عصام شعبان
بعد عشر سنوات من الثورات العربية، ومع اندلاع موجة جديدة من الحراك الشعبي، شملت السودان ولبنان والجزائر والعراق، يعاد طرح أسئلة عديدة، ارتبطت بالحراك، منها الموقف من الثورات، وتحاول كل جهةٍ تعميم وجهة نظرها، والحديث باسم الشعوب، وغالبا ما تحلّ محلها، من دون وجود قياسات رأي، أو استطلاعاتٍ تخرج بمؤشّرات دالة، يمكن الاستناد إليها. وفي هذا الإطار، تأتي أهمية مؤشّر قياس الرأي لعام 2019/2020 (صدر أول أكتوبر/ تشرين الأول عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، والذي يتناول بين مؤشّراته الموقف من الاحتجاجات الشعبية. وقد شمل المؤشّر عينةً ممثلة، قوامها 28 ألف مستجيب من 13 دولة، وقام عليه 900 باحث (نصفهم من النساء)، واستغرق 69 ألف ساعة عمل، واعتمد على المقابلات المباشرة، على خلاف استطلاعاتٍ سابقة، محدودة العدد، وتعتمد على الاتصالات الهاتفية، ما يجعل المؤشّر فرصةً لفهم اتجاهات الرأي العربي، وإنْ كان مفيدا لجمهور الباحثين متنوعي التخصصات، سيما العلوم السياسية والاجتماعية والأنثروبولوجيا، فإنه مفيدٌ، وربما بقدر أكبر، للمنخرطين في المجال العام، فضلا عن شاغلي مواقع اتخاذ القرار، لما يحمله من دلالاتٍ تشكل فرصا وإمكانيات، أو ما يؤشّر على أزمات ومخاطر.
وفي ما يلي قراءة لمواقف الشعوب من الثورات العربية في ضوء مخرجات المؤشّر، مع تحليل لعلاقات الجدل بين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها في القابلية للحراك، وكذلك مستوى متابعة الاحتجاجات الشعبية وتأييدها، وعلاقتها بالمشاركة السياسية.
تقييم الرأي العام للثورات العربية 2011
مثلت اتجاهات الرأي العام نحو الثورة سؤالا مهما للبحث، بل والصراع بين قوى الثورة والثورة المضادّة، والتي ما زالت تصوّر الانتفاضات الشعبية بأنها مؤامرة بين خونة في الداخل ومسيّرين لهم في الخارج، وهدف هذا التعميم إلى طمس الثورة من ذاكرة المنتفضين، وهزّ ثقة المنتفضين وقوى الثورة في أنفسهم وقدرتهم على الفعل والتأثير، وإنْ كان في وسع قوى “الثورة المضادّة” نفي الثورة التي تسميها أحداثا أو مؤامرة أو حروبا حديثة لنفتها، ولكن مجتمع المعرفة الذي أتاحته التكنولوجيا يصعّب مهمتها، وإعادة صياغة التاريخ بسهولة كما عصور سابقة.
أظهر المؤشر خلال تقريره 2019 /2020 أن هناك 58% يقيمون الثورات العربية بشكل إيجابي، مقابل 28% بشكل سلبي، بينما كان المعدل العام خلال 2011 يشير إلى قياس مقارب، قيم 59% الثورات العربية ما بين إيجابية جدا وإيجابية إلى حد ما. أما على مستوى تقييم المستجيبين من مواطني الأقاليم العربية، فكان إقليم وادي النيل الأعلى في تقييمه الإيجابي للثورة 75% (تراوح ما بين إيجابي جدا وإيجابي إلى حد ما) يليه إقليم المغرب العربي، والذي قيم 60% من مواطنيه الثورات بالإيجابية، وهو ما يشير إلى أن تقييمات الإقليمين يتخذ فيها ما يسمّى بالتيار العام المؤيد للثورات والاحتجاجات الشعبية مساحةً كبيرة، وجزء من هذا التأييد يرجع إلى ما شهدته دول الإقليمين من ثورات شعبية ذات مشاركة شعبية كثيفة في كل من مصر والسودان (إقليم وادي النيل) وتونس والجزائر، غير احتجاجات واسعة في المغرب (إقليم المغرب العربي)، ويأخذ في الاعتبار خصائص الإقليمين، من حيث مؤشّرات العدالة والمساواة والظروف الاقتصادية والاجتماعية.
أولوية الأسباب الاقتصادية للثورات والانتفاضات
في ما يخص أسباب انطلاق الثورات، سيطرت أسباب الفساد (31%) والأوضاع الاقتصادية السيئة (16%) على أعلى الدرجات دوافع للثورات، وبلغ مجموعها 47% من إجمالي أسباب الثورة. وإذا أضيفت إليها أهداف إنهاء الظلم وتحقيق العدل والمساواة والكرامة فستصل إلى 60%، ما يعني غلبة قضايا اقتصادية واجتماعية على أسباب الثورة ومطالبها، بجانب أسباب سياسية؛ إنهاء الديكتاتورية (16%)، وتحقيق الديمقراطية (3%) وانتزاع الحريات (6%)، أي أن المطالب السياسية تقارب 25% أسبابا للثورة، وإن كانت تشكل العوامل الاقتصادية والاجتماعية غلبة على أسباب الحراك، فإن الفصل بين المطالب السياسية والاقتصادية غير ممكن، إلا أنه يؤكّد على تراتب أولويات ومطالب تؤثر في الاختيارات والسلوك والوعي السياسي، وتفسّر، في جانب آخر، بعض الظواهر السياسية بعد الثورات، فضلا عن أنها تعطى وزنا نسبيا إلى العوامل الاقتصادية أسبابا مستقبلية للحراك الاحتجاجي، وتؤشّر على احتمالات اندلاع انتفاضات شعبية جديدة، أو تجدّد الحراك في بعض بلدانٍ شهدت حراكا احتجاجيا شعبيا، وهو الاحتمال الذي تكرّر على الأقل في السودان والجزائر والعراق ولبنان منذ 2011 وحتى 2020 بشكل واسع. وفي المغرب والأردن بدرجة أقل، وإن كانت تشير البيانات الاقتصادية بالدولتين إلى احتمالات تجدّد الحراك، وإن كان النظامان يحاولان استيعاب قوى الحراك من خلال آليات المشاركة السياسية، سواء عبر الانتخابات أو المشاركة في تشكيل الحكومات، وبالأخص تجربة المغرب، والتي خلخلت الحراك الذي تصاعد مع 2011 ثم تجدّد، في مراحل لاحقة، في مناطق تتسم بالتهميش وندرة فرص التشغيل.
واقع الثورات العربية ومستقبلها
أوضح المؤشّر أن هناك انقساما حول مآلات الثورة ومستقبلها، رأى نحو 48% أنّها تمر بمرحلة تعثر، إلّا أنّها ستحقق أهدافها في نهاية المطاف، بينما رأت نسبة 30% أن الثورات هزمت وانتهت، وأن الأنظمة السابقة عادت إلى الحكم في بعض بلدانها. ولا يعكس هذا الاتجاه تقييما لحال الثورة وحسب، ولكنه يؤشّر، في جانب منه، إلى قناعة لدى بعضهم أن أهداف الثورة تنتظر التحقق. ويؤشّر هذا، في جانب منه، إلى أن بعض المستطلعة مواقفهم يستشعرون أن هناك قوى اجتماعية وسياسية ستكمل تحقيق أهداف الثورة، متخذة ما يلزم ذلك، بينما من يرى أن الثورات هزمت ربما يكون أكثر إحباطا، وأقل تقديرا لاستعادة قوى اجتماعية وثورية دورها، بعد عشر سنوات بعد اندلاع الانتفاضات العربية، خصوصا في بعض الدول التي شهدت انقسامات وصراعات سياسية حادّة بعد الثورات، كما حدث في تونس ومصر، وإن كانت الصراعات في تونس ما زالت محكومةً بأطر ديمقراطية، بينما مصر فإن أغلب مكوّنات قوى الثورة فيها ما بين الحصار أو العقاب سجنا ونفيا، غير ما لحقها من مشهد تشظٍّ. وبالنظر إلى الأقاليم العربية، يظهر أن إقليم وادي النيل الأكثر تأييدا لمقولة أن الربيع العربي متعثر، إلا أنه سيحقق أهدافه بنسبة 59% بينما يرى 40% من مواطني المشرق العربي أن الثورات انتهت وعادت الأنظمة السابقة إلى الحكم.
الموجة الثانية من ثورات العرب
حظيت الثورتان، السودانية والجزائرية، بتأييد عربي واسع، كشف عنه المؤشّر، أيد ثورة الجزائر 71% من مواطنيها المستجيبين للاستطلاع، وتلا ذلك تأييد واسع لثورة الجزائر من محيطها بدول إقليم المغرب العربي، يؤيدها (62%) من مواطني تونس، (66%) في المغرب. وكانت فلسطين، وبحكم محطات وعلاقات تاريخية تجمعها مع الجزائر، ثالث أكبر شعب مؤيد للثورة (64%)، وجاء السودان الدولة الخامسة بين مواطني الدول الأكثر تأييدا لثورة الجزائر (58%).
بحكم عوامل، منها تزامن الحركة الاحتجاجية في الشوارع في الدولتين، كما كان ملفتا أن يتركز المعارضون لثورة الجزائر في منطقة الخليج بنسب تتراوح ما بين 20% و25% تشمل قطر والكويت والسعودية، وغريب أن يعارض 25% من مواطني الأردن ثورة الجزائر، على الرغم مما يعانيه مواطنوه من ظروف اقتصادية صعبة، غير حدوث احتجاجاتٍ شعبيةٍ متعلقةٍ بالسياسات العامة ومستوى المعيشة في الأردن ليس آخرها مظاهرات المعلمين، وكانت نسب معارضة المواطنين لثورة الجزائر هي الأقل في الجزائر بطبيعة الحال (6%) تليها مصر (8%) ثم لبنان (9%).
إضافة إلى ذلك ملفت أن تكون نسب من رفض الإجابة أو أجاب بخيار (لا أعرف) مرتفعة للغاية، وصلت في السعودية إلى 62% تليها قطر 49%، ثم مصر 47%، الأمر الذي قد يفسّر في إطار تخوّف من تحديد موقفٍ في ظل عدم متابعة جيدة للحراك، أو عدم القدرة على تحديد موقفٍ حاسمٍ نتاج تجارب سابقة من متابعة لثورات الموجة الأولى، وقد يكون تحفظ بعض مواطني الخليج نتاج استقرار أوضاعهم الاقتصادية، وعدم الميل إلى تأييد هذا النمط من الحراك، ويدلّ على ذلك مؤشّر انخفاض التأييد العام في إقليم الخليج لثورتي السودان والجزائر.
دول الحراك مؤشّرات ورؤية مقارنة
كان المعدل العام لتأييد ثورة الجزائر بين المستجيبين بالوطن العربي 49% مقابل 17% يعارضونها، و34% رفضوا الإجابة أو إجابتهم كانت بعبارة لا أعرف. وبالمقارنة بثورة السودان نجد أن نسبة التأييد لها متقاربة، حيث كان المعدل العام 47% مقابل 14% معارضين لها، و39% رفضوا الإجابة أو أجابوا بخيار لا أعرف. ما يعني أن مساحة عدم اليقين واتخاذ موقفٍ من الثورتين واسعة، وربما يرجع جزءٌ منها إلى ضعف متابعة الحراك، أو ضعف التغطية الإعلامية في بعض الدول، غير أن اهتمام المواطنين بالموجة الثانية من الاحتجاجات، قياسا بثورتي مصر وتونس أقلّ، حيث حظيت مصر وتونس، بمتابعة واسعة، فضلا على عقد آمال كبيرة عليهما من حيث تحقيق التغيير.
كان تأييد ثورة السودان بين مواطني الدول العربية مغايرا لترتيب المؤيدين لثورة الجزائر، فأكثر خمس دول يؤيد مواطنوها ثورة السودان هي السودان (81%) ثم الكويت (63%)، وهي الدولة الأكثر تأييدا في إقليم الخليج، وثالث كتلة مؤيدة في فلسطين بنسبة 61% تليها مصر بنسبة 60% ثم موريتانيا بنسبة 51%، وهي أيضا نسبة تأييد مواطني موريتانيا ثورة الجزائر.
وفي ما يخص موقف مواطني الدول التي شهدت انتفاضات وثورات خلال عامي 2019-2020، أوضح المؤشر العربي أن أغلبية السودانيين تؤيد الثورة بنسبة 85%، وهي النسبة الأكبر مقارنة بباقي دول الحراك (السودان، الجزائر، لبنان، العراق)، بينما أيد 82% من العراقيين الاحتجاجات الشعبية في بلدهم، بينما كانت نسبة الجزائريين المؤيدين للحراك في بلدهم 71%. وكان لبنان هو الأقل بين دول الاحتجاج، من حيث تأييد مواطنيه للحراك (67% مؤيدون). ويرجع ذلك، في الغالب، إلى أن الاحتجاجات التي اندلعت ضد الفساد والطائفية تشهد انقساما مرتبطا بالبنية الطائفية ذاتها، وأن الحراك لم يستطع تجاوز تحدّي الطائفية، ليخلق مشهد تأييد واسع، كما في حالة ثورتي السودان والجزائر، بالإضافة إلى أن مكوّنات الحكم في لبنان، والتي تربط مصالح فئات وتيارات سياسية معها مؤثرة في الرأي العام، بحيث يعارض 31% الحراك، وهي النسبة الأكبر لمواطني دول الثورات من معارضي الحراك في بلدانهم بالمقارنة بالنظام العراقي، والذي تأسّس على بنية أسست لطائفية سياسية، كان الدستور مصدرا لها، إلا أن نسبة المؤيدين للحراك أعلى من لبنان، والمعارضين للحراك العراقي أقل، حيث لم تتجاوز 16%، كما أن هناك ثمّة اختلافات بين حراك العراقيين واللبنانيين، منها أن الحراك العراقي جاء بعد موجات احتجاجٍ متكرّرة في عدة مناطق، منها مظاهرات واسعة النطاق منذ 2011 غير أن مستوى التقسيم والتباين السياسي في العراق كان أقل تأثيرا، من حيث تكوين كتلة معارضة للحراك، وكان الشعار الغالب “نريد وطناً”، بينما جزء من حراك لبنان الرافض للطائفية ارتبط أيضا بأسس طائفية. ويعد معارضو الحراك من مواطني السودان (5%) والجزائر (6%) هم الأقل نسبة قياسا بالمواطنين المعارضين للحراك في لبنان (31%) والعراق (16%).
تأييد الثورات ليس شرطا للمشاركة في فاعليتها
كما ليس بالضرورة أن يكون تأييد الحراك مشمولا بالمشاركة فيه، وهذا ما تشير إليه قراءة الفروق بين نسبة المؤيدين والداعمين للحراك ونسبة المشاركين في المشهد الاحتجاجي، أي أننا يمكن أن نستنتج أن المشاركة في الأعمال الاحتجاجية من تظاهراتٍ واعتصاماتٍ وإضراباتٍ ومواجهاتٍ محكومة بعوامل عدة، منها القدرة على المشاركة في أماكن الاحتجاج، وتناسب أشكال الاحتجاج مع جمهور الثورة وقواها الاجتماعية المؤيدة لها، غير نسب الانتماء سياسيا ومدى العلاقة والقرب من شبكات التعبئة للاحتجاج، غير طبيعة مناطق وبؤر الاحتجاج، وما يتعلق بإمكانات المشاركة النشطة جغرافيا وثقافيا وعمريا وديمغرافيا، أي أن تأييد الحراك ليس شرطا وحيدا للمشاركة في فاعلياته، فعلى الرغم من التأييد العام للثورة السودانية، إلا أن هناك 37% هم من شاركوا فعليا في الاحتجاج. وفي العراق شارك 15% من ضمن المستجيبين للاستطلاع، على الرغم من أن الحراك أيده 82% من المواطنين، وهذا لا يلغي بالتأكيد احتمالاتٍ أخرى ترتبط بطبيعة العينة من حيث العمر والانتماء والموقع الجغرافي ونسب الأخطاء المتعارف عليها في مقاييس الرأي العام.
على مستوى آخر، يمكن تفسير انخفاض مستوى المشاركة في الاحتجاج، بالتزامن مع قراءة مؤشرات المشاركة السياسية بالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فضلا عن فاعلية المنتسبين إلى الأحزاب والجمعيات، وهي أحد أطر المشاركة السياسية والاجتماعية، ويمكن تبيّن ذلك من مؤشّرات قياس الرأي العام حول موضوعين أساسين، هما مدى اهتمام المستجيبين بالشؤون السياسية في بلدانهم، ونسبة المنتمين للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. في ما يخص المهتمين بالشأن السياسي، أظهر المؤشر انخفاضا نسبيا كمعدل عام خلال الأعوام من 2011 إلى 2020 فكانت النسبة تتراوح ما بين 12% إلى 15% مهتمين جدا وتراوحت نسبة المهتمين 25% إلى 32%، أي أن مجموع المهتمين بالشأن السياسي أقل من النصف، مع الأخذ في الاعتبار التفاوت ما بين الأقاليم العربية، وكان المعدل العام للمهتمين بالشأن السياسي خلال عام 2020 ما يقارب 42%، مقسمين ما بين مهتم جدا (12%) ومهتم (30%).
المؤشّر الثاني المعبر عن محدودية المشاركة مرتبط بنسب المنتسبين والفاعلين في الأحزاب والجمعيات الأهلية، حيث دلّ المؤشّر على محدودية المنخرطين في منظّمات مدنيّة وأهلية (15%)، غير أن نسب الفاعلين منهم محدودة. وأكبر كتلة من المواطنين المنتسبين إلى مجموعات وهيئات، تنتمي إلى النقابات المهنية والعمالية والزراعية ( 22%)، وإذ ناقشنا علاقة النقابات بالحركات الاحتجاجية، فإن أدوارها متفاوتة في البلدان العربية التي اندلعت فيها الاحتجاجات، ولعبت بعض النقابات دورا محفزا للحراك وكأطر للتعبئة في بعض الدول، إلا أن أغلبها لعب دورا سلبيا بتأييد نظم الاستبداد والسلطوية، ففي مصر والسودان، حشدت نقابات عمالية ومهنية ومنظمات نوعية (شبابية ونسوية) رسمية قوتها لتأييد النظم وكانوا أدوات الثورة المضادة، سواء في فترة اندلاع الحراك أو المرحلة الانتقالية، وفي المغرب هناك انقسام نقابي يقابله انقسام سياسي، وباستثناء الاتحاد العام للشغل في تونس وتجمع المهنيين بالسودان (تنظيم غير رسمي) لم تلعب النقابات المهنية والعمالية دورا ملموسا في دعم الثورة.
وإذ أخذنا في الاعتبار مستوى المشاركة السياسية الضعيف، فإنه يمكن فهم الفارق بين تأييد الثورة والمشاركة فيها، ويعتبر الانتماء السياسي بالوطن العربي هو الاستثناء، على الرغم مما سمحت به الثورات من انفتاح المجال العام، إلا أن ضعف البنى السياسية والنقابية في توسيع أطر حركتها لم يسمح بتحقيق مشاركة تتصف بالحيوية والتوسع، بل انحسرت مع انحصار موجة الثورات، وعادت إلى مستوى أقل. يوضح مؤشر قياس المشاركة السياسية أن غير المنتسبين لتيارات سياسية وفكرية، ولا يرون أن هناك تيارات سياسية تمثلهم، يشكلون (61%). ويمكن هنا ربط المؤشر السابق بمؤشّر قياس نسبة المهتمين بالشأن السياسي، والذي أظهر أن 42% يهتمون بالشأن السياسي من بينهم (12% مهتمون جدا، و30% مهتمون).
وعلى الرغم مما يبدو أنه تناقض بين نسب مرتفعة من المؤيدين للنظام الديمقراطي، بما فيه المشاركة وضمان الحريات السياسية، والمنتمين إلى الأحزاب والتيارات الفكرية السياسية، إلا أن ذلك يرجع، في جانب منه، إلى عجز البنى السياسية عن توظيف إمكانات المواطنين وطاقاتهم في أطر سياسية فاعلة وقوية، واستثمار ميلهم إلى الديمقراطية، ويدل مؤشّر ثقة المواطنين بالأحزاب السياسية على ضعف الأحزاب والمنظومة السياسية عموما. أظهر إقليم المشرق العربي أن 55% من المواطنين لا يثقون بشكل مطلق بالأحزاب والتيارات السياسية، وهي النسبة الأعلى في أقاليم الوطن العربي، بينما كان المعدل العام يشير إلى أن 43% من المستجيبين للمؤشر بالوطن العربي لا يثقون بالأحزاب والتيارات السياسية في بلدانهم على الإطلاق، و24% لا يثقون إلى حدّ ما، بينما الذين يثقون بالأحزاب والتيارات السياسية فكانت نسبتهم 27%، منهم 5% فحسب، لديهم ثقة كبيرة بالتيارات السياسية و22% يثقون إلى حد ما.
الانتماء والمشاركة السياسية في عصر المعرفة
تتّسع محددات المشاركة السياسية عموما، ومن ضمنها طبيعة النظم الحاكمة نفسها، فسلطوية بعض النظم وتأميمها العمل السياسي، واستمرار أطر شكلية من المشاركة المحكومة بقواعد وشروط تعيد إنتاج مكونات العملية السياسية من أحزابٍ تقليدية وقوى حكم سابقة تشكل تحدّيا أمام توسيع المشاركة. وهنا يمكن القول إن هذا العجز والتشوه السياسي، بجانبيه المتعلق بقوى سياسية ونظم سلطوية استبدادية، فرض مساحاتٍ من المشاركة السياسية خارج الأطر الرسمية، أي السياسة من أسفل عبر الحركات الاجتماعية والتنظيمات النوعية، ووظّفت إمكانات التقنية لتلعب الشبكات دورا فاعلا في موضوعين أساسين، الأول متابعة الشأن السياسي، وهنا يظهر المؤشر أن شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية وسيلة المتابعة الرئيسية للأخبار والأحداث السياسية، وتشكل (80%)، كما أنها أداة للتعبير السياسي لدي نسبة بلغت نحو 61% من المستجيبين للاستطلاع. والموضوع الثاني الذي وظفت فيها الشبكات كان ذا طابع تنظيمي وتعبئة بجانب الجانب المعرفي، حيث استخدم هذه الوسائل المحتجون أدوات مساعدة في التنظيم والتعبئة في الاحتجاجات الشعبية من كتل سياسية واجتماعية قائمة فعليا، ولديها أدواتها التنظيمية التقليدية. واستخدمت الكتل السياسية تلك الوسائل خلال بداية الاحتجاجات (في أغلب الدول العربية)، وكانت ساحات الإنترنت أداة للتواصل والتعبئة والتنظيم والنشر والإعلام، خصوصا تطبيقي فيسبوك وواتساب، وهم الغالبان في الاستخدام لدى المستجيبين للمؤشر بنسب تراوحت بين 86% و84%، وهذا يعيدنا إلى فهم العلاقة الحالية بين المنتجين للرسائل السياسية والإعلامية والمستهلكين في مجتمع الوسائط والشبكات، والتي أصبحت فيها الرسائل متبادلةً وتفاعليةً، وتؤثر الشبكات في الإعلام التقليدي (الصحف والتلفزيون)، وتعبر، في الوقت نفسه، عن إمكانات مستقبلية لدمقرطة الواقع السياسي.
وتصدّرت خمس دول عربية في مدى استخدام مواطنيها وسائل التواصل الاجتماعي في التفاعل السياسي بشكل يومي أو شبه يومي، فكان العراق الأول بنسبة 62%، منهم 37% يستخدمونها يوميا، وجاء مواطنو السودان في المرتبة الثانية بنسبة 65%، وموريتانيا بنسبة 58%، وتونس بنسبة 42%. أما إقليميا فكان مواطنو المغرب العربي الأكثر استخدما لوسائل التواصل الاجتماعي من أجل التفاعل السياسي بنسبة وصلت إلى 64%، يليه إقليم وادي النيل بنسبة 47%، يستخدمون وسائل التواصل للتعبير السياسي يوميا أو بشكل شبه يومي، خصوصا في ظل ضعف البنى السياسية أو سلطوية بعض النظم أو غياب بعض الأحزاب والحياة الحزبية في بلاد أخرى، وهو ما يؤكّد إمكانات التعبير السياسي، على الرغم من سلطوية النظم أو ضعف وتشوه البناء السياسي.
وقد استطاع المؤشر العربي من خلال قياس اتجاهات الرأي، في ما يخص ثورات الربيع العربي 2011، أو احتجاجات وثورات كل من العراق والسودان والجزائر ولبنان، تقديم مادة علمية تحتاج قراءات أخرى، بالتزامن مع مؤشرات الانتماء والمشاركة السياسية، ووضع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، فضلا عن مؤشّر الديمقراطية، وإذ أخذ في الاعتبار مؤشرات الوضع الاجتماعي والاقتصادي، فإن صورة اتجاهات الرأي العام العربي تجاه الأوضاع والمهدّدات الداخلية ستكون مهمة ومفيدة للقراءة والتحليل، ليس وحسب من المهتمين والباحثين المتخصصين، لكن أيضا من الفاعلين بالعملية السياسية، على اختلاف انتمائيتهم، بل ومواقعهم، سواء في دوائر السلطة أو قوى إصلاحية وقوى معارضة.
المصدر: العربي الجديد