بين الكرد ودمشق وأن ترسل إشارة واضحة لتركيا بأن الكرد لا يمكن إقصاؤهم من التسوية السياسية. ولكن على أية حال، مايزال الطريق طويلاً، ومايزال كل ذلك يقف كتحد كبير ومهم جداً.
عملية إعادة الإعمار
تعتبر عملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري، وإعادة بناء القوى العسكرية والأمنية وغيرها من المؤسسات، ورفع العقوبات الأميركية، واستقطاب الأموال الأجنبية، وإيجاد السبيل الأنسب لقيام مصالحة وطنية من أهم القضايا التي تواجهها روسيا في سوريا. وهنا يحق للمرء أن يتساءل لماذا ترغب روسيا بالاهتمام بكل هذه المشكلات بالغة التعقيد ولم لا تترك الأمر للسوريين حتى يقرروا ذلك، ورداً على ذلك السؤال نقول: هنالك أسباب مهمة عديدة تدفع روسيا للقيام بذلك.
أولها إنه من الضروري بالنسبة لروسيا استعراض قصة نجاحها أمام العالم، بما يعكس فشل النهج الغربي في النزاعات التي قامت في العراق وليبيا وأفغانستان واليمن وغيرها.
ثانياً، لقد استثمرت روسيا الكثير في سوريا، لذا لابد لها من جني الفوائد الاقتصادية وذلك على شكل عقود مختلفة، مع تمكين وصولها إلى الموارد، وفسح المجال لها للتنقيب عن النفط الصخري والغاز قبالة الساحل السوري. وللاستفادة من كل ذلك، تحتاج موسكو أن تعود سوريا إلى سابق عهدها على المستوى الاقتصادي.
ثالثاً: لقد قامت روسيا بتأمين قاعدتين عسكريتين في سوريا، وتحديداً في اللاذقية وطرطوس، ولهذا ستحتفظ بوجود لها هناك على الأقل خلال الخمسين سنة القادمة. ولتحويل وجودها العسكري والاقتصادي في هذه الدولة إلى أصول وليس لعبء، تحتاج موسكو لوجود حكومة مستقرة، ومؤسسات فاعلة، بما أن ذلك يمنع البلاد من الانزلاق والعودة إلى حالة الفوضى. ويمكن لذلك أن يتحقق في حال خضعت الحكومة والأجهزة العسكرية والأمنية إلى تغييرات معينة، وكذلك في حال رفع العقوبات الأميركية، وانطلاق عملية إعادة الإعمار الاقتصادية بمشاركة الدول المانحة.
وطوال الأشهر الماضية، كانت روسيا تحاول إقناع الشركاء الأوروبيين بالتعاون معها لإعادة اللاجئين ولإطلاق عملية إعادة الإعمار الاقتصادية. إذ إن الأوروبيين غير راغبين حتى الآن بالتعاون معها في هذه القضايا دون قيام دمشق بإصلاحات سياسية، ومخاوفهم مشروعة بكل تأكيد، إذ لا توجد ضمانات لقيام حياة طبيعية في حال عودة اللاجئين إلى بلدهم، كما أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي يمكن أن يحفزهم على العودة بات مزرياً، ناهيك عن المساعدات الإنسانية المحدودة والإشكالية التي يمكن أن تصلهم. وقد يتعرض اللاجئون للاضطهاد أو قد يتم اعتقالهم بكل بساطة في حال عودتهم. إذ بحسب ما ذكره السيد أمين عواد مدير المكتب الإقليمي في منطقة شرق المتوسط التابع للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين والذي ألقى خطاباً في مؤتمر الأمن الدولي الذي عقد بموسكو في عام 2019، فإن 80% من 5.5 ملايين لاجئ سوري يرغب بالعودة بمجرد أن تتم تلبية تلك الشروط، ويشمل ذلك تأمين سكن لهم وفرص عمل، وتأمين أمنهم وسلامتهم على المستوى الشخصي والقانوني. فيما أعرب 12% منهم عن استعداده للعودة إلى سوريا على الفور. كما أن هنالك الكثير من حالات الاعتقال والاضطهاد والتجنيد الإجباري في الجيش ومصادرة الأملاك وغيرها وكلها موثقة. وهذه المخاوف ومصادر القلق المشروعة هي التي دفعت دول الاتحاد الأوروبي لرهن أي تعاون مع روسيا والسلطات السورية بتحسين الظروف أمام عودة اللاجئين وبتنفيذ دمشق لإصلاحات.
بيد أن ذلك خلق عقبة كبيرة أمام موسكو في محاولتها إقناع الشركاء الأوروبيين بفكرة التعاون. إذ بالإضافة لكل ما سبق، أصبح الاتحاد الأوروبي اليوم مشغولاً بمشاكله الداخلية، لذا فإن القضايا التي تتصل بسياسته الخارجية وبالتحديد بالشرق الأوسط وسوريا، لم تعد تحتل موقع الصدارة ضمن سلم أولوياته. بيد أن تدهور الوضع الإنساني والاجتماعي والاقتصادي في سوريا قد يهدد بزعزعة الاستقرار في المنطقة، وهذا لابد وأن يدفع روسيا ودمشق والاتحاد الأوروبي إلى تغيير مواقفهم، ليصبح كل منهم أميل لتقديم تنازلات حتى يلتقي الجميع عند نقطة في منتصف الطريق، أو ليتفقوا على الأقل حول قضية حساسة مثل تسليم المساعدات الإنسانية. إذ منذ تموز 2020، لم يعد بوسع المساعدات الأممية أن تصل إلى سوريا إلا عبر معبر حدودي واحد ظل مفتوحاً أمامها، ألا وهو معبر باب الهوى، والذي سيتم إغلاقه على الأرجح في تموز من عام 2021. ولهذا ينبغي لروسيا والاتحاد الأوروبي أن يتعاونا سوية على خلق آلية ضبط مشتركة لضمان وضع شروط شفافة بالنسبة لعملية تسليم المساعدات الإنسانية وتوزيعها في مختلف أنحاء سوريا. ويمكن لذلك أن يتحول لأول خطوة على طريق بناء الثقة بينهما والذي قد يؤدي بدوره إلى قيام المزيد من التعاون حول سوريا بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
ينبغي على موسكو أن تستعين بدبلوماسيتها وبالمسار الثاني لقنوات التواصل حتى تبقى في تواصل دائم مع الشركاء الأوروبيين والسوريين، وهي تحاول إيجاد الحلول والتسويات ومقارنة مصادر القلق بالنسبة للاتحاد الأوروبي ودمشق، فهذا سيتيح لها أن تعرف إلى أي درجة يبدي الأطراف استعدادهم لخفض سقف مطالبهم والقبول بشيء أقل مما يطلبونه في الوقت الحالي. إذ تجد موسكو اليوم نفسها في موقف محرج، فقد كان الأجدر بها أن تحد من النفوذ الممارس على دمشق، في الوقت الذي يرى فيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والقوى الإقليمية بأنها ترفض أن تمارس ضغوطات على الأسد، هكذا بكل بساطة.
وحالياً يبدو أن موسكو تركز على استقطاب الدول العربية، لاسيما الخليجية منها، نحو مشروع إعادة إعمار سوريا، إذ بالرغم من أن العملية معقدة إلى حد ما، إلا أنها شهدت تطورات إيجابية، منها إعادة فتح سفارتي الإمارات والبحرين في دمشق، ومنتدى الأعمال الذي شاركت فيه سوريا والإمارات في أبوظبي، وزيارة علي مملوك أرفع استشاري أمني لدى بشار الأسد للرياض في أواخر عام 2018. إذ إن ذلك أكد رغبة القوى الخليجية في ضمان مصالحها ونفوذها في سوريا. وبالرغم من أن السعودية ماتزال تعارض فكرة المشاركة بشكل علني وصريح في عملية إعادة إعمار سوريا بل حتى في إعادة دمج سوريا ضمن العائلة العربية، إلا أنها تدرك ضرورة الحد من خسائرها وضمان شيء من النفوذ لها في تلك البلاد. وعلاوة على ذلك، تبدي كل من السعودية والإمارات مخاوفهما تجاه تعاظم النفوذين الإيراني والتركي في المنطقة، وترغب كل منهما بإبقاء هذين النفوذين تحت السيطرة في سوريا. وهكذا، وعبر الاستعانة بأدواتهما المالية والمشاركة في عملية إعادة الإعمار، يمكن لهاتين الدولتين ألا تفسحا سوى هامش ضيق لإيران وتركيا في سوريا، وذلك ضمن المجال الاقتصادي.
كما أن رفع العقوبات الأميركية، وخاصة قانون قيصر، عن سوريا يعتبر أحد أهم القضايا التي أثرت بشكل كبير على مشاركة الجميع في عملية إعادة إعمار سوريا، ويشمل ذلك دول الخليج والاتحاد الأوروبي.
هندسة بنية أمنية إقليمية جديدة
منذ عام 2011 بدأت عملية التحول الكبرى في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسير على قدم وساق. ولهذا لابد وأن تلعب القضية السورية وطريقة تسويتها دوراً مهماً في تحديد البنية الأمنية الجديدة للشرق الأوسط والتي بدأت ملامحها تظهر اليوم، وذلك لأن كل العناصر الفاعلة الكبرى الإقليمية والدولية منها، أي تركيا وإيران والعراق والسعودية وروسيا والولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل والأردن ولبنان، كلها تدخلت في السياق السوري بطريقة أو بأخرى. كما أن نتائج الحرب السورية والصراع على النفوذ والسلطة بين العناصر الفاعلة التي تدخلت في هذا الملف سترسم ملامح المنظومة الأمنية التي تشكلت حديثاً في هذه المنطقة. ويتفق الكثير من الباحثين على أن العمليات التي شابها الاضطراب والتشوش والتي نشهدها اليوم في عموم الشرق الأوسط تعتبر خير دليل على قرب ولادة نظام عالمي جديد.
وبالرغم من أن روسيا اختارت تعزيز علاقاتها مع العناصر الفاعلة الإقليمية التي تتمتع بإمكانيات وقدرة أكبر على التأثير في الوضع القائم على الأرض، إلا أن الأساس المنطقي الذي تقوم عليه سياستها الإقليمية يعتمد على تجنب المبالغة في التدخل بشكل فعلي في المنطقة، والذي يترتب عليه كلفة عالية جداً. إذ يرى كثيرون بأن روسيا استعانت بالقوة الخشنة في الغالب الأعم لتحقيق أهدافها في سوريا. إلا أن موسكو بحاجة للخروج بصيغة يمكنها من خلالها تحويل تلك النجاحات إلى عوائد اقتصادية ونفوذ سياسي في كامل المنطقة على المدى البعيد. فإذا تمكنت روسيا من تحقيق النجاح في هذا المضمار، فلابد وأن تضمن لنفسها لعب دور مؤثر في البنية الأمنية الإقليمية التي بدأت تظهر منذ فترة قريبة.
المصدر: المجلس الروسي للشؤون الدولية/ موقع تلفزيون سوريا